عناصر الخطبة
1/أسف على حال الأمة الإسلامية 2/استنهاض همم المسلمين لنَيْل فرج رب العالمين 3/عبر وعظات من التاريخ 4/التحذير من الظلم وعاقبة الظالمين 5/مناصرة ومواساة للصابرين المرابطين في المسجد الأقصى وأكنافهاقتباس
لا زال أهل الرباط على الحق ثابتين في مسجدهم، فتلك الأفواج التي زحفت للأقصى في شهر رمضان الخير، تشكل بداية لانفراج الغمة عن الأمة، رغم الانتهاكات والصعوبات، فنكرر مرة ثانية وثالثة شكرنا للعاملين والمتطوعين والمتطوعات، واللجان المساعِدة، في المسجد الأقصى المبارَك...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلَق الخلقَ وأبدَعَه، وسنَّ الدينَ وشرَعَه، وقدَّر الرزقَ ووزَّعَه، وسيَّر القمرَ وأطلَعَه، ونوَّر النورَ وشعشَعَه، وجعَل السماءَ سقفًا مرفوعًا، والأرض بساطًا، لا مغير لما أبدعه، ولا مبدل لما صنعه، ولا رافع لما وضعه، ولا واضع لما رفعه، ولا إله غيره ولا شريك معه.
ونشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، عز فارتفع، وعلا فامتنع، وذل كل شيء لعظمته وخضع، هو أول، هو آخر، هو ظاهر، هو باطن، ليس العيون تراه، حجبته أسرار الجلال، فدونه تقف الظنون، وتخرص الأفواه، سبحان من عنت الوجوه لوجهه، والكل تحت القهر وهو الإله.
وأشهد أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، المستغفر التواب، -صلى الله عليه وسلم- القدوة للشِّيب والشباب، خلقه الكتاب، ورأيه الصواب، وقوله فصل الخطاب، قدوة الأمم، وقمة الهِمَم، ودرة المقربين والأحباب، عرضت عليه الدنيا بكنوزها فكان بلاغه منها كزاد الركاب، ركب البعير، ونام على الحصير، وخصف نعله، ورتق الثياب، أضاء الدنيا بسنته، وأنقذ الأمة بشفاعته، وملأ للمؤمنين براحته من حوضه الأكواب، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليه، وعلى الآل والأصحاب، ما هبت الرياح بالبشرى، وجرى بالخير السحاب، القائل -صلى الله عليه وسلم-: يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ في قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْوَهْنَ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ".
فتن ووهن، غثائية وذل، من أين نبدأ؟! إن كان حب الدنيا رأس كل خطيئة، فحب الدنيا وكراهية الموت سبب لكل ذل، نزاع على الدنيا، وصراع على المال، حب الشهوات، والمنافسة على المناصب أوقعنا بالذل بين الأمم بعد أن كنا بأعلى منازلها، إشارة التحذير صدرت من مشكاة النبوة -صلى الله عليه وسلم-، إن الذي ينادي يوم القيامة: "أمتي أمتي"، قد أبصر بنور الوحي هذه الغثائية، وهذا الذل، ففي الوقت الذي أظهر الله فيه دينه، على يد النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام، ازداد حرصه على أمته، وحذرها مما يزيل قوتها، فأقسم قائلًا: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم".
الأمة الإسلاميَّة اليوم مليارات متكدسة، ومثاقيل من الذهب مكتنزة، وقوى الاستعمار تنهش بالأمة نهشا، فبعدما عاد أبو عبيدة عامر بن الجراح بخراج البحرين حيث بلغ نور الإسلام إلى تلك البلاد، وكان للإسلام كلمته، أُتِيَ بالمال إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقسم قائلًا: "فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا -أي: تنافس في الشهوات والشبهات، فتدخلوا قفصا من حديد، اسمه حب الدنيا وكراهية الموت، فتنقلبوا غثاء كغثاء السيل- فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ"، حتى صاروا هباء في هواء.
أربعة ملايين من المسلمين أحيَوْا ليلة القدر في بيت الله الحرام، ومليارا مسلم ترقبوا هلال العيد، وغم عليهم، واستطاعوا رؤية هلال العيد بين الغيوم المتشابكة، ولم يستطيعوا أن يبصروا الذل والهوان على الضعفاء في غزَّة وفلسطين، لم يترقبوا تلكم الأهلة التي أزهقت في أرض فلسطين، لم ترقب الأمة تلك النزاعات التي أثيرت في السودان رغم وضوح صورتها، ونيران الفتنة التي اشتعلت وأحرقت المسلمين في عالمنا الإسلامي، فقد ذاقت الأمة الويلات من الصرب في البوسنة، ولكنَّها لم تتعظ فهل غم علينا حتى أتممنا قرنًا من الزمان ذلا وهوانا وغثائية؟! وكلما زادت الغمة علينا وتناسينا عزتنا نزع الله من صدور عدونا المهابة منا.
