اقتباس
قبل أن نخوض في تفسير معنى "الآخر" لابد لنا من معرفة حقيقة مهمة خاصة بالمصطلحات الوافدة؛ فهذه المصطلحات تشكلت في الأصل على خلفية ثقافية معينة ترسبت عبر التاريخ، وهذا الأمر يجعل المصطلح الوافد متصفًا على الدوام بالضبابية وعدم الثبات، حيث لا يزال معناه الحقيقي يتعرض لمحاولات التفسير من الثقافات المختلفة عن بيئته، ومن ثم نجد تفسيرات مختلفة ومتباينة لنفس المصطلح بسبب ..
الصراع بين الإسلام وخصومه صراع أبدي ذو طابع متجدد، فما من زمان ولا مكان وُجد فيه الإسلام إلا وُجد فيه خصومه وأعداؤه الرافضون لمنهجه وأفكاره ومبادئه وعقائده، مصداقًا لقول الحق في محكم التنزيل: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا) [البقرة: 217]، وهذا الصراع أخذ صورًا عديدة وأشكالاً مختلفة حسب طبيعة المرحلة، فتارة صراع عسكري، وتارة صراع ثقافي، وتارة صراع اقتصادي، ورابع اجتماعي، فالمستهدف هو الإسلام نفسه.
وآخر تجليات هذا الصراع، تمثل فيما يسمى بحرب المصطلحات، وهو صورة من صور الصراع الثقافي والقيمي بين الحضارتين الإسلامية والغربية خاصة الأوروبية، حيث أخذ الغرب في استخدام مصطلحات خاصة به، لم تعرفها المجتمعات الإسلامية، واستخدامها في شن حرب لا هوادة فيها على الدين الإسلامي ثقافة ومنهجًا وقيمًا ومبادئ واجتماعيًا، على الرغم من كون الإسلام -منهجًا وحضارة- بريئًا من هذه الإدعاءات الكاذبة، ومن أشهر هذه المصطلحات الجديدة مصطلح "الآخر"؛ فقد اتهم المسلمون على لسان أعدائهم ومن لف لفهم من العلمانيين والليبراليين في بلاد الإسلام، باضطهاد "الآخر" وسلبه لحقوقه وهويته وديانته، وأن المجتمعات الإسلامية تمارس أقصى درجات التميز والإقصاء للآخر. فماذا يعني هذا المصطلح؟! وكيف ظهر إلى الوجود؟! وما هي خلفياته التاريخية والثقافية؟! وهل حقًّا نحن أمة تضطهد الآخر؟!
قبل أن نخوض في تفسير معنى "الآخر" لابد لنا من معرفة حقيقة مهمة خاصة بالمصطلحات الوافدة؛ فهذه المصطلحات تشكلت في الأصل على خلفية ثقافية معينة ترسبت عبر التاريخ، وهذا الأمر يجعل المصطلح الوافد متصفًا على الدوام بالضبابية وعدم الثبات، حيث لا يزال معناه الحقيقي يتعرض لمحاولات التفسير من الثقافات المختلفة عن بيئته، ومن ثم نجد تفسيرات مختلفة ومتباينة لنفس المصطلح بسبب هذا الاستيراد، وتندلع النقاشات الحامية حول فهم هذا المصطلح، وذلك كله راجع لكون المصطلح مجملاً وُولد في بيئة مغايرة.
ومصطلح "الآخر" مصطلح أوروبي صرف وُلد في الغرب، وجاء متشبعًا برؤيته وأفكاره ونظرته عن الكون والحياة وسائر المخلوقات، وهذا المصطلح ينطلق من قاعدة "الأنا" و"الآخر" التي كانت ومازالت تسيطر على العقلية الأوروبية، وذلك للتعبير عن المغايرة والاستعلاء، فالغرب يرى نفسه مركز الكون وأصل النقاء وخلاصة الخير والرقي والسمو والفضائل كلها، فيعبر عن نفسه بالأنا، ويجعل العالم بأسره في الخانة المقابلة وهي خانة "الآخر"، فالغرب يجعل نفسه نقطة البداية وأساس الكون وقاعدة التقييم وزاوية الرؤية التي من خلالها يتم الحكم على الأشياء، ومن ثَمَّ نشأت فكرة التموضع حول الذات والتمركز حولها وازدراء الغير والاستعلاء عليهم.
وهذه النظرة الدونية من الغرب إلى سائر العالمين هي في الأصل إرث يهودي قديم تسلل إلى الثقافة الأوروبية منذ قديم الأزل، فيهود جنس شديد التعصب، يحتقر سائر أمم الأرض وشعوبها، ويطلقون عليهم جميعًا بشتى عقائدهم ودياناتهم اسم "الأمميين" تميزًا لشعبهم الذين كانوا يعتقدون أنه شعب الله المختار، وبالتالي فنظرية "الأنا" و"الآخر" الغربية هي نظرية تجمع بين النزعة العرقية المتعصبة والفكرة الدينية المحرفة، لذلك جاءت على أسوأ مثال في الثقافات والأفكار الاجتماعية.
