اقتباس
رمضان فرصة لا تعوض؛ يأتي إليك -أيها الخطيب- فئام من الناس من غير ما عناء منك ولا نصب، ويدخل المسجد من لا يدخله طوال العام، يسمعك من لم يسمعك قط، يأتي الناس طالبين للهدى قد فتحوا القلوب لاستقباله، قد صفِّدت الشياطين التي تشكل ممانعة لما تدعو إليه الناس فصرت في الساحة وحدك لا منافس لك... فإياك أن تفوت الفرصة فينفض الرمضانيون من حولك لم يتغير فيهم شيء!..
غالبًا ما يبذل الخطيب جهدًا كبيرًا في جذب الناس إلى المسجد وتحبيبهم فيه، وجهدًا أكبر في الوصول إلى من لا يأتيه في محل عمله أو على المقهى أو حتى في بيته، وقد يستغرق هذا وذاك وقتًا وفكرًا وجهدًا عظيمًا، ثم في النهاية لن يصل الخطيب إلى جميع الناس بل سيسقط منه أقوام.
وتلك إشكالية ضخمة تشغل بال كل خطيب مخلص غيور وتقلق نومه؛ إنه في مسجده يخطب ويعلِّم ويؤدب ويعظ من أمامه، وأقوام آخرون في واد آخر لا يصل هو إليهم، ولا يسمعون هم عنه، فمتى يعلِّمهم وكيف يصل إليهم؟!
ومن منة الله -تعالى- على الخطيب في شهر رمضان أنه -عز وجل- قد كفاه مؤنة ومعاناة الوصول إلى من بَعُد ومن نفر ومن جهل بأن ساقهم بأرجلهم إليه في مسجده.
لذلك فإن رمضان فرصة لا تعوض؛ يأتي إليك -أيها الخطيب- فئام من الناس من غير ما عناء منك ولا نصب، ويدخل المسجد من لا يدخله طوال العام، يسمعك من لم يسمعك قط، يأتي الناس طالبين للهدى قد فتحوا القلوب لاستقباله، قد صفدت الشياطين التي تشكل ممانعة لما تدعو إليه الناس فصرت في الساحة وحدك لا منافس لك.
وما عليك -إذن- إلا أن تخلص النية وتبذل الجهد وتمشي على خطة متقنة محددة الخطوات لاستثمار هذه الفرصة التي لا تسنح إلا مرة في كل عام، وقد عقدنا هذا المقال خصيصًا كي نساعدك على وضع هذه الخطة الرمضانية -خشية أن ينفض الرمضانيون من حولك لم يتغير فيهم شيء- وذلك من خلال البنود التالية:
البند الأول: تهيئة الناس لقدومه:
لعلك تتفق معي -أيها الخطيب- أن أغلب الناس اليوم يحيون في دوامة من العمل والكد واللهو والغفلة، تطويهم الدنيا وتأسر قلوبهم وتكبل حتى أفكارهم... لذا فأول واجبات الخطيب تجاه ذلك أن يساعد الناس على الإفاقة من تلك الغفلة وعلى تحرير قلوبهم مما يكبلها.
فقبل أن يدخل رمضان ينبغي تهيئة القلوب والأرواح والأجساد لقدومه؛ كي لا يضيع منه شيء في تهيئة واستعداد، بل يهل هلال الشهر المبارك وقد تاقت إليه النفوس وهفت إليه الأرواح واستعدت لصيامه وقيامه الأبدان، لا أن يفاجئ الناس -في غمرة مشاغلهم وغفلاتهم- أن الليلة هي أول ليالي رمضان! فيدخل عليهم الشهر وغبار الدنيا ما زال يغلف قلوبهم وما مسحوا أثر نومة الغفلة عن وجوههم! ولعلهم لا يفيقون إلا وقد انقضى نصفه أو انقضى كله!
