عناصر الخطبة
1/اسم الله المحيط تعريفه وأدلته 2/من صور من إحاطة الله لعباده 3/الآثار التربوية والإيمانية لاسم الله المحيط.اقتباس
لقد بينت هذه الآية على سعة علم الله وإحاطته بكل شيء, لا تخفى عليه خافية، فلو صغرت الحسنات والسيئات فكانت مثل حبة الخردل، وكانت في بطن صخرة صماء، أو كانت في أرجاء السماوات، أو في أطراف الأرض؛ لعلم الله مكانها وأتى بها -سبحانه- لسعة علمه، وتمام خبرته, وكمال قدرته...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102], (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1], (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
معاشر المؤمنين: يفرح الظالم بظلمه, فيملي الله له فيزداد ظلما وطغيانا, وتأخذهُ العزةُ بالإثم، وحين يظن أن لن يقدر عليه أحد، غير مبالٍ بدعوات المظلومين إلى ربهم، تظهر قدرة الله -تعالى-, وشدة بطشه بالمجرمين, فيأخذه أخذ عزيز مقتدر!, (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ)[البروج: 17 - 20]
إن المحيط اسم من أسماء الله- تعالى-، وصفة من صفاته، حيث قال -تعالى-: (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ)[البقرة:19]، وقال: (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ)[البروج:20]، وقال -سبحانه-: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)[الطلاق: 12].
ومعنى اسم الله المحيط، قال الزجاجي: "محيط بالأشياء كلها؛ لأنها تحت قدرته وعلمه، ولا يخرج شيء منها عن إرادته، ولا يمتنع عليه منها شيء, وهذه الصفة ليست حقاً إلا لله -جل ثناؤه-، وهي راجعة إلى كمال العلم والقدرة، وانتفاء الغفلة والعجز عنه".
عباد الله: ولحاجة العبد إلى إحاطة ربه له؛ كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-؛ كما في صحيح مسلم "اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر".
سبحان من هو لا يزال مسبّحاً *** أبداً وليس لغيره السبحان
سبحان من لا شيء يحجب علمه *** فالسر أجمع عنده إعلان
سبحان من تجري قضاياه على *** ما شاء منها غائب وعيان
سبحان من هو لا يزال ورزقه *** للعالمين به عليه ضمان
سبحان من في ذكره طرق الرضى *** منه وفيه الروح والريحان
أيها المسلمون: هذا فرعون كيف أحاط الله به؟! وهو الملك وعنده الجنود والأموال والأتباع والسحرة والقصور والأنهار؛ قتّل أبناء بني إسرائيل فأراد الله أن يذله ويحقره فولد موسى -عليه السلام- وتربى وترعرع في قصر عدوه فرعون؛ إنها إحاطة الله بأوليائه رعاية ورحمة, وإحاطته -سبحانه- بأعدائه استدراج وعذاب.
وحين أرسل الله موسى إلى فرعون فشكا له موسى جبروت فرعون، وظلمه وبطشه فقال الله: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه:46]، ثم بين الله نهاية فرعون وجنوده، وهكذا نهاية كل ظالم (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)[القصص:39-40].
وحكى الله عن إحاطته بالأمم الظالمة الطاغية السابقة، فقال: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)[الفجر:9-14], وقال: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءاخَرِينَ)[الأنبياء:11], وقال: (فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِي خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ)[الحج:45], وقال -سبحانه-: (أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[الروم:9].
وبات نفر من المنافقين يحيكون الدسائس للمسلمين؛ فأنزل الله: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)[النساء:108].
يا من يرى مد البعوض جناحها *** في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى مناط عروقها في نحرها *** والمخ من تلك العظام النحل
ويرى خرير الدم في أوداجها *** متنقلا من مفصل في مفصل
ويرى وصول غذى الجنين ببطنها*** في ظلمة الأحشا بغير تمقل
ويرى مكان الوطء من أقدامها *** في سيرها وحثيثها المستعجل
ويرى ويسمع حس ما هو دونها*** في قاع بحر مظلم متهول
أمنن علي بتوبة تمحوا بها *** ما كان مني في الزمان الأول
فمهما بلغت من الذكاء والحكمة تغيب عنك الكثير من الأمور لأنك بشر , أما الرب المحيط فلا شيء يغيب عنه لذلك اطلب من المحيط ما تريد..
ولا تعجز إذا انتشر الظلم والقهر والباطل والهم؛ فالمحيط قد أحاطت قدرته بكل شيء, اطلب منه باسمه المحيط والقدير أن ينصر الحق.