التاريخ الغربي عامة والأوروبي خاصة زاخر بما لا يحصى من المشاهد والمواقف السلبية تجاه الآخر، وآراء فلاسفة أوروبا ومثقفيها عن "الآخر" تتحرك في مسافة بينية طويلة شديدة السلبية، تبدأ بوصفه بالغريب كما قال أرسطو، مرورًا بالشخص غير الطبيعي، أو العدو، أو أعوان الشيطان، أو معدن الشرور، أو الجحيم كما قال الأديب الإنجليزي "إدوار ألبي"، بل إن النظرة الدونية للآخر عند الأوروبيين دفعت مفكرًا بوزن "مونتسيكو" وما له من تأثير في الثقافة الغربية لأن يسخر من الزنوج الأفارقة ويصفهم بأنهم كائنات بلا روح، وأدنى من الحيوانات.
أما أسوأ تداعيات هذه النظرة الدونية للآخر فقد تجلت في حركة الفتوحات البحرية التي قادتها الدول الأوروبية في أوائل القرن السادس عشر ميلادي؛ حيث قامت إنجلترا وفرنسا والبرتغال وهولندا وإسبانيا باحتلال الكثير من البقاع الساحلية في العالم بغية السيطرة على حركة المواصلات العالمية ومحاصرة الدولة العثمانية العلية، وفي هذه الحركة تجلت كل معاني القبح والاستعلاء الأوروبي للآخر، ومن خلال أيديولوجية "الأنا" جرى تحطيم "الآخر" واستعباده واستحلال دمه وماله وعرضه وأرضه، وتم إبادة جنسيات وعرقيات بأكملها مثلما حدث مع الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، ومن خلال هذه النظرة أيضًا شن الألمان بقيادة "هتلر" حربًا لا هوادة فيها بحجة تفوق الجنس الآري على غيره من الأجناس، والعجيب أن الغرب قد حاول أن يضفي على هذه النظرة الاستعلائية للذات والدونية للغير الطابع العلمي، بابتداع نظريات ودراسات تؤكد تفوق الجنس الأبيض الأوروبي أو العرقية الأنجلوساكسونية، مثل نظريات "بلومباج" و"إفيريت".
والموروث الثقافي الاستعلائي من الغرب تجاه الآخر وخاصة الشرقي منه مازال يتحكم في عقلية الساسة والمفكرين والقادة الأوروبيين، وتصريحاتهم الفجة السافرة قبيل الحملة الصليبية العالمية الأخيرة على العراق وأفغانستان دليل واضح على هذه العقليات السقيمة، فرئيس الوزراء الإيطالي الشهير بفضائحه الجنسية "بيرلسكوني" يصف الحضارة الإسلامية بكل غطرسة وزهو، بأنها حضارة متخلفة وهمجية ووحشية، في حين أن الحضارة الأوروبية المسيحية واليهودية أرقى وأكثر سموًّا وتسامحًا، والرئيس الأمريكي بوش الصغير يصف الحملة على أفغانستان بالحرب الصليبية الجديدة لإنقاذ العالم من البربرية والإرهاب.
وفي المقابل فإن الإسلام -دينًا وحضارة وثقافة ومجتمعًا- لم يعرف هذه الإثنية البغيضة، والتراث الإسلامي لم يعرف في الأساس هذا المصطلح العنصري المقيت، أعني مصطلح "الآخر"، وهذا ليس نفيًا له وتجاهلاً له، ولكن لأن العقلية الإسلامية التي تشكلت من خلال الدين والعقيدة والتجربة لا تعرف تعظيم الذات والزهو الكاذب والغطرسة العرقية المقيتة، فمصطلح "الأنا" لم يعرفه المسلمون أصلاً، لذلك فهم بالتبعية لم يعرفوا مصطلح "الآخر"، والإسلام له قيمه ومنهجه وتصوره الخاص به عن الكون والخلق، وخاصة عن الإنسان ومكانته في منظومة الكون.
فالإسلام يرى أن الله -عز وجل- قد كرّم الإنسان وفضّله على كثير ممن خلق تفضيلاً، ومظاهر هذا التكريم كثيرة، منها: أن جميع البشر خلقوا من أب واحد وأم واحدة، فنسبهم في النهاية يلتقي في آدم وحواء، فالأبيض والأحمر والأصفر والأسود كلهم في النهاية لأب وأم واحدة، أيضًا خلق الله -عز وجل- الإنسان في أحسن تقويم، مهما كان لونه أو شكله فهو في النهاية بدر التمام في الخلق من بين المخلوقات جميعًا.
ومنها أيضًا أن الله أمر الملائكة بالسجود إليه وعلّمه الأسماء كلها، وجعله خليفة في الأرض، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعًا، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.