وما عهدنا من طبيعة الدنيا ولا من سنتها أن يبلغ شيء القمة بلا مقدمات ومجاهدات، فالتدرج سنة الكون، فالطفل لا يصير شابًا في لحظات! والسيارة لا تبلغ أقصى سرعتها دفعة واحدة! بل لا بد من التدرج... فكذلك القلب؛ لن ينتقل من غفلة طوته عامه كله إلى يقظة شاملة تبلغه المعالي في لحظة، ولن ينشط الجسد الذي اعتاد أن ينام الليل كله -بل أن ينام عن صلاة الفجر- فجأة إلى قيام الليل والتهجد... فلا بد أيضًا من التدرج؛ لا بد من فترة تمهيدية تجهيزية تدريبية.
ولعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كان يكثر من الصيام في شعبان -طالبًا اقتداء أمته به- إلا ليصنع ذلك؛ فإن شعبان تمهيد وتهيئة لرمضان، ولما سئل -صلى الله عليه وسلم-: "لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان؟!" كان من ضمن إجابته -صلى الله عليه وسلم-: «ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان...»([1])، فأرد لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يفيقوا من غفلتهم تلك كي يستقبلوا رمضان متيقظين منتبهين مستعدين... فإن كان هذا في عصر الصحابة الكرام الأبرار الأخيار فما بالك بعصر الكسالى البطالين الغافلين؟!
فهذا تنبيه من النبي -صلى الله عليه وسلم- من بداية شعبان، فإذا كاد هلال رمضان أن يهل، كانت من النبي -صلى الله عليه وسلم- إشارة البدء لسباق منتهاه ليلة عيد الفطر، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما حضر رمضان قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين...»([2]).
فليعمل الخطيب إذن على تهيئة الناس لاستقبال هذا الشهر قلبيًا وفكريًا وجسديًا، ومن وسائل ذلك الدعاء؛ فيكثر قبل دخول رمضان بمدة أن يدعو: "اللهم بلغنا رمضان"، أو أن يذكُر شيئًا من فضائله -إن جاءت مناسبة- مشوقًا النفوس إليه، أو أن يأمر بصيام التطوع في شعبان ويعدِّد فضائل الصوم عامة، أو أن ينبه في كل جمعة فيقول: "بقيت جمعتان أو ثلاثة أو كذا من الأيام على رمضان"، ومن وسائل ذلك أيضًا تعليق لوحات أو توزيع مطويات تبشر بقدوم الشهر الكريم...
البند الثاني: إشاعة روح جديدة:
نعم، على الخطيب أن يشيع روحًا جديدة متجددة في رمضان، يُشعِر الناس أنهم في أمر مختلف وشأن مغاير وزمان فاضل غير ما مر وغير ما كان، فإن لإشاعة هذه الروح أثر بالغ في شحذ الهمم وتنشيط القلوب والأجساد وتركيز العقل والفكر والإفاقة من الغفلة... وذلك عن طريق إزالة الملل والرتابة، والإشعار بأنه زمان غير تقليدي وغير عادي، وإنما هو طفرة في الزمان، وشامة في الأيام، وكسر لتقاليد العادة في الأكل والشرب والنوم والصلاة والذكر...
وها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج في أول ليلة من ليالي رمضان فيشيع تلك الروح الرمضانية ويهنئ الناس بقدوم هذا الشهر الفضيل يزفها بشرى سعيدة، وهذا ما لم يكن يفعله -صلى الله عليه وسلم- في أي شهر آخر، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: دخل شهر رمضان فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن هذا الشهر قد دخل، وهو شهر الله المبارك...»([3]).
ومن وسائل بث تلك الروح الجديدة أن ينبه الخطيب الناس إلى استقبال رمضان بشكل مختلف مغاير غير تقليدي، فيُستقبَل -مثلًا- بهذه الست:
الأولى: بفرحة: نعم، فرحة تملأ القلب والجوارح والأركان، وعماد هذه الفرحة وسببها هو الفضائل الكثيرة لشهر الصيام والقيام، وما للناس لا تفرح بشهر تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار... فمن لم يفرح بهذا فمتى يفرح؟!
الثانية: بوقفة ثم بتوبة: فأما الوقفة فينظر فيها المرء إلى تقصيره في أمر آخرته، وماذا قدَّم لغده: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]، ثم إذا حاسب نفسه فاكتشف التقصير، استتبع واستدعى ذلك توبة: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]، وهذا وذاك خير ما يُستقبل به رمضان.
