استراتيجية مكافحة الخرافات والأساطير (الجزء الثالث)

محمود الفقي - عضو الفريق العلمي

2024-07-01 - 1445/12/25
التصنيفات: مقالات

اقتباس

قد يطول بك الأمر إن تفرغت للرد على كل خرافة وتفنيد كل أسطورة وإبطال كل وهْم على حدة؛ فإنك كلما أخمدت خرافة أخرجوا لك أخريات! ومن الحلول التي نقترحها عليك: أن تقارع أصحاب الخرافات ومنشئيها ومروجيها والمنتفعين من...

لكل شعب موروثه من الخرافات، ولكل أمة نصيبها من الأساطير، ولكل مجتمع حظه من الأوهام... ومن تلك الخرافات ما هو وليد الخيال، ومنها ما هو صنعة الهوى والميل، ومنها ما هو نتيجة الجهل والعمى، ومنها ما روَّجه أصحاب السياسة أو أرباب الاقتصاد أو غيرهم لخدمة مصالحهم...

 

ولقد كان لنا لقاءان سابقان مع بعض تلك الخرافات والأساطير التي استشرت في مجال الشريعة والدين، حاولنا فيهما تكوين استراتيجية نقاوم ونكافح ونحارب بها الخرافة لنمحوها من أذهان الناس ومن وجدانهم، ووضعنا لتلك الاستراتيجية خطوات محددة، وقد سبق منها هناك خمس خطوات:

الخطوة الأول: تسليحهم بالعقيدة والعلم الصحيح.

الخطوة الثانية: الكر على مصدر الخرافة بالإبطال.

الخطوة الثالثة: عرض الحقائق لتتكشف تفاهة الأساطير.

الخطوة الرابعة: تحكيم العلم والعقل؛ ليدركوا بهما معنى الخرافة.

الخطوة الخامسة: إلزام الرؤى قدرها... وفيما يلي خطوات أخرى لهذه الاستراتيجية:

 

الخطوة السادسة: بيان زيف أمهات الخرافات كلٌ على حدة:

إن من الخرافات ما يحتاج في إبطاله إلى جهد خاص مستقل؛ لشدة انتشارها، أو لأنها تنزل من النفوس منزلًا تحبه أو تجله، أو لأن لها مؤيدين ومروجين وناشرين... ومثل تلك الخرافات التي "لها مكانة وقدر" عند الناس لا يصلح في إبطالها -عادة- تقعيد القواعد وسرد العموميات، بل لابد أن نفرد لكل مجموعة منها جهدًا على حدة.

 

فمن ذلك: خرافة التشاؤم: فلكل مجتمع من المجتمعات شيء أو أشياء يتشاءم منها، ولا يخلو مجتمع من ذلك، بل لا يكاد يخلو قلب بشر من ذلك؛ فعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، ثلاثًا، وما منا إلا"([1])؛ "تقديره: إلا وفيه الطيرة، أو: إلا قد يعتريه التطير، ويسبق إلى قلبه الكراهية"([2]).

 

ففي بعض المجتمعات يتطيرون بسماع صوت الغراب والبومة، وفي بعضها برؤية ابن عرس أو الثعلب، وفي بعضها يتشاءمون ببعض الأرقام كالرقم (13)، أو ببعض الأيام كيوم الأربعاء، أو ببعض الشهور كشهر شوال!.. وذلك كثير لا تكاد تحصيه... ولهذا وذاك اعتبرنا التشاؤم من أمهات الخرافات...

 

وعلاجاته كثيرة؛ نقلية وعقلية ونفسية وإيمانية قلبية، والعلاجات النقلية طريق إلى العلاجات الإيمانية القلبية، وأنت -أخي الخطيب- أعلم بذلك، لكني أعطيك نموذجًا سريعًا، فالطيرة كما مرَّ من الشرك، ومنفي عن صاحبها الإيمان: "ليس منا من تطير ولا تطير له"([3])، ومحرَّم أن تردك الطيرة عن حاجتك: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك"([4])، والواجب المضي قُدمًا إلى وجهتك: "وإذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا"([5])، ومن الأدعية والتحصينات ما يُذهب الطيرة: "اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله إلا أنت"([6]).

 

وعقليًا وماديًا فلا وجود ولا تأثير للتشاؤم، والعلم التجريبي يرفضه ويكذِّبه، وفي الصحيحين نفي لوجوده: "لا طيرة"([7])، يقول الطيبي شارحًا: "فلا وجود له أصلًا"([8])...