ومنها أيضًا إرسال الرسل والأنبياء لهداية البشر وإرشادهم إن حادوا عن التوحيد والاستقامة، ومنها أنه لم يجعل فضلاً لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود أو أحمر إلا بالتقوى والعمل الصالح.
فالاختلاف في الإسلام فلا ينبع من عنصرية مقيتة، أو استعلاء كاذب، أو قومية ضيقة، الاختلاف في الإسلام نظمه الشارع الكريم ليكون مرتبطًا بأسباب بشرية من صنع البشر، فعلوها بأنفسهم واختاروها بمحض إرادتهم، واكتسبوها عمدًا بلا قهر ولا كره، فمثلاً مصطلح "أهل الذمة" يدل على اليهود والنصارى أهل الكتاب داخل المجتمعات الإسلامية بغض النظر عن لونهم أو قوميتهم أو عرقيتهم، وكذلك مصطلح "أهل البدع والأهواء" ومصطلح "الخوارج" ومصطلح "المحاربون"، كلها مصطلحات تشير إلى المخالفة إما في أصل الدين أو في بعض مسائل الدين أو العقيدة، وهؤلاء جميعًا لهم حقوق وعليهم واجبات كفلها وحددها الشارع الحكيم، بحيث لا تترك مسألة التعامل معهم للأهواء والرغبات، والشريعة الإسلامية زاخرة بالنصوص القاطعة في تنظيم العلاقات بين المسلمين وغيرهم داخل المجتمعات الإسلامية، بصورة لا نجد لها نظيرًا قط في أي دستور من دساتير العالم الغربي قديمًا وحديثًا، وأما أهل البدع والأهواء فلهم أيضًا في الشريعة الحقوق التي حددها الشارع وعليهم الواجبات التي تصان بها جوهر العقيدة وصفو الدين من أكدار المبتدعين.
ومن أكبر الدلائل على التفاوت الكبير بين النظرة الغربية المنحطة للآخر، والنظرة السوية الصحيحة في الإسلام له، الوقائع والأحداث التاريخية، فنجد الغرب كان ومازال وسيظل يتعامل مع الآخر بمنتهي الاستعلاء والكراهية، وقرون التعصب الأوروبي ضد الآخر ما زالت شاهدة على مدى بربرية ووحشية الأوروبي المتحضر، فيكفي أن نعرف أن الحملات الصليبية الوحشية على العالم الإسلامي في القرون الوسطي استمرت مائتي سنة من الدم والسفك والنهب والخراب، راح ضحيتها عدة ملايين، ويكفي أن نعرف أن أوروبا وأمريكا قد قتلت واسترقت عشرين مليون إفريقي في الحملات الصليبية التي أطلق عليها زورًا بالحملات الاستعمارية في القرنين الثامن والتاسع عشر، قتلت منهم فرنسا وحدها أزيد من اثني عشر مليونًا، فرنسا التي يطلق عليها بلد الحرية والنور والمدنية، والحروب العالمية التي اندلعت في القرن العشرين، اندلعت على يد الأوروبي المتحضر وراح ضحيتها أكثر من ثلاثين مليون إنسان، وكل هذه الحروب كانت باسم "الأنا" ورغبة في إبادة "الآخر".
أما التاريخ الإسلامي فشهد إنصافًا للآخر في كل المجالات وعلى شتى المستويات، وتاريخ الأندلس وتاريخ الدولة العثمانية شاهد حي مليء بالنماذج للوزراء والأدباء والكتبة والأطباء، بل والقادة العسكريين من "الآخر" أو أهل الكتاب أو أهل الذمة، فلم يقصِ أحدًا لكونه مختلفًا عن المسلمين، بل الجميع يعمل تحت مظلة الشرع، التي وسعت الجميع، ونظمت بينهم العلاقات وحددت لهم المسؤوليات والواجبات، وإنَّ نظرة فيها أدنى إنصاف لتعامل المسلمين مع "الآخر" في البلاد التي فتحوها، ولِمَا فعله الأوروبيون من خلال حملاتهم الصليبيَّة، وخلال المأساة التي يندى لها جبين البشرية عند هزيمة المسلمين في الأندلس، لتدلُّ على أن المسلمين كانوا دومًا أهل عدلٍ وإنصاف، وأن الغربيين والأوروبيين في هذه العصور ما تعاملوا قط بشيءٍ من العدالة واحترام الآخرين عقديًّا وفكريًّا.
وما نحن والغرب في التعامل مع "الآخر" إلا كما قال الشاعر الشهير "الحيص بيص":
ملكنا فكان العفو منا سجية *** فلما ملكـتم سـال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأسارى وطالما *** غدونا على الأسرى نعف ونصفح
فحسبكم هذا التفاوت بيننا *** وكل إنـاء بالـذي فيه ينضـح
التعليقات