الثالثة: بقلب سليم: فهو أساس صلاح الجوارح جميعها: «ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»([4])، والقلب السليم هو ما سلم من الشرك وشوائب التوحيد، وسلم من الغل والحقد والحسد... وسلم من التعلق بالشهوات والنزوات... ولن يحس ويستفيد وينتفع برمضان إلا من استقبله بقلب سليم.
الرابعة: بنية صادقة: وهي تأمين مسبق على ثواب رمضان، ونقصد أن ينوي -بقلبه- حسن الصيام وطول القيام والاستزادة من القربات، فيحرز الأجر بنيته حتى إن حيل بينه وبين صنع ما نوى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [النساء: 100].
الخامسة: بعزيمة مشحوذة: ولا يستقيم أمر إنسان إلا بها، عزيمة فتيَّة يأخذ بها النفس بقوة، ويتغلب بها على شهواتها ورغباتها، ويتسامى بها على دواعي الخمول والخمود والكسل، ويبلغ بها درجة الإتقان والإحسان ويسعى بها نحو الكمال...
السادسة: بالتخفف من مشاغل الدنيا: وهذا من عوامل الإفاقة من الغفلة، فيخرج من دوامة مشاغله الدنيوية -بعضها لا كلها- ليناله موعود الله -عز وجل- في الحديث القدسي: «يا ابن آدم تفرغ لعبادتي، أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإن لم تفعل، ملأت صدرك شغلًا، ولم أسد فقرك»([5]).
ويفصِّل الخطيب ذلك كله في الخطبة التي تسبق رمضان مباشرة، وليكن عنوانها -مثلًا-: "بما نستقبل رمضان".
البند الثالث: إثارة روح التحدي:
نعم، لا بد لإتمام هذا الشهر على الوجه الأكمل من التحدي؛ تحدي النفس والهوى، والجسد والشهوة، ومشاغل الدنيا ومشاكلها، وباختصار: تحدي الجواذب والقواطع والمثبطات، وأسباب تحقيق ذلك كثيرة، منها:
(1) بث الروح التنافسية والإشعار بالفرصة السانحة: إن من يأتي لتسويق سلعة ما إنما ينجح في إقناعك إذا ما أشعرك أنها "فرصة لا تعوض" بمعنى عظم مميزاتها مع زهيد سعرها، وكذلك فلتفعل أنت -أيها الخطيب اللبيب- كما فعل قدوة الخطباء -صلى الله عليه وسلم- حين قال: «إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين»([6])، فهي فرصة سانحة مواتية، الأسباب فيها مذللة ميسرة.
وهي كذلك فرصة لا تعوض، فقد قال الله -تعالى-: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر: 3]، فليلة واحدة أفضل من ألف شهر، فهل بعد ذلك فرصة؟!
(2) التحذير من حسرة الفوات: أي تنبيه الناس على عظم خسارتهم إن ضيعوا رمضان، وهذا ما فعله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: «أتاني جبريل، فقال: يا محمد، من أدرك رمضان فلم يغفر له، فأبعده الله، قلت: آمين»([7])... وعن ليلة القدر قال -صلى الله عليه وسلم-: «من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم»([8]).
فيوقد الخطيب في صدور السامعين نار الخوف من الحرمان من الأجر والبوء بالخسران، فلا يقر لهم قرار حتى يكونوا من الفائزين بذلك الشهر.
(3) التخفيف بأنها: "أيامًا معدودات": فكلما طالت المدة كلما ملت النفس، ألا ترى أن الله -تعالى- قال عن أهل الكتاب: (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الحديد: 16]! لذا فنبه -أيها الخطيب- وقرر في الأذهان أنما هي أيام قلائل، كما قالها الله -تعالى-: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) [البقرة: 184]، فما أن تبدأ حتى تنتهي وما أن تدخل حتى تخرج، وإذا مر منه أسبوع فقل: "انقضى ربعه"، وبعدها بثلاثة أيام فلتقل: "انفلت ثلثه"، وبعدها بأربع فنبه: "مر نصفه"، وبعدها بأيام فقل: "ودخل العشر الأخير"... وهكذا حتى يستشعر الناس سرعة مروره وانقضائه وفواته فيستغلونه بما استطاعوا، ويتحَدَّوا مرورها بالجد، وينتفي عنهم الملل.
