استراتيجية عرض الخلاف فوق المنبر (1)

محمود الفقي - عضو الفريق العلمي

2023-03-11 - 1444/08/19
التصنيفات: تدريب

اقتباس

والعلماء والفقهاء من جملة البشر، يجري عليهم ما يجري على البشر؛ فهم يجتهدون ويختلفون، بل لقد اختلف الصحابة من قبلهم حتى في حضرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما نهاهم، ويدرك الإمام أحمد طبيعة الأمر فيلخصه قائلًا...

إنك تعلم كما أعلم أنه في الغالب ما من مسألة فقهية -أو غير فقهية- إلا اختلف فيها العلماء، وتعلم أنه من النادر أن تجد في مسألة ما -عدا الأصول المجمع عليها- قولًا واحدًا فقط، بل إنك لتجد في المسألة الواحدة قولين أو ثلاثة أو عشرة أو عشرين أو أكثر...

 

ومع إيماننا أنه من الطبيعي أن يختلف العلماء، لكن تبرز إشكالية تقول: وكيف يتعامل الخطيب مع هذا الاختلافات الكثيرة فوق منبره؟! وما يبدي منها وما يتجاهل؟! وبم يُفتي إذا سئل؟ وماذا يطرح منها ويتبنى؟!... وللجواب على هذه الأسئلة وغيرها نُقدِّم هذه الاستراتيجية؛ "استراتيجية التعامل مع المسائل الخلافية فوق المنبر"، وفيما يلي عدد من بنودها:

البند الأول: إبراز المتفق عليه، ودفن الخلافيات:

فإياك إياك -أخي الخطيب- أن تخوض في كل خلاف للعلماء تصادفه أثناء تناولك لموضوعك على المنبر؛ فإن في ذلك إلقاء ببعض سامعيك إلى التهلكة؛ إذا يخرج مفتونًا يردد: أليس دين الله واحد والقرآن واحد والسنة واحدة.. فكيف إذن يختلفون؟! وصدق عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- حين قال: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة"([1]).

 

وفي نقلك لكل خلاف تشتيت للبعض الآخر وتضييع لاستفادته من خطبتك؛ حيث يخرج مذبذبًا لا يدري ما الصواب من هذه الأقوال وما الراجح! وما كان الداعي لأنْ تُعرض على المنبر؟!

 

وفي البعد عن نقل الخلافيات فوائد كثيرة منها: الحذر من تصوير الدين أنه دين خلافات، ومنها: تجنب استعداء المخالفين لك، ومنها: طمأنينة قلوب السامعين وثباتها، ومنها: إقبال جمهورك على العمل بما تأمرهم بلا تردد ولا تذبذب...

 

ومراعاة عقول السامعين والحذر من إقحامهم فيما لا يفهمون هو منهج العلماء الناصحين في كل زمان، فهذا النضر بن شميل يحكي فيقول: سأل رجلٌ الخليل عن مسألة، فأبطأ بالجواب، فقال له صاحبه: لم تنظر، فليس فيه هذا النظر؟! فقال: "قد عرفت مسألتك وجوابها، وإنما فكرت في جواب يكون أسرع لفهمك"([2]).

 

فإذا تحدثت -أخي الخطيب- في خطبتك عن زكاة الفطر -مثلًا- وكنت في مجتمع يخرجونها طعامًا، فلا داعي لأن تتعرض لإخراج قيمتها نقودًا، وما الفائدة؟!... وإن كنت في مسجد يضعون أيديهم على صدورهم في صلاتهم فلا تتعرض لباقي مذاهب الفقهاء في ذلك، وما الفائدة؟!... وإن كنت بين من يصلون الفجر في الإسفار فما الفائدة من عرض خلاف من يصليه في الغلس؟!...

 

واعلم -أخي خطيب الجمعة- أن للخلاف أهله ومحله؛ فأما محله ففي دروس خاصة لمدارسة الفقه المذهبي أو المقارن، وأما أهله فهم من امتلكوا قدرًا من الوعي والثقافة والعلم الشرعي... لا أن يُطرح ذلك على عوام الناس ممن لا يفقهون طبيعة الخلاف فيكون عليهم شرًا.

 

البند الثاني: تبني التيسير:

ولست بحاجة وأنا أخاطب خطباء المنابر أن أقول: أن ديننا دين اليسر والسماحة...

وهذا التيسير قد يكون بذكر الأيسر من أقوال العلماء: فقد قال الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- : "الإنسان إذا اختلفت عليه الفتوى، فإنه يتبع من يراه أقرب إلى الحق؛ لغزارة علمه، وقوة إيمانه... وإن تساوى عنده الأمران، أي لم يرجح أحد العالمين المختلفين: فقال بعض العلماء: إنه يتبع القول الأشد؛ لأنه أحوط، وقال بعض العلماء: يتبع الأيسر؛ لأنه الأصل في الشريعة الإسلامية، وقيل: يخيَّر بين هذا وهذا.

 

والراجح: أنه يتبع الأيسر؛ لأن هذا موافق ليسر الدين الإسلامي؛ لقول الله -تبارك وتعالى-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة: 185]"([3]).

