عناصر الخطبة
1/عبرة وتذكرة من حر الصيف اللافح 2/التيسير على المسلمين بتقصير الخطبة وتخفيف الصلاة 3/المسلم العاقل يستفيد من الإجازة الصيفية 4/الوصية بحفظ الوقت واغتنامه 5/التحذير من الإسراف والتبذير في المناسبات الاجتماعية 6/فلسطين والمسجد الأقصى قضية الأمة الكبرىاقتباس
اللهَ اللهَ في رعاية الضوابط والآداب الشرعيَّة في هذه المناسَبات؛ مِنَ الاقتصادِ والترشيدِ، وحُسْنِ الطاعةِ، والبُعدِ عن الإسراف والتبذير والبذخ وسائر المعاصي، والجِدِّ في معالَجة ظواهر العنوسة، وغلاء المهور، ونحوِها ممَّا يتعلَّق بمناسَبات الأفراح، وعدم التباهي بنشرها في مواقع التواصُل الاجتماعيّ...
الاتعاظ بانقضاء الأيام والحث على اغتنامها
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، الحمد لله، خير ما افتتح به القول واختتم، أحمده -سبحانه- حمدًا يستنزل الرحمات، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، من على هذه الأمة ببعثة خير البريات، وجعل التمسك بسنته عصمة من الفتن والبليات، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، كريم الخصال، شريف السجايا، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، وأشرف التحايا، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: خير ما يُوصَى به، تقوى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فاتَّقوه -رحمكم الله-؛ فتقواه -سبحانه- خيرُ الزّادِ، وأعظمُ المتاعِ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18].
رَأَيْتُ المجْدَ في التَّقْوَى جَلِيًّا *** وَفِيهَا العِزُّ في دَارِ النُّشُـورِ
فَنِعْمَ الزَّادُ تَقْوى اللهِ زَادًا *** وَنِعْمَ الذُّخْرُ في اليومِ العَسِيرِ
مَعاشِرَ المؤمنينَ: إنَّ في تتابُع الفصول والمواسم لَمُدَّكَرًا، وتعاقُب الأيام والليالي الحواسم لَمُعْتَبَرًا، وفي هذه الآونة يَتَبَدَّى لنا حَرُورٌ من الصَّيْفِ النَّافِحِ، وتهبُّ علينا رياحُه اللَّوَافِحُ؛ إذ الآمالُ إلى استِثمارِه مُشْرَئِبَّةٌ رَانِيَةٌ، والآماقُ إلى اهتِبَالِه متطلعةٌ حانيةٌ، كيف وقد نشَر علينا مطارفَه، ونَسَخَ للظِّلِّ وارفَهُ، ونَثَرَ في الدُّنا السَّمُومَ، وبسَط بشمسِه قيْظَه الهَجُومَ، ممَّا يَحمِل على الادِّكار، ويَبعَث على الاعتبار، ويُذَكِّر بِحَرِّ النارِ، والعمل على أخذ أسباب الوقاية منها، في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اشتكتِ النارُ إلى ربِّها، فقالت: يا رَبِّ، أكَلَ بعضي بعضًا، فأذِنَ لها بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ في الشتاء، ونَفَسٍ في الصيفِ، فأشدُّ ما تَجِدُونَ من الحَرِّ من سَمُومِ جهنَّمَ، وأشدُّ ما تَجِدُونَ من البردِ من زمهريرِ جهنَّمَ"، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اشتد الحَرُّ فأبرِدُوا بالصلاة، فإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ من فَيحِ جهنَّمَ".
قال الإمامُ الحسنُ البصريُّ -رحمه الله-: "كلُّ بَرْدٍ أهلَك شيئًا فهو مِنْ نَفَسِ جهنمَ، وكلُّ حَرٍّ أهلَك شيئًا فهو مِنْ نَفَسِ جهنمَ"، وقال الإمامُ ابنُ رجبٍ -رحمه الله-: "وينبغي لِمَنْ كان في حَرِّ الشمسِ أن يتذكَّر حرَّها في الموقف؛ فإنَّ الشمسَ تدنو من رؤوس العباد يومَ القيامة، ويُزاد في حَرِّها، وينبغي لِمَنْ لا يَصبِرُ على حرِّ الشمسِ في الدنيا أَنْ يجتنبَ من الأعمال ما يَستوجِبُ صاحبُه به دخولَ النار، فإنَّه لا قوةَ لأحدٍ عليها ولا صبرَ".