 

ومن أمهات الخرافات -في نظري-: خرافة استقاء العلم من الأبراج والنجوم.. فقد صار من "روتين" وعادة كثير من الناس أن يقرؤا "الطالع" و"حظك اليوم" ومعرفة "أحداث الغد" من خلال الأبراج!... وفي هذا ما لا يخفى من خطر على عقيدة المسلم، ويتفرع عن هذا كثير من الرزايا؛ كالإخلال بالإيمان بالغيب، واختصاص الله -تعالى- وحده بعلمه، ونشر التنجيم المحرم...

 

ومن علاجاته: تجديد إيمان الناس بالغيب، وبأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله، وأن يتعلموا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من اقتبس علمًا من النجوم، اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد"([9]).

 

ومثل هذا فاصنع -أخي الخطيب- مع أمهات الخرافات في مجتمعك؛ تناول كل واحدة منها على حدة، وأصِّل لها شرعيًا وعقائديًا، ثم ماديًا وعقليًا ونفسيًا...

 

الخطوة السابعة: إهانة الخرافة؛ لتهون على أهلها:

فأحيانًا يكون أفضل تفنيد للخرافة أن نهينها فعليًا، وأحيانًا يكون خير برهان ندمغ به الخرافة أن نُحقِّرها عمليًا؛ لا قوليًا ولا نظريًا، وهذا ما صنعه إبراهيم -عليه السلام- عندما حطَّم أصنام قومه: (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ)[الأنبياء: 58]؛ فأبطل عمليًا خرافة أنها آلهة تنفع وتضر، فلو كانت كذلك لدفعت عن نفسها.

 

ولقد آتى هذا الأسلوب في دحض الخرافة النتيجة المرجوة؛ وحطَّم قدر الأصنام داخل صدورهم: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ)[الأنبياء: 64]؛ يقول القرطبي: "أي: رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته، المتفطن لصحة حجة خصمه، (َقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ)؛ أي: بعبادة من لا ينطق بلفظة، ولا يملك لنفسه لحظة"([10])، وأجبرهم أن يعترفوا بعجز أصنامهم: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ)[الأنبياء: 65].

 

ولقد صنع معاذ بن جبل ومعاذ بن عمرو بن الجموح قريبًا من صنيع الخليل إبراهيم؛ فلقد كان لعمرو بن الجموح في داره صنمًا من خشب يعبده ويعظمه ويطهره، فكان "معاذ بن جبل، وابنه معاذ بن عمرو بن الجموح، في فتيان منهم... يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة، وفيها عذر([11])، الناس، منكسًا على رأسه، فإذا أصبح عمرو، قال: ويلكم! من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟ قال: ثم يغدو يلتمسه، حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه، ثم قال: أما والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينه، فإذا أمسى ونام عمرو، عدوا عليه، ففعلوا به مثل ذلك، فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطهره ويطيبه، ثم يعدون عليه إذا أمسى، فيفعلون به مثل ذلك، فلما أكثروا عليه، استخرجه من حيث ألقوه يومًا، فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك.

 

فلما أمسى ونام عمرو، عدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبًا ميتًا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة، فيها عذر من عذر الناس، ثم غدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به، فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكسًا مقرونًا بكلب ميت، فلما رآه وأبصر شأنه، وكلمه من أسلم من رجال قومه، فأسلم برحمة الله وحسن إسلامه"([12]).

 

وليس بعيدًا عن ذلك قول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- لعروة بن مسعود يوم الحديبية: "امصص ببظر اللات"([13])؛ إهانة له ولمن يعبد.

 

فكذلك فأصنع -أيها الخطيب اللبيب- "إن لم تجد عنه مساغًا"؛ أهِن خرافاتهم وتحداها، فإن قالوا: "من مرَّ من فوق طفل نائم، أصابته مصيبة"! فمُرَّ من فوقه مائة مرة.. وإن اعتقدوا أن "من شرب الماء في مأتم، مات ولده"! فاشرب فيه من الماء ما استطعت.. وإن ادَّعوا أن "من أقام مأدبة يوم أربعاء افتقر"! فتعمد فعل ذلك.. لتفند خرافاتهم وترهاتهم عمليًا وتحقِّرها في نفوسهم، بعد أن تكون قد أسقطتها علميًا ونظريًا.