وإذا شعرت بالحزن والألم وشعرت بالوحدة فارجع للمحيط الذي أحاط بهمك وحزنك واطلب منه الفرج والراحة فهو قادر على تفريج كربك؛ فالله المحيط الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة وقهرا سيحوطك ممن يكيدون لك, ويتكلمون عنك, ويؤذوك من أمامك وخلفك وفي نفسك ومالك وأهلك, لكن المحيط لن يتركك بل سيدافع عنك ويعينك لذا كن معه، وصدق الله إذ يقول: (إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)[آل عمران: 120].
وقال -تعالى-: (يَا بُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)[لقمان:16].
لقد بينت هذه الآية على سعة علم الله وإحاطته بكل شيء, لا تخفى عليه خافية، فلو صغرت الحسنات والسيئات فكانت مثل حبة الخردل، وكانت في بطن صخرة صماء، أو كانت في أرجاء السماوات، أو في أطراف الأرض؛ لعلم الله مكانها وأتى بها -سبحانه- لسعة علمه، وتمام خبرته, وكمال قدرته، ولهذا قال: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)؛ أي: لطف في علمه وخبرته، فلا إله إلا الله الذي أحاط علمه بكل شيء، حتى اطلع على البواطن والأسرار، وخفايا القفار والبحار, والمسلم إذا تدبّر هذه الآية، واستشعر معانيها؛ فإنّه يوقن أنّ الله يراه ويراقبه في كل حين.
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهدٌ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدٌ أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرًا أما بعد:
عباد الله: فإن لكل اسم من أسماء الله آثاراً تربوية وإيمانية في حياة الفرد والمجتمع والأمة, ومن ذلك:
أن الإيمان بإحاطة الله -سبحانه- إحاطة علم وقدرة وقهر لكل شيء، تثمر في القلب الاستهانة بقوة المخلوق من الأعداء الكفرة والمنافقين بعد الأخذ بأسباب المدافعة لشرهم؛ لأن الله -عز وجل- محيط بهم وقاهر لهم.
وإذا حصل الصبر والتقوى من المؤمنين فلن يضرهم كيد الكائدين؛ لأن الله - عز وجل - بما يعملون ويكيدون محيط، قال -سبحانه-: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)[آل عمران:120]، وكم أحاط الله بظلمة وطغاة وجبابرة ودول وحضارات تكبرت وتجبرت وكادت لدين الله وأولياءه وعباده الصالحين, فدمرها الله تدميراً وجعلهم عبرة لغيرهم؟.
ومنها: أن هذا الاسم يؤكد على كمال الله المطلق في العلم والسمع والبصر والقدرة والرحمة؛ فإذا استحضر العبد معناه الشامل تحصّل لديه ما يحصّله من فهم معاني الأسماء الأخر.
ومنها: إنّ هذا اسم الله المحيط يغرس في قلب المؤمن من مهابة الله -تعالى- وعظمته ما لا يخفى، ففيه التربية على التوكّل عليه -سبحانه- والوثوق به، والتّرهيب من عصيانه، والغفلة عن ذكره.
فتأمل كيف أنّ الله -تعالى- غالبا ما يختم آيات الوعد والوعيد بهذا الاسم الكريم؟ قال -عزّ وجلّ- بعد ذكر العصاة والمذنبين: (إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)[آل عمران: 120]، وقال مؤنّسا أولياءه: (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ)[الإسراء: 60]؛ قال ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: "النّاس هنا أهل مكّة، وإحاطته بهم إهلاكُهُ إيّاهم", وقال مجاهد: "معنى أحاط بالنّاس: أي أحاطت قدرته بهم، فهم في قبضته، لا يقدرون على الخروج من مشيئته", وقال الحسن: "المراد عصمة نبيّه -صلّى الله عليه وسلّم- من النّاس أن يقتلوه، حتّى يبلِّغ رسالة ربّه، أي: وما أرسلناك عليهم حفيظا، بل عليك التّبليغ، فبلِّغ، فإنّا نعصمك منهم، فقدرتنا محيطة بهم".
ومنها: أن يستيقن العبد أنه بين يدي الله، محيط به في كل حين وآن، لا مفرّ منه طرفة عين ولا أقل, فعليه أن يُحسن أقواله وأفعاله، فيبتعد عن ظلم العباد والاعتداء عليهم، ذلك بأن الله -عز وجل- قد أحاطت قدرته بكل شيء، فلا يفوته شيء ولا يعجزه شيء، فتذكر هذه القدرة المحيطة تمنع العبد من الاغترار بقدرته على الناس وظلمهم؛ لأن قدرة الله -عز وجل- فوق قدرته, وهو القاهر الذي أحاط قهره بكل شيء، وما من دابة إلا هو -سبحانه- آخذ بناصيتها.
فاتقوا واعلموا أن الله محيط بجميع أحوالكم، واصبروا على مكر أعدائكم، واعلموا أنه محيط بهم.
هذا وصل الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطبين الطاهرين
التعليقات