المصدر: الإسلام سؤال وجواب
السؤال
فضيلة الشيخ أرجو أن يتسع صدرك لاستغاثتي في مصيبتي في ابني ، وترشدني إلى الرأي الصواب بأسرع وقت ممكن : أنا عندي أربعة ذكور ، أكبرهم عنده 28 سنة ، وآخرهم 21 سنة ، ولقد ربيتهم على الالتزام والشرع ، فنحن أسرة ملتزمة ، وبيتنا وعمل زوجي أيضا منارة للدعوة الإسلامية ، ولكن للأسف كان ابتلاؤنا في ابننا ، ومصيبتنا في دينه ، فالابن الكبير مهندس مرموق ، وطموح جدّاً ، وذكي جدّاً ، ولكن للأسف فوجئنا به يكره الدين ، والتزاماته ، وتكاليفه الشرعية ، ويتهمنا بأننا شاذون عن المجتمع ؛ لحرصنا على عدم الاختلاط ، وبدأ بإنكار السنَّة ، والتهكم على أوامر الدين ، وأتم كل هذا ، وكانت الطامة الكبرى عندما اصطحبناه للعمرة عسى أن يهديه الله أنه لم يقم بها ! ولا الصلاة في المسجد الحرام ، وامتنع عن الصلاة نهائيّاً إلا صلاة الجمعة ، يؤديها فقط إرضاء لنا ، عرفنا وقتها أن ابننا ملحد ، وعرفنا أنه أيضا ثقف نفسه من مواقع الإلحاد على النت ، وهذا بحكم عمله أنه يعمل على الكمبيوتر ، وحاولنا كثيراً معه بالإقناع ، وجلس مع شيخ ، وأدخلناه موقع " طريق الإيمان " ليحاور إخوة عندهم خبرة ودراية بالرد على الشبهات ، واستمر معهم حوالي 6 أشهر ، ولكن لا فائدة ، وعلمنا أنه يدرس هذا الأمر من أربع سنوات ! والآن كلما واجهناه بالكفر ينكر ويقول : أنا مسلم اسماً وأمام الناس ، ولا أشيع هذا الأمر ، وهذا أمر يخصني ، وأنا الذي سأحاسب ، ويريد أن يتزوج مسلمة ، ونحن أوقفنا زواجه ، وامتنعنا أن نشاركه فيه ، ولو حتى الخطبة ؛ لأن الناس تنخدع بنا كملتزمين ويحسبوه كذلك ، وهو يتهمنا بأننا السبب في هذا الحال الذي هو عليه من تشددنا ، ويقول : أين دعاؤكم المستجاب ؟ وأين الله الذي سيهديني ؟ وقد عمل عمرة قبل ذلك ودعا الله فيها أن يهديه ، هو يقول : لكل شيء سبب ملموس وعلمي، وأنا لا أرى الله وينكر .
الجواب
الحمد لله.
نسأل الله تعالى أن يُعظم لكم المثوبة ، وأن يجزيكم خيراً على ما تقدمونه لأولادكم من عناية ورعاية ، وتربية إسلامية ، وقد لمسنا من خلال رسالتكم قيامكم بما أوجب الله تعالى عليكم تجاه الأمانة التي ائتمنكم عليها .
وخروج ابنكم عن طاعة ربه تعالى ، ورضاه لنفسه بطريق الانحراف والضلال والإلحاد : لا ينبغي أن يسبب لكم قلقاً في أنكم مقصرون ، أو أن تربيتكم لأولادكم هي السبب ، كما قال ذلك الابن المنحرف ، بل أنتم على خير عظيم ، إن شاء الله ، وغيركم ممن لم يفعل فعلكم هو المقصِّر في حق نفسه ، وفي حق أولاده ، فلا تلتفتوا لوساوس الشيطان ، ولا يصدنكم كلام ابنكم عن الاستمرار في التربية الإسلامية لأولادكم، وفي البقاء على الالتزام بشرع الله تعالى.
واعلموا أنكم غير آثمين على ما وصل له حال ابنكم ؛ لأنكم لم تقصروا في توجيهه ، وتربيته على الإسلام ، ومن كان هذا حاله : فإنه لا يأثم إن خرج بعض أفراد أسرته عن جادة الصواب ، وإنما يأثم من كان مقصِّراً ، أو مهملاً في رعاية أولاده والعناية بهم .
وها هو نوح عليه السلام رأينا ماذا حلَّ بابنه وامرأته ، فقد هلكا مع الهالكين ، ولم يألُ نوح عليه السلام جهداً في دعوتهم وهدايتهم ، ولم يستجيبا له ، فعاقبهما الله ، وكانا من المغرَقين .
