عناصر الخطبة
1/ غفلة الكثيرين عن الآخرة وانكبابهم على الدنيا 2/ الغفلة نزيف العمر 3/ نتائج وثمرات قصر الأمل والمبادرة إلى العمل 4/ أسباب تأخير الأعمال الصالحة 5/ قسوة القلب بكثرة المعاصي والذنوب 6/ أهوال العرض على الله يوم القيامة.اهداف الخطبة
اقتباس
فتفكر في الخلائق وذلهم، وانكسارهم واستكانتهم انتظارًا ما يُقضى عليهم من سعادة أو شقاوة وأنت فيما بينهم منكسرًا كانكسارهم، متحيرًا كتحيرهم، فكيف يكون حالك وحال قلبك هناك، وقد بُدلت الأرض غير الأرض والسماوات، وطُمس الشمس والقمر وأظلمت الأرض، واشتبك الناس وهم حفاة عراة مشاة، وازدحموا في موقف شاخصة أبصارهم منفطرة قلوبهم، فتأمل يا مسكين في طول هذا اليوم وشدة الانتظار فيه والخذلة والحياء من الافتضاح عند العرض على الجبار وأنت عارٍ مكشوف ذليل متحير مبهوت منتظر لما يجري عليك القضاء بالسعادة أو الشقوة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: إن قوارع الأيام خاطبة، فهل أذن لعظاتها واعية، وإن فجائع الموت صائبة، فهل نفس لأمر الآخرة مراعية، وإن مطامع الآمال كاذبة فهل همّة إلى التنزه منها داعية، وإن قوارع الآجال واجبة، فهل قدم إلى التردد للخيرات ساعية، ألا فاسرحوا بثواقب الأسماع والأبصار في نواحي الجهات والأقطار، فما ترون في جموعكم إلا الشتات أو تسمعون في ربوعكم إلا فلان مات.
أين الآباء الأكابر والأطفال الأصغار، وأين المعين والمناصر، وأين الصاحب المعاشر.. عثرت –والله- بهم العواثر، وأبدتهم السنون الغوابر، وبطرت أعمارهم الحادثات البواتر، واختطفهم عقبات كواسر.
وخلت منهم المشاهد والمحاضر، وعدمت من أجسادهم تلك الجواهر وطفئت من وجوههم الأنوار الزواهر، وابتلعتهم الحفر والمقابر إلى يوم تبلى السرائر، فلو كشفت عنهم أغطية الأجداث بعد ليلتين أو ثلاث ليال؛ لرأيت الأحداق على الخدود سائلة، والأوصال بعضها عن بعض مائلة، وديدان الأرض في نواعم تلك الأبدان جائلة، فرحم الله امرئ بادر بالإقلاع عن السيئات، وواصل الإسراع في الخيرات قبل انقطاع مدد الأوقات وطي الصحائف المستودعات، ونشر فضائح الاقتراف والجنايات، فلا تغتر بحياة تقود إلى الممات فورب السماء والأرض إن ما توعدون لآتٍ.
أيها الأحباب: من استمع لخطوب الأيام، غني عن خطب الأنام، ومن ارتدع عن ركوب الآثام، رقي أعلى درجات الكرام، ومن قدح بصيرته بزناد الاعتبار أنارت له ظلم العواقب بمصابيح الاستبصار.
فأمسكوا -رحمكم الله- جوامح النفوس عن طلق الآمال، وسرحوا قلوبكم في طرق المآل، واقمعوا طوامح الأهواء بذكر أمر الكؤوس، وذكر رحمة الموت المذل لكل عزيز المطل على كل حريز (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) [النساء: 78].
فكأنكم به وقد اختلفت فيكم صوارمه، ونزلت عليكم قواصمه، فشخصت لإيقاعه الْمُقَل، وقلت لدفعه الحِيَل، وأسلمت الأجسام أرواحها، وعدمت الأجساد صلاحها، فأرفدت حينئذ من نعمكم وأموالك وقلدكم قلائد أعمالكم، وزودتم من الدنيا أكفانًا ووفدتم على الله وحدانا (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ) [الأنعام: 94].
ووجدتم لديه الإسرار إعلانًا والأخبار أعيانًا، فيا أيها الغَفَلة المقصرون وكلنا ذلك الرجل، بماذا إلى الملك الديان غدًا تعتذرون؟ أم ماذا له تقولون؟ إذا قالوا وقفوهم إنهم مسئولون؟!