هي الدنيا وأموالها ومتاعها، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا يرفع إلا بتوبة، قال عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-: "يحدث للناس من البلاء على مقدار ما يحدثون من الفجور، فالبطولة أن نعود إلى أنفسنا، ونعترف بتقصيرنا أمام الله ودينه وشرعه؛ لذلك كرهنا الموت، وطلبنا الحياة الذليلة، واستزدنا منها على حساب ديننا وكرامتنا، فهانت على البعض الأرض وقدسيتها، وهان على الأمة مسراها، ففرق كبير بين من يعمر الأرض بالدين، وبين من يكسب الدنيا وي-تعالى- على الدين؛ فبداية الوهن والضعف في مخالفة شرع الله وأحكامه؛ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النُّورِ: 63].
ودخَل على الأمة ضَعْفٌ ووهنٌ من الغرق في الشُّبُهات، فاستحل بعض الشباب الربا؛ لشهوة امتلاك المركبات، واستحلت النساء التبرج بدعوى الحرية وتقليد الماجنات، وأصبح هدم الأسرة سائغا للكثيرين بشهوة الحصول على المال والمخصصات، بل وامتنع الكثير عن الطعام والشراب في رمضان وقد استباحوا أكل ميراث النساء!
شهوة حب الدنيا، وأموالها، دفعت البعض إلى التزييف وتسريب العقارات، فالشجاعة أن تعترف بالخطأ؛ لتكون منصفًا وواقعيا، فليس كل خلل بالأمة نعزوه للغير، فاعقد صلحا مع الله؛ لتتبدل المعادلة، فكلما أحبت الأمة الدنيا، وأصبحت هي المؤثِّرَة زاد التفرق والتشرذم وكرهت الموت، وما سلبت أرض الإسلام إلا بعد ظهور فئة المتفرجين، المتواطئين، الطامعين، المتآمرين على الأمة وأبنائها، ممن تبلد حسهم، وماتت قلوبهم، وبدأ مرض السكوت وآفة الصمت تنتشر عند ذوي الرأي والمسؤوليَّة، وأصبح لسانهم أخرس، يوجهون الأمة لسفاسف الأمور، مستخدمين وسائل الإعلام والفضائيات لغسل أدمغة الشعوب، ولفت أنظارهم عن أولويات الأمة وهمومها، والأقصى ينادي: أين طهري؟! فعن أي أبنية شاهقة للعبادة يتكلمون، وبنيان الله يهدم كل يوم؛ فالإنسان بنيان الله، وحرمته عند الله أعظم من الكعبة بيت الله.
دخَل هولاكو بغداد وقتَل أهلَها، ولم يبق عالمًا أو قاضيًا أو تاجرًا، ودمرها عن بكرة أبيها، ولكنهم قالوا: أبقوا أمير البلاد ورئيسها وهو المستعصم، فلم يقتلوه، وساقه هولاكو ليدله على أماكن كنوزه، فذهب المستعصم ودلهم على مخابئ الذهب والفضة والنفائس داخل القصور وخارجها، حتى أرشدهم إلى كنز عظيم من الذهب لا يعلم أحد مكانه سوى المستعصم، فقال له هولاكو: "لو كنت أعطيت هذا المال لرعيتك ولحاشيتك لكانوا حموك مني"، ولم يبك المستعصم على الكنوز، بل بكى حين أخذ هولاكو الجواري بالمئات من داخل القصر، فضحك هولاكو وأمر أن يوضع المستعصم بكيس ويركله الجنود حتى الموت، هذه مشاهد من الوهن، من حب الدنيا وكراهية الموت، فكان ما جمعه بنو العباس في خمسة قرون أخذه هولاكو في ليلة واحدة، وكذلك ما يكفي الأمة الإسلاميَّة لعدة قرون تأخذه قوى الغرب بمكائد لا يعلمها إلا الله، وتبقى الأمة في غفلتها وتنسى منعتها، ولا حولا ولا قوة إلَّا بالله؛ فحب الدنيا والتنافس على البذخ والملذات أصبح هدفًا، وتركت الأمة استخدام المال لمصارفه من العلم والتقدُّم والنهضة ولما فيه عزتها، وما تعليم أبناء المسلمين عن ذلك ببعيد، فعن أي مجاعات لأهلنا في غزَّة تتحدثون، أم أنتم تتجاهلون؟! وعن أي انتهاك للأقصى تتابعون؟! أم أنتم في غفلتكم ساهون؟! (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)[الشُّعَرَاءِ: 227]، إلا أن ثقتنا بالله عالية، والعاقبة للمتقين، الله مطلع علينا، إذن لن يضيعنا.