(5) رفع شعار "خير رمضان مر علينا": وعلى الخطيب مهمة أن يروِّج لهذا الشعار، فمن الناس من مر عليه عشرون من الرمضانات أو ثلاثون أو أربعون... ولا يخلو واحد منها من خلل وتقصير... ومهمة الخطيب -هنا- أن يحفز القلوب لإخراج رمضان هذا بلا خلل ليكون: "خير رمضان مر علينا"، وبهذا تثور فيهم روح التحدي؛ تحدي الزلل والكسل والنقص.
(6) التصبر بعظم الأجر: وقد فعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرارًا: «من صام يومًا في سبيل الله، باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا»([9])، و«من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»([10])، والمحفزات على اغتنام رمضان كثيرة، أنت أعلم بها.
(7) النظر في القدوات وقراءة تراجم الصوامين والقوامين والعُبَّاد: فإن ذلك مما يجدد العزم لمواصلة الجهد، ويزرع روح التحدي ليبلغ المرء ما بلغوا ويزاحمهم بالأكتاف على باب الريان، وحسبنا هنا قولة أبي مسلم الخولاني وقد علق سوطًا في مسجد بيته فإذا دخلت الفترة تناول سوطه وضرب به ساقه وهو يقول: «أيظن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يستأثروا به دوننا! كلا والله لنزاحمهم عليه زحامًا، حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالًا»([11]).
وإثارة هذه الروح منهج قرآني، فكم نسمع القرآن الكريم يقول: (وَسَارِعُوا...) [آل عمرآن: 133]، (سَابِقُوا...) [الحديد: 21]، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26]...
البند الرابع: تحصين الجموع من الانقطاع:
فمن المعروف المشاهد في كثير من المساجد أنها تمتلئ وتكتظ بالمصلين في الأيام الأولى من رمضان، ثم تقل الأعداد تدريجيًا حتى لا يبقى في المساجد إلا الذين هم أهلها طوال العام، ومهمة الخطيب -هنا- أن يبقي على تلك الجموع داخل المسجد ويربطها به، فلا يخرجوا إلا آخره وعلى نية المداومة، ووسائل تحقيق ذلك كثيرة، منها:
(1) لفت النظر أن الثلث الأخير من رمضان هو أفضله: وهو ما يكسل كثير من الناس ويملون قبل مجيئه، فيشوقهم دومًا بوصول العشر حتى تكون لهم غاية وتنبت لديهم إرادة للمواصلة إليه.
(2) عقد المسابقات اليومية بين التراويح، وتكون جوائزها فورية، وبعض أسئلتها صعبة تُتلقى إجابتها في الليلة التالية، وليحرص الخطيب على الإيجاز مع الإفادة.
(3) الحث على التقلل من الطعام والشراب، مستخدمًا التشبيه بالجواد المضمر: فللمثال الحاضر في الأذهان دور كبير في إثارة الهمم، ومثالنا خيول في مضمار السباق؛ فأقدرها على المواصلة أخفها وأجلدها، والسابق للجميع هو: "الجواد المضمر السريع" والجواد المضمر: هو الذي ينقص علفه بعد سمنه لينقص لحمه ويزداد جريه، وكذا من أراد السبق من البشر؛ لا بد أن يقلل من الطعام و«ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن»([12]).
(4) تزويدهم بالإيمانيات:
البند الخامس: تحطيم الشواغل والقواطع:
تلك العوائق وعوامل السقوط التي تقطع عن السير وتثبط الهمم وتغيِّر القلوب وتفسد النفوس، والتي إن وقع فيها أحد فهو معرض للسقوط والانقطاع فضياع فرصة رمضان منه، ومنها:
(1) بعض قنوات التليفزيون: والتي تُشحن بالملهيات المخذَّلات في رمضان من أفلام ومسلسلات... كيدًا من شياطين الإنس للصائمين في رمضان، وكفى أن نحسبها عمليًا؛ فساعة من فيلم أو سواه تعني -تقريبًا- عشرة آلاف لقطة وصورة، فلو كان نصفها مباحًا والنصف ممنوع، فمعنى ذلك خمسة آلاف سيئة وخطيئة في ساعة واحدة! فهذا حري أن ينقطع عن العبادة.