أأعددتم لسؤاله جوابًا شافيًا؟ أو وجدتم من نكاله حجابًا وافيًا؟ هيهات هيهات، أفحم والله عن الجواب لسان المجيب، وتكلم على الأفئدة إعلان وجيب، وشهدت الجوارح بمذكور الرقيب، وارتعدت الفرائس لهول اليوم العصيب، وحصل أهل الإعراض على مواصلة العويل والنحيب، (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) [سبأ: 54].
أحبابي: من كان الموت طالبه كيف يلذ قرارًا، ومن كان الدهر يجاريه، فكيف يطيق انتظارًا، ومن كان مراده الأمل كانت مطيته عثارًا، ومن كان راحلاً إلى الآخرة كيف يتخذ الدنيا دارًا (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر:39].
إن هي إلا غفلة وأمنية عاجلة وساجية عادلة جرى بها القلم، ومضى عليها سالف الأمم، فيا فرائس الأحداث، ويا غرائس الأجداث، ويا مشاريع الأموات، لقد صعق الموت في دياركم فنعب وصدقكم صرف الزمان فما كذب، ووعظكم بمن ذهب وأراكم من تقلبه العجب، فكأن قد أعاد عليكم الكرة، ونقص منكم المسرة، وانتهز فيكم الغرة فما أقالكم العثرة.
فبادروا رحمكم الله وأنتم في مكان الإمكان وفسحة الزمان قبل ضيق الأوطان وتقلص اللسان واصفرار الوجه لنزول الحدثان.
قبل نزول الفاقرة، وقدوم الآخرة، والوقوف بأرض الساهرة، فكم يومئذ عباد الله من وجوه مرتدة وأعناق ممتدة وصحائف مسودة قد لاقت الخلائق الرجفات، وغشيهم الدخان، وشاب من هول الموقف الولدان، وتجلى للحكم والفصل الملك الديان، وأزلفت للأولياء الجنان، وبرزت لأعداء الله النيران، فما ظنكم عباد الله بيوم بضائعه الأعمال وشهوبه الأوصال وسجله النار وحاكمه الجبار.
إن ذلك ليوم لا يعذر فيه من ندم ولا عاصم فيه من أمر الله إلا من رحم، فتزودوا للرحيل فقد دنت الآجال، واجتهدوا للتحول فقد أزف الارتحال، ومهدوا لأنفسكم صالح الأعمال، فإن الدنيا قد أزمعت الفراق، وإن الآخرة قد أشرقت لتلاق فتزودوا من دار المحال لدار المآل، واستشعروا التقوى في الأقوال والأفعال، واحذروا التفاخر والتكاثر في الدنيا بجمع الحطام واكتساب الآثام واغترار الأمل بطول الليالي والأيام فوراءكم المقابر ذات الوحشة والهموم والكربات، وتضايق الأنفاس والأهوال المفظعات (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [التكاثر: 3- 4].
إذا نوديتم من الأجداث وقمتم مهطعين، وأجبتم الداعي مسرعين، وتعلق المظلومون بالظالمين، ووقفت بين يدي رب العالمين وعرضتم على أسرع الحاسبين وكشفت العظائم الصغير منها والكبير والنقير والقطمير، فكيف يكون الحال والسائل الله: عبدي ألم أعطك، ألم أزوجك، ألم أسودك، فلماذا عصيتني وبالحرب بارزتني؟! فأي ساق ستحملك؟! وأي أرض ستقلك؟! وأي سماء ستظلك؟! وأنت بين يدي من يعلم السر وأخفى (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) [التكاثر:5].
إذا حل بكم كرب المقام، واشتد بالخلق في ذلك الموقف الزحام، وأخذوا هنالك بالنواصي والأقدام (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) رأي العين إذا جيء بها بأزمتها تقاد والخزنة حولها ملائكة غلاظ شداد وينادي عند ذلك الجبار العزيز الحميد فيقول هل امتلأت وتقول من مزيد (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) [التكاثر:7].