نَسِيتَ لَظًى، عند ارتكابكَ للهوى *** وأنتَ توقَّى حرَّ شمسِ الهواجرِ
كأنكَ لم تَدفِنْ حميـمًا ولـم تكن *** له في سياقِ الموتِ يومًا بِحَاضِرِ
رأى أميرُ المؤمنين عمرُ بنُ عبد العزيز -رحمه الله- قومًا في جنازة، قد هَرَبُوا من الشمس إلى الظِّلِّ، وتوقَّوُا الغبارَ، فبكى، ثم قال:
مَنْ كان حينَ تُصِيبُ الشمسُ جبهتَه *** أو الغبارُ، يخافُ الشَّـينَ والشَّعَثَا
تَجَهَّـِزي بِجَهـازٍ تَبْلُغِـينَ بـه *** يا نفسُ قبلَ الرَّدى لم تُخلَقِي عَبَثَا
أيها المسلمون: وإنَّ مما يُحمَد لولاة الأمر في بلادنا -حرَسَها اللهُ- التوجيه الكريم بتقصير الخطبة، وتخفيف الصلاة في الحرمين الشريفين؛ فقد جاء مراعيًا لمقاصدِ الشريعةِ في التيسيرِ ورفعِ الحرجِ، وحِرْصًا على صحةِ وسلامةِ المُصَلِّينَ والمعتمرينَ من حرارة الصيف اللاهب، ولِتُؤكِّد أنَّ الإنسانَ أولًا، فجَزى اللهُ ولاةَ أمرنا خيرَ الجزاء وأوفاه، على ما قَدَّمُوا للحرمينِ الشريفينِ وقاصِدِيهما، من الحُجَّاج والمعتمرينَ والزائرينَ.
معاشرَ المسلمينَ: الصيفُ يَحمِل في أندائِه إجازةً صيفيةً، وهَدْأةً نَفْسِيَّةً، إثرَ شواغلِ الحياةِ، وكلالِ المسؤولياتِ والمهماتِ؛ حيث يَسترِيحُ في مجاليها اللاغبُ والمحرورُ، ويمتحُ المكدودُ من فُسْحَتِها بَرْدَ الهدأةِ والسرورِ، ورَوْحَ الراحةِ الموفورَ، في سفر مباح، أو اصطياف بريء، فيَا بُشْرَى لِمَن عَمَرَها بالبُرور والطاعات ووشَّاها، ويا سُعْدى لِمَن دَبَّجَها بِخَيْرِ الخَيْرِ وغَشَّاها!!
تَفِيْضُ العُيونُ بِالدُّمُوعِ السَّواكِبِ *** ومَا ليَ لا أَبْكِي عَلَى خَيْرِ ذَاهِبِ
عَلَى أَنْفَسِ السَّاعَاتِ لَمَّا أَضَعْتُها *** وقَضَّيْتُها في غَفْلَةٍ وَمَعَاطِـبِ
قال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله-: "يَنْبغي للإنسان أن يَعْرِف شَرَفَ زمانِه، وقَدْرَ وقتِه، فلا يُضَيِّعُ منه لحظةً في غَيْرِ قُرْبَةٍ".
والوقتُ أَنْفَسُ ما عُنِيتَ بحفظِه *** وأراهُ أسهلَ ما عليك يَضِيعُ
فأنَّى لعاقل -يا عباد الله- يُبدِّد الوقتَ الشريفَ متعطِّلًا، ويُمزِّق الزمنَ النفيسَ متبطِّلًا، فذاك الذي أضاع الفُرَصَ، فباء بالغُصَص، واستلزَم المقتَ والنغصَ.
فيا مَنْ هُمْ في منفسح الفراغ: ألا من ضنين بأوقاته وساعاته، ألا من معتَبَر بفوات شهوره وسنواته، ألا من مدكر بمرور أيامه ولحظاته؟!
مرَّتْ سُنُون بالسعادةِ والهنا *** فكأنها مِنْ حُسنِها أيامُ
ثُمَّ انْقَضَتْ تلك السُّنُونَ وأهْلُهَا *** فكأنَّهـا وكأنَّهُـمْ أحْـلَامُ
يشهد لذلك أكملُ الهديِ، هَدْيُ نبيِّنا محمّدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد كانت أوقاتُه خيرَ مثالٍ يُقْتَدى، وترويحُه أزكى دليلٍ يُحتذى، توسُّطًا واعتدالًا، وسُموًّا وكمالًا، فقد كان -بأبي هو وأمي-صلى الله عليه وسلم- أظهَرَ الناسِ حَزْمًا ولُطفًا، وأوفاهم أُنسًا وعَطْفًا.
ألَا فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ- واستمسِكوا بهدي نبيكم، واقتَفُوا سنَّتَه -صلى الله عليه وسلم-، واعتزُّوا بإيمانكم وتوحيدكم وهويتكم، سددوا وقاربوا، تصافَوْا، وتصالَحُوا، تراحَمُوا، وتسامَحُوا، أبشروا وأملوا، وتفاءلوا، توفقوا وتفوزوا وتغنموا، وتفلحوا وتنعموا؛ (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا في الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 138].
