استهزاء الكفار برسول الله صلى الله عليه وسلم

سليمان الحربي

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم 2/شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم 3/التمسك بالدين ونبذ القيم الغربية

اقتباس

وَلَئِنْ تَهَجَّمُوا عَلَى نَبِيِّنَا فَقَدْ تَهَجَّمُوا عَلَى رَبِّنَا! فَادَّعُوا لَهُ الوَلَدَ وَالصَّاحِبَةَ، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبَيرًا، فَمَا أَعْظَمَ كُفْرِهِمْ، وَمَا أَكْبَرَ جَرِيمَتَهُمْ!..

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ:

 

فاتقوا الله عباد الله! (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة:223].

مَعْشَرَ الإِخْوَةَ! فَرَضَ اللهُ فَرْضًا قَاطِعًا عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَأُمَـمِهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا رَسُولَنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ لَـهُمُ الخِيَارُ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ رَسُولُـهُمْ وَإِمَامُهُمْ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران: 81، 82].

 

فَيُخْبِرُنَا تَعَالَى أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ وَعَهْدَهُمُ الـمُؤَكَّدَ بِسَبَبِ مَا أَعْطَاهُمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ الـمُنَزَّلِ، وَالحِكْمَةِ الفَاصَلَةِ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ وَالـهُدَى وَالضَّلالِ، أَنَّهُ إِنْ بَعَثَ اللهُ رَسُولًا مُصَدِّقًا لِـمَا مَعَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيُصَدِّقُوهُ، وَيَأْخُذُوا ذَلِكَ عَلَى أُمَـمِهِمْ، فَكُلُّ الأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَوْ أَدْرَكُوُهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الإِيـمَانُ بِهِ وَاتِّبَاعُهُ وَنُصْرَتُهُ، وَكَانَ هُوَ إِمَامَهُمْ وَمُقَدَّمَهُمْ وَمَتْبُوعَهُمْ.

 

فَهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ الأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدَهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَـمَّا قَرَّرَهُمُ تَعَالَى فَقَالُوا: أَقْرَرْنَا، ثُمَّ شَهِدَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ: (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).

 

وَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: «مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ العَهْدَ: لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الـمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ إِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلْيَنْصُرُنَّهُ».

 

وَلِذَلِكَ رَوَى مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَا يَسْمَعُ بِى أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِىٌّ وَلَا نَصْرَانِىٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».

 

وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا فِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي»، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِلَفْظِ: «وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ».

 

فَإِذَا كَانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَنَصْرُهُ عَلَى مَنْ يُدْرِكُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُمْ؟! بَلْ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ أَنْ يَتَّبِعَ شَرِيعَةَ رَسُولٍ غَيْرِهِ كَمُوسَى وَعِيسَى، وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلا- لِنَبِيِّهِ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].

 

فَرَسُولُنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَسُولٌ لِـجَمِيعِ أَهْلِ الأَرْضِ؛ عَرَبِـهِمْ وَعَجَمِهِمْ، إِنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ؛ كَمَا قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ- كَمَا فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ": «وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ». قِيلَ: العَرَبُ وَالعَجَمُ، وَقِيلَ: الإِنْسُ وَالجِنُّ.

فَرِسَالَتُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْهَتْ وَأَبْطَلَتْ شَرَائِعَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ؛ وَلِذَلِكَ فِي آخَرِ الزَّمَانِ يَنْزِلُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ فَيَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

 

فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ الأَنْبِيَاءِ، فَالنَّاسُ مِنْ بَابِ أَوْلَى! فَلَا يُوجَدُ فِي الأَرْضِ دِينٌ صَحِيحٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُلُّ مَنْ فِي الأَرْضِ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَوَاءٌ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ عَلَى أَيِّ مِلَّةٍ، فَمَنْ سَخَرَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهُوَ يَسْخَرُ بِمَنْ عَلَيْهِ اتِّبَاعِهِ وَإِلَيْهِ أُرْسِلَ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) [الأعراف:158].

 

فَلَيْسَ رَسُولُنَا لِلْعَرِبِ فَقَطْ، بَلْ هُوَ لِلْعَجِمِ -كِتَابِيِّهِمْ وَغَيْرِ كَتَابِيِّهِمْ- قَالَ اللهُ تَعَالَى:  (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ واللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:20].

 

وَعَلَيْهِ: فَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَيْسَ مِنْ أَتْبَاعِ مُوسَى وَلَا عَيْسَى عَلَى الحَقِيقَةِ، بَلْ هُوَ عَاصٍ لِلأَنْبِيَاءِ؛ إِذْ لَمْ يَتَّبِعْ مَا أَخَذَهُ اللهُ مِنَ الـمِيثَاقِ عَلَى الأَنْبِياءِ وَأُمَـمِهِمْ! وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ حِقْدِ وَحَسَدِ أَهْلِ الكِتَابِ عَلَى نِبِينَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلِذَا أَخْبَرَنَا اللهُ تَعَالَى أَنَّنَا سَنَسْمَعُ مِنْهُمْ أَذًى كَثِيرًا، فَقَالَ تَعَالَى: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران:186].