إذا مُدّ الصراط واختبرت الأعمال وسُئلتم عن شرب الزلال وبارد الظلال، وعن قيل وقال، وعن اكتساب المال أمن حرام أم من حلال؟ وسُئلتم عن الربا وقد أخبرتم من قبل أنها على الله ورسوله حرب بلا سيف ولا نصال (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) [يونس:30].
فاستقصروا -رحمكم الله- من الغفلة واستغلوا زمن المهلة قبل فجأة النقلة (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر:56].
فاستعدوا قبل المغادرة قبل أن ترحلوا إلى الآخرة، وتلتحقوا بالراكبين من الأموات في تلكم السفينة الماخرة.
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى وأخلص لله عمله سرًّا وجهرًا، آمين آمين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على كل حال، وفي كل حال والحمد لله حمدًا يستدعي مزيد الإفضال حمدًا يليق بجماله، وبما له من العظمة والجلال وحمدًا يصعد مع الكلم الطيب ويرفع في عليين صالح الأعمال، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم سلسلة الإرسال، اللهم فصلّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وتابعيهم في كل حال.
معاشر الصالحين: ليس الأسف على دنيا آخرها الفوت والخراب، ولا على أموالٍ نهايتها التحول والانقلاب، ولا على حطام حلاله حساب وحرامه عقاب، ولا على أعمال يتمنى المرء طولها، فإذا طالت مُلت، ولا على أماكن كلما امتلأت بأهلها أقفرت عنهم وتخلت، إنما الأسف على ليالٍ تنقضي على فرش الغَفَلات، وعلى أيامٍ تمضي في اتباع الشهوات، وعلى أوقات تنطوي على عثرات وهفوات، وعلى أنفاس لا قيمة لها تذهب ثم لا ترجع وعلى نفوس يناديها لسان الشتات وهي لا تقلع.
أحبابي: روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أكيس الناس –يعني أكثرهم ذكاء- أكثرهم ذكرًا للموت، وأشدهم استعدادًا له، أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة".
وقال مطرف بن عبد الله: "إن هذا الموت قد نغّص على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيم لا موت فيه"؟
إن المنهمك في الدنيا الْمُكِبّ على غرورها، المحب لشهواتها يغفل قلبه لا محالة عن ذكر الموت فلا يذكره، وإذا ذكر به كرهه، ونفر منه أولئك هم الذين قال الله فيهم: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة:8].
وعلى الإنسان أن يربي نفسه على فضيلة قصر الأمل، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمر: "إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من حياتك لموتك ومن صحتك لسقمك".
وإن من نتائج وثمرات قصر الأمل: المبادرة إلى العمل، والحذر من آفة التأخير، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" أي لا يغتنمهما ثم لا يعرف قدرهما إلا عند زوالهما.
وكان سيدنا الحسن البصري -رحمه الله-: "المبادرة المبادرةَ؛ فإنما هي الأنفاس لو حُبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله -عز وجل-".
رحم الله امرأً نظر إلى نفسه، وبكى على عدد ذنوبه، ثم قرأ هذه الآية (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) يعني عدد الأنفاس، آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخولك في قبرك.
وسبب تأخير الأعمال الصالحة -أيها الكرام- هو الأنس في الدنيا وشهواتها والتسويف "سوف أفعل سوف أفعل"، وما أهلك الإنسان إلا التسويف، فلا يزال يسوّف ويسوّف ويؤخر، ولا يخوض في شغل إلا ويتعلق بهذا الشغل عشرة أشغال أخرى، وهكذا على التدرج، يؤخر يومًا بعد يوم، ويفضي به شغل إلى شغل، بل إلى أشغال، إلى أن تخطفه المنية في وقت لا يحتسبه ولا يتوقعه، فتكون عند ذلك حسرته، وما أكثر صياح أهل النار من سوف يقول: واحزناه على سوف.
والذي يدعو المسوّف المسكين إلى التسويف اليوم هو معه غدًا، وإنما يزداد بطول المدة قوة فما قضى أحد منها لبانتها ولا انتهى أرب إلا إلى أرب.
اعلم -رعاك الله- أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها لكان جديرًا بأن يتنغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سرور ويشاركه سهوه وغفلته، وحقيقًا بأن يتوه فيه فكره ويعظم فيه استعداده لاسيما وفي كل نفس بصدده ومعرض لنزوله كما قال بعض الحكماء "الكرب بيد سواك لا تدري متى يغشاك".