بارَك اللهُ لي ولكم في الوحيينِ، ونفعني وإيَّاكم بهديِ سيدِ الثقلينِ، أقول هذا القولَ مِنْ غيرِ حولٍ لي ولا طَولٍ، وأستغفِر اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم، ولكافَّةِ المسلمينَ من كل خطيئةٍ وإثمٍ، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنَّ ربي لَغفورٌ رحيمٌ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، حمدًا يعمر القلوب هدى وإشراقًا، نشكره -سبحانه- خصنا بشريعة سَمَتْ رحمةً وعدلًا وإشفاقًا، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادة تحقق للعالمين تألُّقًا ووفاقًا، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، نَحَلَ البريةَ مكارمَ أعلاقًا، وعلى آله وصحبه الغُرّ الميامين، الذين ابتدَرُوا الخيراتِ تنافُسًا واستباقًا، والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ- واغْنَمُوا الأوقاتَ قبل الفوات، وبالخيرات دَوْمًا فَاعْمُرُوها، واعْتبِروا بزوالِ هذه الدُّنيا بِانقضاءِ الإجازاتِ، أَلَا فاعْبُرُوها.
مَعاشِرَ المؤمنينَ: ومع الانْسِرَابِ في صَوَارِفِ الإجازةِ الصيفيةِ، التي تخلعُ على المجتمعاتِ مظاهرَ البهجةِ والاسترواحِ، ومطارفَ الحَبْرةِ والانشراحِ، خاصةً مَنْ عَزَمُوا على إقامة مناسَبات الزواج والأفراح؛ فاللهَ اللهَ في رعاية الضوابط والآداب الشرعيَّة في هذه المناسَبات؛ مِنَ الاقتصادِ والترشيدِ، وحُسْنِ الطاعةِ، والبُعدِ عن الإسراف والتبذير والبذخ وسائر المعاصي، والجِدِّ في معالَجة ظواهر العنوسة، وغلاء المهور، ونحوِها ممَّا يتعلَّق بمناسَبات الأفراح، وعدم التباهي بنشرها في مواقع التواصُل الاجتماعيّ.
أُمَّةَ الإسلامِ: ومع مرور الأعوام فإن قضية المسلمين الكبرى، في فلسطيننا وأقصانا المبارَك تظلُّ في وِجدانِ الأُمَّةِ، شاهدًا لها على اهتمامها بالقضايا الكبرى، وإيجاد الحلول الناجعة لحلِّها، والنَّأيِ عن الصراعاتِ والنزاعاتِ، والعملِ على إحلالِ السلامِ والاستقرارِ، واللهُ المسؤولُ أَنْ يتقبلَ منَّا ومنكم صالحَ الأعمالِ، ويُحَقِّقَ لنا فيما يُرضيهِ التطلعاتِ والآمالَ، وأَنْ يجعلَ حاضرَ أيامِنا خيرًا من ماضيها، ومستقبلَها خيرًا من حاضرها، إنه جواد كريم.
هذا وصلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على المصطفى الهادي الأمين، أسوة المؤمنين، المُرسِل بالشرع المبين، كما أمرَكم بذلك ربُّكم رب العالمين، في كتابه المستبين، فقال تعالى قولًا كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
فصلَّى اللهُ والأملاكُ جمعًا *** على داعي البرية للرشاد
وآلٍ صالحينَ لهم ثناءٌ *** بنور القلب سطَّرَه مِدادي
صلاةً لا يمل السامع همسها ونداءها ولا تسأم الألسن إعادتها وإبداءها.
اللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على النبي المختار، وارض اللهمَّ عن صحبه الكرام الأبرار؛ أبي بكر أنيسه في الغار، وعمر الفاروق فاتح الأمصار، وعثمان ذي الفضائل الغزار، وعلي ذي التفكر والاعتبار، وسائر العشرة المبشرين بدار القرار، وعنا معهم بمنك وجودك وكرمك يا عزيز يا غفار.
اللهمَّ شَفِّعْ فينا نبيَّنا وقدوتَنا يومَ القيامة، واجعَلْ محبتَه في سويداءِ قلوبِنا مُستَدَامةً، يا ذا الجلال والإكرام، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واحمِ حوزةَ الدينِ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهُمَّ آمِنَّا في أوطاننا، ووفق أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتسديد إمامنا وولي أمرنا، اللهُمَّ وفق إمامنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده إلى ما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين، وإلى ما فيه الخير والرشاد للبلاد والعباد، وجميع ولاة المسلمين.
اللهُمَّ وفق رجال أمننا والمرابطين على ثغورنا وحدودنا، اللهُمَّ من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرا عليه، يا سميع الدعاء.
اللهُمَّ اجمع كلمة الأمة على الكتاب والسُّنَّة، يا ذا العطاء والفضل والمنة، اللهُمَّ احفظ المسجد الأقصى، من كيد الكائدين، واجعله شامخًا عزيزًا إلى يوم الدين، وأنج المستضعَفين من المسلمين في كل مكان، يا ربَّ العالمينَ.
(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الْبَقَرَةِ: 127]، (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[الْبَقَرَةِ: 128]، واغفر لنا ولوالدينا ووالديهم، وجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].
التعليقات