 

الخطوة الثامنة: مقارعة أرباب الخرافات ومروجيها:

أخي الخطيب: قد يطول بك الأمر إن تفرغت للرد على كل خرافة وتفنيد كل أسطورة وإبطال كل وهم على حدة؛ فإنك كلما أخمدت خرافة أخرجوا لك أخريات!

 

ومن الحلول التي نقترحها عليك: أن تقارع أصحاب الخرافات ومنشئيها ومروجيها والمنتفعين من ورائها -إن وجدتَ المصلحة في ذلك- فتدمغهم دمغًا وتفضحهم وتعرِّيهم أمام الناس، فلا يُصدِّق الناس منهم شيئًا ويعُدُّون كل ما يقولونه أكاذيب وأباطيل.

 

ولقد جابه الخليل إبراهيم -عليه السلام- النمروذ لإبطال خرافته بأنه إله يحي ويميت! (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)[البقرة: 258]، نعم، كانت النتيجة أن بهت النمروذ؛ "يعني: تحير نمرود ودهش وانقطعت حجته ولم يرجع إليه شيئًا، وعرف أنه لا يطيق ذلك"([14]).

 

وقد تصل تلك المجابهة إلى حد إبراز عيوب أرباب الخرافات ومسالبهم الشخصية؛ ليسقطوا من أعين المتأثرين بهم، ولعلهم يرتدعون عما يصنعون، ولقد نزلت الآيات في بدايات سورة القلم تصنع ذلك: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)[القلم: 10-13]، ولقد "قال جمع من المفسرين: المراد بالحلاف المهين: الوليد بن المغيرة"([15])، وما زال القرآن الكريم يذكر من عيوبه وعيوب أمثاله حتى عيَّره بأنه "ولد زنا": (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)، والزنيم "هو الدعي الملصق في القوم وليس منهم.. قيل: إنما ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة!.. قال ابن قتيبة: "لا نعلم أن الله وصف أحدًا ولا ذكر من عيوبه مثل ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة؛ فألحق به عارًا لا يفارقه في الدنيا ولا في الآخرة"([16]).

 

وما صنع القرآن ذلك به إلا حين بلغ أذى الوليد وشره وتكبره ومحادته لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- مبلغه، وحين استشرى شره وبغيه.. فكان حقًا أن يجابَه ليُسقَط ولا يغتر به أحد.

 

فلك -أيها الخطيب- أن توازن بين المصالح والمفاسد، وتختار ما يناسب الأحوال، فتبدأ بالنصيحة والموعظة ثم بالحجة والبرهان، فإن تعدَّى أرباب الخرافات وتجبروا فلا مناص من مجابهتم ولو وصل الأمر أن نجرِّح أشخاصهم إن لم يكن من سبيل آخر، وضمنَّا ألا يكون الضرر أعظم من الفائدة.

 

([1]) رواه الترمذي (1614)، وأبو داود (3910)، وصححه الألباني (الصحيحة: 430).
([2]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، لبدر الدين العينى (14/151)، ط: دار إحياء التراث العربي - بيروت... ومن العلماء من رجح أن قوله: "وما منا إلا.." من إدراج ابن مسعود.
([3]) رواه الطبراني في الكبير (355)، والبزار (3578)، وصححه الألباني (الصحيحة: 2195).
([4]) رواه أحمد (7045)، والطبراني في الكبير واللفظ له (38)، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 6264).
([5]) رواه أبو بكر الشافعي في الفوائد (426)، وصححه الألباني (الصحيحة: 3942).
([6]) رواه أحمد (7045)، والطبراني في الكبير واللفظ له (38)، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 6264).
([7]) رواه البخاري (5754)، ومسلم (2223).
([8]) شرح الطيبي على مشكاة المصابيح (9/2984)، ط: مكتبة نزار مصطفى الباز مكة المكرمة والرياض.
([9]) رواه أبو داود (3905)، وابن ماجه (3726)، وحسنه الألباني (الصحيحة: 793).
([10]) تفسير القرطبي (11/302)، ط: دار الكتب المصرية - القاهرة.
([11]) العذر: جمع عذرة، وهي فضلات الناس.
([12]) السيرة النبوية لابن هشام (1/452-453)، ط: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
([13]) رواه البخاري (2731).
([14]) تفسير الخازن (1/193)، ط: دار الكتب العلمية، بيروت.
([15]) تفسير التحرير والتنوير (29/71)، ط: الدار التونسية للنشر، تونس.
([16]) تفسير الخازن (1/193).

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life