قال ثابت البناني: "كنا نشهد الجنائز فلا نرى إلا متقنعاً باكياً"، والآن ننظر إلى الكثير من الناس يحضرون جنازة فتراهم يضحكون ويلهون، ولا يتكلمون إلا في ميراثه، وما خلّفه لورثته، ولا سبب لهذه الغفلة إلا قسوة القلب بكثرة المعاصي والذنوب، حتى نسينا الله واليوم الآخر والأهوال التي بين أيدينا، فسرنا نلهو ونغفل ونشتغل بما لا يعنينا وأعظم من ذلك وأشد يوم الخروج قال تعالى: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) [ق: 41- 42].
فمثّل نفسك وقد بُعثت من قبرك مبهوتًا من شدة الصعقة، شاخص العين نحو النداء، وقد ثار الخلق ثورة واحدة من القبور التي طال فيها بلاهم، وقد أزعجهم الرعب (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ) [الزمر:68].
فتفكر في الخلائق وذلهم، وانكسارهم واستكانتهم انتظارًا ما يُقضى عليهم من سعادة أو شقاوة وأنت فيما بينهم منكسرًا كانكسارهم، متحيرًا كتحيرهم، فكيف يكون حالك وحال قلبك هناك، وقد بُدلت الأرض غير الأرض والسماوات، وطُمس الشمس والقمر وأظلمت الأرض، واشتبك الناس وهم حفاة عراة مشاة، وازدحموا في موقف شاخصة أبصارهم منفطرة قلوبهم، فتأمل يا مسكين في طول هذا اليوم وشدة الانتظار فيه والخذلة والحياء من الافتضاح عند العرض على الجبار وأنت عارٍ مكشوف ذليل متحير مبهوت منتظر لما يجري عليك القضاء بالسعادة أو الشقوة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1- 2].
يوم ترى السماء فيه قد انفطرت والكواكب من هوله قد انتثرت، والنجوم الزواهر قد انكدرت، والشمس قد كورت والجبال قد سُيّرت، والعشار قد عطلت، والوحوش قد حشرت، والبحار قد سجرت، والنفوس قد زُوّجت، والجحيم قد سُعرت والجنة قد أزلفت.
ثم تفكر يا مسكين بعد هذه الأحوال فيما يتوجه إليك من السؤال شفاهًا من غير ترجمان، فبين أنت في كرب القيامة وعرقها وشدة عظائمها؛ إذ نزلت ملائكة من أرجاء السماء إلى موقف العرض على الجبار، فيقومون صفّا صفًّا محدقين بالخلائق من الجوانب وينادون واحدًا بعد واحد للعرض على الله، فعند ذلك ترتعد الفرائص، وتضطرب الجوارح، وتبهت العقول، ويتمنى أقوام أن يذهب بهم إلى النار ولا تعرض قبائحهم على الجبار ولا يكشف سترهم ولا سرهم على ملأ الخلائق، وقبل الابتداء بالسؤال يظهر نور العرش (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الزمر:69].
فيبدأ الله بالأنبياء (يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا) [المائدة:109]، فيا لشدة يوم تذهل فيه العقول الأنبياء من شدة الهيبة ثم يؤخذ واحدا واحدًا فيسأله الله شفاهًا عن قليل عمله وكثيره، وعن سره وعلانيته، وعن جميع جوارحه وأعضائه، فإن أنكرت شهدت عليك جوارحك، وأنت بقلب خائف خافق وطرف خاشع، وأعطيت كتابك الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فكم من فاحشة نسيتها فتذكرتها وفي الكتاب وجدتها، فيا ليت شعري بأيّ قدم تقف بين يديه وبأي لسان تجيب، وبأي قلب تعقل ما تقول، فيا له من موقف ما أعظمه ويا له من كرب ما أشده فانهض يا مغرور من غفلتك وأفق يا غافل من سكرتك ونطرح على باب ربك منيبًا داعيًا ذاكرًا مستغفرًا خاضعًا مستكينًا، وأصلح ما بينك وبين الله من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله.
اللهم أصلح أحوالنا..
التعليقات
زائر
25-12-2020جزاكم الله خيرا
زائر
07-10-2021رائعة جداً ومبكية