بل لو كانت كلها من المباحات، أما كان الأولى بالمسلم قضاء تلك الساعة في ذكر أو عبادة، خاصة في هذا الشهر الفضيل؟!
(2) الإسراف في اللقاءات العائلية: صلة الرحم مطلوبة، بل هي من الفرائض، لكن الإسراف في كل شيء منهي عنه، حتى لقد وجدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- يحل حبل زينب الذي تتعلق فيه إذا فترت لتواصل قيام الليل ويقول: «ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد»([13])، كذلك وجدناه -صلى الله عليه وسلم- ينهى عبد الله عمرو بن العاص عن المبالغة في العبادة...
وكذلك فإن المبالغة في صلة الأرحام بحيث تشغل عن العبادة وتخذل عن القرآن والتراويح... من جملة الشواغل والقواطع.
(3) تضيع العشر الأخير -مع أنه أفضل رمضان- في شراء الملابس للعيد وفي صنع أصناف المأكولات وفي كثير من العادات، وهذا من صرف الوقت الفضيل الثمين فيما يمكن الاستغناء عنه!
فعلى الخطيب أن يحذِّر من هذه القواطع -وغيرها كثير- ويقدم البيان الوافي وحلول "المعضلات" التي يثيرها بعض سامعيه متحججًا لانشغاله عن اغتنام الفرصة الرمضانية.
البند السادس: تكريس أوقات الصائمين:
بعقد برنامج يومي مسجدي يبدأ بالسحور الجماعي، ثم صلاة الفجر، ثم الجلوس للشروق للذكر والقرآن، ثم الخروج إلي الخلاء لشم الأنفاس أو لعب الرياضة، ثم العودة للقيلولة أو التبكير للعمل، ثم اللقاء في المسجد في صلاة الظهر، ثم درس بعد العصر، ثم الإفطار الجماعي، ثم الاستعداد لصلاة العشاء والتراويح، ثم العودة إلى المنزل للنوم ساعات يعقبها النزول للتهجد، ثم الجلوس للدعاء والقرآن... ويكون كل ذلك بقيادة إمام المسجد وخطيبه، ويتكرر ذلك يوميًا طوال رمضان مع تغيير الخطة من يوم إلى يوم لعدم الإملال، وكذلك تطويعها لتلائم ظروف الحي والناس والبلد... وما هذا إلا نموذج ومثال.
والمقصد من تكريس اليوم بهذه الصورة: عدم ترك وقت فراغ يتساقط فيه المتساقطون، أو وقت يهدر ويضيع من المجتهدين، وكذلك إعانة من يريد العبادة ولا يدري طريقها، وثالثًا تقديم الصحبة والعون للعابدين؛ فإن المرء يأنس وينشط ويثبت إذا ما وجد الصحبة الصالحة...
البند السابع: التحذير من آفات تأكل الحسنات:
ولنسميها: "لصوص رمضان"؛ لأنها قد تحبط الأجور التي قد حصَّلها العبد من عباداته، ومن تلك الآفات واللصوص:
(1) الغيبة والنميمة: وعجبًا لمن أمسك عن الحلال ولم يمسك عن الحرام! وقد قال الحنفية في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أفطر الحاجم والمحجوم»([14])؛ «لأنهما كانا يغتابان حتى حبط أجرهما بالغيبة فصارا كالمفطرين»([15]).
(2) الجدال والنزاع وقول الزور: فهو محبط لأجور العبادات: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه»([16])، وليس بعيدًا عنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر»([17]).
(3) الكسل والانشغال بالتوافه: وإن لم يصح أن نقول بأن هذين من المحبطات، إلا أنهما يستنفذان الأوقات التي هي محل الأعمال الصالحات فلا تُفعل من الأصل! فلعلهما أشد من المحبطات.
وما هذه -أيضًا- إلا نماذج، وإلا فإن كل معصية تمحق من الأجور وتقطع عن الأعمال الصالحات، ومن مهمات الخطيب محاربة تلك الآفات والتحذير منها.