 

وقد يكون التيسير بذكر الأنسب لحال جمهورك، أو لحال سائلك: فعن أبي هريرة أن رجل سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المباشرة للصائم فرخص له، وأتاه آخر فسأله، فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، والذي نهاه شاب([4])، وعند الطبراني: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سأله الشاب عن القبلة نهاه، وإذا سأله الشيخ رخص له، وقال: "إن الشاب ليس كالشيخ".

 

وقد روي عن ابن عباس أن رجلًا سأله عن توبة القاتل فقال: "لا توبة له"، وسأله آخر فقال: "له توبة"، ثم قال: أما الأول: فرأيت في عينيه إرادة القتل فمنعته، وأما الثاني: فجاء مستكينًا وقد قتل، فلم أؤيسه"([5]).

 

فلكل ما يناسبه، والأمر كما قاله المتنبي:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلى *** مضر كوضع السيف في موضع الندى

 

بل هذا الإمام الشافعي يقول: "المستفتي عليل، والمفتي طبيب، فإن لم يكن ماهرًا بطبه، وإلا قتله"([6]).

 

البند الثالث: تنبيه الجمهور أن الخلاف طبيعة وفطرة:

فلو لم يختلف البشر فما هم ببشر؛ فإن الاختلاف من طبيعة البشر، بل من طبيعة جميع المخلوقات، ومن لم يصدق فليقرأ القرآن، فكل ما على وجه الأرض مختلف: (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ)[النحل: 13]، والثمرات مختلفة: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ)[الأنعام: 141]، وأشكال بني آدم ولغاتهم مختلفة: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ)[الروم: 22]، ومشارب الناس مختلفة: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)[هود: 118]، يعلق الشاطبي قائلًا: "فتأملوا رحمكم الله، كيف صار الاتفاق محالًا في العادة، ليصدق العقل بصحة ما أخبر الله به"([7])، فالخلاف سنة من سنن الله في خلقه.

 

والعلماء والفقهاء من جملة البشر، يجري عليهم ما يجري على البشر؛ فهم يجتهدون ويختلفون، بل لقد اختلف الصحابة من قبلهم حتى في حضرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما نهاهم، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يوم الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يعنف واحدًا منهم([8]).

 

ويدرك الإمام أحمد طبيعة الأمر فيلخصه قائلًا: "لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا"([9]).

 

البند الرابع: إعلامهم بفوائد اختلاف التنوع:

فلتنقل -أخي الخطيب- ذلك إلى جمهورك ليدركوا أن الاختلاف طبيعة في البشر، وأن اختلاف العلماء يكون أحيانًا رحمة وسعة للأمة، يقول القاسم بن محمد بن أبي بكر: "لقد نفع الله -تعالى- باختلاف أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في أعمالهم؛ لا يعمل العالم بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أنه خير منه قد عمله"([10]).

 

ويقول عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "ما أحب أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولًا واحدًا كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، ولو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة"([11]).

 

ويلخص ابن عابدين فيقول: "وعلم بأن الاختلاف من آثار الرحمة، فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر"([12]).

 

ثم أطلعهم على شيء يسير من أسباب الاختلاف بين العلماء مثل: تفاوت الأفهام، وتفاوت البيئات والظروف والأحوال، ووصول الدليل إلى بعضهم دون البعض، وتعارض الأدلة في ظاهرها، وعدم وجود نص في المسألة...

 

ولا يعترضن معترض فيقول: أليس الأولى إخفاء الخلافات عنهم وإِطْلاعهم على ما يصلحهم دون ما يفتنهم؟...

ونجيب: هذا ما دعونا إلى شيء منه في البند الأول من هذا المقال؛ أن ننأى بهم عن الخلافيات ما استطعنا أثناء الخطبة... وهنا أقول: إنك وإن ابتعدتَ عن الخلافيات أثناء خطبتك، فلن تستطيع أبدًا أن تمنع اختلافات العلماء أن تصل إلى آذان الناس وعقولهم؛ بل ستصلها لا محالة إن استمعوا إلى خطبة غير خطبتك، وستصلهم لا محالة عبر التلفاز أو الصحف أو الكتب أو الشبكة العنكبوتية "الانترنت"... فالأولى إذًا أن تحصنهم -أخي الخطيب- بالتوعية والتنبيه على كون الخلاف فطرة.

 

 

------------
(([1] مسلم (باب النهي عن الحديث بكل ما سمع).
(([2] الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (2/ 400)، ط: دار ابن الجوزي - السعودية.
(([3] ينظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين.
(([4] أبو داود (2387)، والطبراني في الأوسط (8421)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن أبي داود).
(([5] الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (2/407).
(([6] الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (2/394).
(([7] الاعتصام للشاطبي (3/202)، ط: دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية.
([8]) البخاري (4119)، ومسلم (1770).
([9]) سير أعلام النبلاء للذهبي (11/371)، ط: مؤسسة الرسالة.
(([10] جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (2/900)، ط: دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية.
(([11] جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/901).
(([12] رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين (1/68)، ط: دار الفكر بيروت.

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life