 

فَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يُخْبِرُنَا وَيُخَاطِبُ الـمُؤْمِنِينَ أَنَّـهُمْ سَيُبْتَلُونَ فِي سَمَاعِهِمْ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا؛ مِنَ الطَّعْنِ فَيكُمْ وَفِي دِينِكُمْ وَكِتَابِكُمْ وَرَسُولِكُمْ، وَفِي إِخْبَارِهِ لِعِبَادِهِ الـمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ عِدَّةُ فَوَائِد:

مِنْهَا: أَنَّ حِكْمَتَهُ تَعَالَى تَقْتَضِي ذَلِكَ؛ لِيَتَمَيَّزَ الـمُؤْمِنُ الصَّادِقُ مِنْ غَيْرِهِ.

 

وَمِنْهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُقَدِّرُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الأُمُورَ؛ لِـمَا يُرِيدُهُ بِـهِمْ مِنَ الخَيْرِ؛ لَيُعْلِيَ دَرَجَاتَهُمْ، وَيُكَفِّرَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ، وَلِيَزْدَادَ بِذَلِكَ إِيمَانُهُمْ، وَيُتِمُّ بِهِ إِيقَانَهُمْ، فَإِنَّهُ إِذَا أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ وَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ: (قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب:22].

 

وَمِنْهَا: أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ لِتَتَوَطَّنَ نُفُوسُهُمْ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ إِذَا وَقَعَ؛ لأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَعَدّوا لِوُقُوعِهِ، فَيَهُونُ عَلَيْهِمْ حَمْلُهُ، وَتَخِفُّ عَلَيْهِمُ مُؤْنَتُهُ، وَيَلْجَأونَ إِلَى الصَّبْرِ وَالتَّقْوى، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران:71].

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِـمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الـمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وتُوبُوا إليهِ، إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهْ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَيمِ فَضِلِهِ وَامْتِنَانِهْ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهْ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى جَنَّتِهِ وَرِضْوَانِهْ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَعْوَانِهِ، أمَّا بَعْد:

 

مَعْشَرَ الإِخْوَةَ! لَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّنَا بِأَنْ أَعْدَاءَكَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالكُفَّارِ سَيَقُولُونَ عَلَيْكَ مَا لَا يَلِيقُ بِكَ مِنَ الأَوْصَافِ؛ كَمَا قِيلَ لِلأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) [فصلت:43]، فَيُعَزِّي رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: مَا يُقَالُ لَكَ مِنَ الأَذَى وَالتَّكْذِيبِ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، وَمَعَ ذَلِكَ وَعَدَهُ اللهُ بِأَنْ يَنْتَقِمَ لِنَبِيِّهِ مِـمَّنِ اسْتَهْزَأَ بِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر:95].

 

 

قَالَ السِّعْدِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ): أَيْ كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِكَ وَبِـمَا جِئْتَ بِهِ، وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ لِرَسُولِهِ: أَنْ لَا يَضُرُّهُ الـمُسْتَهْزِئُونَ، وَأَنْ يَكْفِيهُ اللهُ إِيَّاهُمْ بِـمَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ العُقُوبَةِ. وَقَدْ فَعَلَ تَعَالَى، فَإِنَّهُ مَا تَظَاهَرَ أَحَدٌ بِالاسْتِهْزَاءِ بِرَسُولِ اللهِ

-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبِـمَا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَهْلَكَهُ اللهُ، وَقَتَلَهُ شَرَّ قِتْلَةٍ!

 

 

 

فَمَا سَمِعْتُمُوهُ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ مِنَ الهُجُومِ عَلَى مَقَامِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَـهُوَ أَكْبَرُ فَضِيحَةٍ عَلَى زَيْفِ القِيَمِ الغَرْبِيَّةِ وَكَذِبِهَا وَازْدِوَاجِيَّتِهَا وَانْتِقَائِيَّتِهَا، وَأَنَّـهَا مَا هِيَ إِلَّا شِعَارَاتٍ كَاذِبَةٍ لَيْسُوا كُفْئًا لَـهَا؛ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللهِ قِيلًا: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة: 120].

 

 

فَأَيْنَ الـمُعْجَبُونَ الـمَادِحُونَ لِلْحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ، وَالنَّظَرِيَّاتِ التَّرْبَوِيَّةِ، وَالـمَنَاهِجِ الفِكْرِيَّةِ؟! فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَدَّعُونَ التَّسَامُحَ وَالحُرِّيَّةَ وَالعَدْلَ فَتَأْتِي الشَّوَاهِدُ لإِبْطَالِ الـمَزَاعِمِ!