ومثله يقال في امرأة لوط عليه السلام ، ووالد إبراهيم عليه السلام ، وأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ، فكل أولئك الأنبياء والرسل قد أدوا ما أمرهم الله تعالى به من الأمانة على أكمل وجهها ، ولم يقصروا في حق أهليهم ، ولكن القلوب بيد الله تعالى يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، وما يضل إلا الفاسقين ، قال الله تعالى : ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) البقرة/ 272 ، وقال سبحانه : ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) القصص/ 56 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله – :
يُخبر تعالى أنك يا محمد - وغيرك من باب أولى - لا تقدر على هداية أحد ، ولو كان من أحب الناس إليك ، فإن هذا أمر غير مقدور للخلق : هداية التوفيق ، وخلق الإيمان في القلب ، وإنما ذلك بيد اللّه سبحانه تعالى ، يهدي من يشاء ، وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه ، ممن لا يصلح لها فيبقيه على ضلاله .
وأما إثبات الهداية للرسول في قوله تعالى : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) : فتلك هداية البيان والإرشاد ، فالرسول يبين الصراط المستقيم ، ويرغِّب فيه ، ويبذل جهده في سلوك الخلق له ، وأما كونه يخلق في قلوبهم الإيمان ، ويوفقهم بالفعل ، فحاشا وكلا . " تفسيرالسعدي " ( 620 ) .
وانظري جواب السؤال رقم : ( 12053 ) .
وعليه فليس أمامكم إلا الدعاء له بالهداية ، فألحوا على ربكم تعالى ، وأكثروا الدعاء له في أوقات السحَر ، وفي السجود ، فلعلَّ الله تعالى أن يستجيب لكم
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ / قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ : دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ ) .
رواه الترمذي ( 1905 ) وأبو داود ( 1563 ) وابن ماجه ( 3862 ) ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .
قال العظيم آبادي – رحمه الله – :
( دعوة الوالد ) أي : لولده ، أو عليه ، ولم يذكر الوالدة ؛ لأن حقها أكثر ، فدعاؤها أولى بالإجابة .
" عون المعبود " ( 4 / 276 ) .
وقال المناوي – رحمه الله - :
( ودعوة الوالد لولده ) لأنه صحيح الشفقة عليه ، كثير الإيثار له على نفسه ، فلما صحت شفقته : استجيبت دعوته ، ولم يذكر الوالدة مع أن آكدية حقها تؤذن بأقربية دعائها إلى الإجابة من الوالد ؛ لأنه معلوم بالأولى .
" فيض القدير " ( 3 / 301 ) .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -
( دعوة الوالد ) في بعض ألفاظ الحديث ( على ولده ) ، وفي بعض ألفاظه مطلقة ( الوالد ) أي : سواء دعا لولده ، أو عليه ، وهذا هو الأصح ، دعوة الوالد لولده ، أو عليه مستجابة ، أما دعوته لولده : فلأنه يدعو لولده شفقة ، ورحمة ، والراحمون يرحمهم الله عز وجل ، وأما عليه : فإنه لا يمكن أن يدعو على ولده إلا باستحقاق ، فإذا دعا عليه وهو مستحق لها : استجاب الله دعوته .
هذه ثلاث دعوات مستجابات : دعوة المظلوم ، والمسافر ، والوالد ، سواء الأم ، أو الأب .
" شرح رياض الصالحين " ( 3 / 157 ) طبعة دار ابن الهيثم .
وقد بينا شروط الدعاء لكي يكون مستجاباً مقبولاً عند الله في جواب السؤال رقم ( 13506 )
وذكرنا أماكن وأوقات إجابة الدعاء في جواب السؤال رقم : ( 22438 ) .
فلينظرا .
وأما ما أنكم لا تساعدونه في أمر زواجه ، ولا تذهبون معه إلى أحد ، فهذا هو الواجب عليكم ، ولو بقي على هذه الحال إلى آخر عمره ؛ فالناس ، كما قلت ـ أيتها السائلة الكريمة ـ سوف يغترون بحالكم ، ويظنون أن ابنكم مثلكم ، أو ـ على أقل حال ـ إن اختلف ، أو ساء أمره ، فلن يتصور أحد أنه قد بلغ هذا المبلغ وينبغي الاستمرار في نصحه والاستعانة بمختص في هذا الباب يجلس معه ويحاوره ويرد على شبهاته ، فهذا قد يكون أجدى وأنفع من المحاورة عبر المواقع الإلكترونية .
نسأل الله أن يهدينا وإياكم سواء السبيل ، وأن يصلح لنا أزواجنا وذرياتنا .
والله أعلم
التعليقات