يا أحباب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: تعرض عليه أعمالكم، فعن أبي مسعود عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: "كنتُ أضرب غلامًا لي، فسمعت من خلفي صوتًا: اعلم أبا مسعود، الله أقدر عليك منك على غلامك، فالتفت فإذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلتُ: يا رسول الله، هو حر لوجه الله، فقال: أما لو لم تفعل لمستك النار"، فالله أقدر على الظالمين وأعوانهم، ومن تواطأ معهم، فبادروا بالأعمال الصالحة، هناك فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافر، يبيع دينه بعرض من الدنيا، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله وتوفيقه تدرك المثوبات، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ الغفور الشكور، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
يا خير رُسْل اللهِ قدرُكَ قد سمَا *** فاشفع لمن صلى عليكَ وسلَّمَا
أنتَ الضياءُ إذا الظلامُ تسيَّدَا *** عليكَ سلامُ اللهِ دهرًا سرمدَا
صلَّى عليكَ اللهُ يا فجرَ الْهُدَى *** تعدادَ حمدٍ في القلوب تردَّدَا
ولا زال أهل الرباط على الحق ثابتين في مسجدهم، فتلك الأفواج التي زحفت للأقصى في شهر رمضان الخير، تشكل بداية لانفراج الغمة عن الأمة، رغم الانتهاكات والصعوبات، فنكرر مرة ثانية وثالثة شكرنا للعاملين والمتطوعين والمتطوعات، واللجان المساعِدة، في المسجد الأقصى المبارَك على مدار شهر الصيام بأكمله؛ فعملهم يبعث التفاؤل والارتياح، ويرسلون رسالة للأمة الإسلاميَّة أن في الأمة طائفة على الحق ظاهرين، ويبرقون بخدمتهم لزوار بيت الله أن الأوتاد اللامعة في أرض الرباط ستبقى تبث روح الأمل بأن الفرج قريب، إنهم ببيت المقدس وأكناف بَيْت الْمَقدسِ، والتفاف الجيل الصاعد حول المسرى خدمةً للقائمين الراكعين الساجدين، لهو دليل على فشل كل مخطط حيك ضد شباب الأمة ومقدساتها؛ فالشباب الذين أراد أعداء الإسلام إغراقهم في المخدِّرات هم يتوبون الآن والحمد لله.
والشباب الذين أراد أعداء الإسلام تبديل عقيدتهم هم أشد تمسُّكًا بلا إله إلا الله، والحمد لله.
والشباب الذين أراد أعداء الإسلام صدهم عن المساجد وعن ذكر الله، يعمرون مساجد الله والحمد لله.
اللهمَّ هيئ لهذه الأمة فرجًا عاجلًا قريبًا، وقائدًا مؤمنًا رحيمًا، يوحد صفها، ويجمع شملها، اللهمَّ كن لنا ولأهلنا في غزَّة عونًا وظهيرًا، وكن يا إلهي في فلسطين سندًا وظهيرًا.
اللهمَّ ارفع الغمة عن الأمة يا أكرم الأكرمين، اللهمَّ اجعل لنا ولسائر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل عسر يسِرًّا، ومن كل بلاء عافية، اللهمَّ تقبَّلْ شهداءنا، وداو مرضانا، وارفع عَنَّا الحرب وأوزارها، اللهمَّ ارفع الحرب عن أهل غزَّة وأوزارها، اللهمَّ احفظ لنا أقصانا واجعله عامرًا بالإسلام والمسلمين، اللهمَّ امنن على الأسرى بالفرج العاجل القريب، وأرجعهم إلينا سالمين، اللهمَّ اشف جرحانا، اللهمَّ اجز عَنَّا سيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- خير الجزاء، واجز عَنَّا مشايخنا وعلماءنا ووالدينا خير الجزاء، اللهمَّ يا مَنْ جعلتَ الصلاةَ على النبي من القُرُبات، نتقرب إليك بكل صلاة صليت عليه، من أول النشأة إلى ما لا نهاية للكمالات؛ (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182]، وأَقِمِ الصلاةَ.
التعليقات