أَلَا فَلْيَعْلَمِ العَالَمُ أَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ دِينِنَا، وَأَنَّ رَسُولَنَا مُقَدَّمٌ عَلَى أَوْلَادِنَا وَآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، هَذِهِ عَقِيدَتُنَا، وَأَنَّ هَذَا الهُجُومَ عَلَيْهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَزِيدُنَا إِلَّا تَـمَسُّكًا بِشَرِيعَتِنَا وَثِقَةً بِدِينِنَا، وَأَنَّهُ شَاهِدٌ آخَر عَلَى صِدْقِ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ رَبُّنَا فِي عَدَاءِ الكُفَّارِ لِدِينِنَا وَبُغْضِهِمْ لَهُ، وَأَنَّ مَا فِي القُرْآنِ مِنَ الأَخْبَارِ مِنْ وَصْفٍ شِدَّةِ بُغْضِهِمْ حَقٌّ لَا رَيْبِ فَيِهِ، وَهَذَا بَعْضُ شَوَاهِدِهِ.

فَالحَمْدُ للهِ عَلَى مَا أَقَامَ مِنَ الحِجَجِ وَالبَرَاهِينِ؛ (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال: 42].

 

(قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ * قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) [الأنعام: 57، 58]، يَأْمُرُ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ لِلْمُسْتَعْجِلِينَ بِالعَذَابِ جَهْلًا وَعِنَادًا وَظُلْمًا: (لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) [الأنعام: 58]، فَأَوْقَعْتُهُ بِكُمْ، وَلَا خَيْرَ لَكُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الأَمْرَ عِنْدَ الحَلِيمِ الصَّبُورِ؛ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَمَّا فِي نُفُوسِ اليَهُودِ؛ حَيْثُ قَالَ: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [المجادلة: 8].

 

فَهُمْ يُسِيئونَ الأَدَبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي تَحِيَّتِهِمْ، وَهُمْ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، إِذَا سَلَّمُوا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالُوا: «السَّامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدَ»،  يَعْنُونَ بِذَلِكَ الـمَوْتَ؛ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَيَأْتِي فِي خَوَاطِرِهِمْ مَا ذَكَرَهُ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: (لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ)، فَيَتَهَاوَنُونَ بِذَلِكَ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِعَدَمِ تَعْجِيلِ العُقُوبَةِ عَلَيْهِمْ أَنَّ مَا يَقُولُونَ غَيْرَ مَحْذُورٍ!

 

قَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ أَنَّهُ يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ: (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [المجادلة: 8]؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) [الأحزاب:57]، وَهَذَا يَشْمَلُ كُلَّ أَذِيَّةٍ قَوْلِيَّةٍ أَوْ فِعْلِيَّةِ؛ مَنْ سَبَّ وَشَتَمَ، أَوْ تَنَقَّصَ لَهُ أَوْ لِدِينِهِ، أَوْ مَا يَعُودُ إِلَيْهِ بِالأَذَى.

 

وَلَئِنْ تَهَجَّمُوا عَلَى نَبِيِّنَا فَقَدْ تَهَجَّمُوا عَلَى رَبِّنَا! فَادَّعُوا لَهُ الوَلَدَ وَالصَّاحِبَةَ، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبَيرًا، فَمَا أَعْظَمَ كُفْرِهِمْ، وَمَا أَكْبَرَ جَرِيمَتَهُمْ!

 

وَأَعْظَمُ إِغَاظَةٍ لَهُمْ هُوَ التَّمَسُّكُ بِالدِّينِ وَنَبْذُ القِيَمِ الغَرْبِيَّةِ الفَاجِرَةِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى الإِسْلامِ وَالسُّنَّةِ، وَتَرْبِيَةُ النَّشْءِ عَلَى الاعْتِزَازِ بِالدِّينِ؛ الـمَرْأَةُ بِحِجَابِهَا وَسِتْرِهَا وَعَفَافِهَا وَحَيَائِهَا، وَالشَّابُ بِقِيَمِهِ وَحِفْظِ دِينِهِ وَخُلُقِهِ وَالاعْتِزَازِ بِدِينِهِ، فَواللهِ مَا هَاجَمُوهُ إِلَّا بِسَبَبِ انْتِشَارِ دِينِهِ وَسُنَّتِهِ وَقِيَمِهِ العَالِيَةِ، وَواللهِ مَا حَارَبُوهُ إِلَّا لِأَنَّ دِينَهُ بَلَغَ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارِ بِعِزِّ عَزِيزٍ وَذُلِّ ذَلِيلٍ؛ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة: 33].

 

المرفقات
elrE99ZMF5D9xdwLQhwyf0nmVAmeeHimHS8UFy0T.pdf
NvheSOb9HAuY4dxRpkGvIk6emx5MXFVDrA3yUlBd.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life