البند الثامن: زرع بذور المداومة والاستمرارية:
فليس هدفك -أيها الخطيب- أن يعبد الناس ربهم في رمضان ثم يعودوا بعد ذلك لما كانوا عليه من تقصير وغفلة، وإنما الهدف أن نجعل من رمضان بداية لصفحة جديدة نقية طاهرة، وانطلاقة تزداد كل يوم قوة وإخلاصًا وسموًا حتى توصل صاحبها إلى الدرجات العلى من الجنة.
ومن بذور المداومة والاستمرارية التي ينبغي على الخطيب أن يبذرها في قلوب سامعيه ثم يتعاهدها بالري ما يلي:
(1) تعلق العبادة بالله لا برمضان: ونستعير هنا كلمة أبي بكر -رضي الله عنه- فنقول: "من كان يعبد رمضان فإن رمضان ولى وقد لا يعود، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، وقد قالوا: "كن ربانيًا ولا تكن رمضانيًا".
(2) الإعلام بأنه: «أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل»([18])، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كان عمله ديمة»([19])، وأن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع.
(3) قضية: قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يبعث كل عبد على ما مات عليه»([20])، مع قوله الله -تعالى-: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان: 34]؛ فإن كان الأمر كذلك، وهو لا يملك أن يموت في رمضان، فقد يموت في حال التقصير والتفريط بعده، فيختم له بتلك الحال -والعياذ بالله-، فالحزم أن يداوم على الطاعة دائمًا أبدًا؛ فإن "من عاش على شيء مات عليه"، لذا قال -تعالى-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99].
(4) المداومة من علامات القبول: قالوا: "ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل"... إلى آخر أسباب الاستمرارية المعلومة المعروفة.
***
ولا شك أن هذه البنود الثمانية تستدعي من الخطيب مضاعفة الجهد وبذل الوقت وتعاهد الإخلاص... حتى يرى الثمرة ويظهر الأثر ولا يكون رمضان شهر واحد وينفض، بل يكون العام كله.
وما قصدت ها هنا حصرًا ولا قصرًا، وإنما هو فتح الباب لكل خطيب أن يخطط لاغتنام تلك الفرصة التي لا تُعوض، سائلين الله -تعالى- أن يخلص لوجهه نياتنا وأقوالنا وأعمالنا وأن يبلغنا رمضان.
----
([1]) النسائي (2357)، وأحمد (21753)، وحسنه الألباني (الصحيحة: 1898).
([2]) أحمد (9497)، وأصله في البخاري (1899)، ومسلم (1079).
([3]) الطبراني في الأوسط (1444)، وابن ماجه (1644)، وحسنه الألباني (المشكاة: 1964).
([4]) البخاري (52)، ومسلم (1599).
([5]) ابن ماجه (4107)، والترمذي (2466)، وصححه الألباني (الصحيحة: 1359).
([6]) البخاري (1899)، ومسلم (1079).
([7]) ابن حبان (409)، والطبراني في الكبير (649)، وصححه الألباني لغيره (صحيح الترغيب والترهيب: 996).
([8]) ابن ماجه (1644)، والطبراني في الأوسط (1444)، وصححه الألباني (صحيح الترغيب والترهيب: 1000).
([9]) البخاري (2840)، ومسلم (1153).
([10]) البخاري (2014)، ومسلم (760).
([11]) الإحياء للغزالي (4/411- 412)، الناشر: دار المعرفة بيروت.
([12]) ابن ماجه (3349)، والنسائي في الكبرى (6737)، وصححه الألباني (الصحيحة: 2265).
([13]) البخاري (1150)، ومسلم (784).
([14])ابن ماجه (1679)، والنسائي في الكبرى (3160)، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 1136).
([15]) البناية شرح الهداية للعينى (4/110)، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1420هـ.
([16]) البخاري (6057).
([17]) ابن ماجه (1690)، والنسائي في الكبرى (3236)، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 3488).
([18]) البخاري (6464)، ومسلم (783).
([19]) البخاري (1987)، ومسلم (783)، من كلام أم المؤمنين عائشة.
([20]) مسلم (2878).
التعليقات