اقتباس
ومن هنا يجب على الخطيب أن يعتمد في خطته الدعوية استراتيجية التغير الاجتماعي معتمدا على ثلاثة تكتيكات لتحقيق هدفه الدعوي ، والتكتيك هو إجراء محدّد يتخّذ لتحقيق هدف معيّن، وتعني بالإنجليزية: tactic، ومن معانيه أيضاً: وسائل وطرق وخطط تنفيذيَّة تتّخذ للنجاح في أمرٍ ما.
التغير سنة من سنن الله في خلقه، حيث تتبدل أحوال الأمم والشعوب، والأفراد والجماعات، من حال إلي حال، هذه الحقيقة التي لفتت أنظار علماء الاجتماع الإنساني وتكلموا عنها في كثباتهم، وبنوا عليها الكثير من النظريات والمناهج العلمية المفسرة لتطور المجتمعات البشرية.
ويُعد العلامة ( ابن خلدون ) صاحب الفضل الأكبر في وضع الأصول الأولى لعلم الاجتماع، إذ كان من أوائل الدارسين الاجتماعيين، الذين أقاموا دراساتهم على أساس من فهم السنن الاجتماعية، وقد استطاع ابن خلدون بفضل ثقافته القرآنية العميقة، واطلاعه الواسع على التاريخ، أن يعرض في ( المقدمة ) التي كتبها لدراسته التاريخية عدداً من السنن الاجتماعية بأسلوب علمي موضوعي.
وبدءاً من دراسات ابن خلدون، بدأ علماء الاجتماع يلتفتون إلى دراسة أحوال الأمم والشعوب، وفق المنهج الذي وضعه ابن خلدون نفسه، فلاحظوا أن أي تغيير اجتماعي لا يتم إلا من بعد أن تتوافر الشروط الأولية الخاصة به، وبمعنى آخر: فإن سنن التغيير الاجتماعي – شأنها شأن أية سنة من السنن الربانية – لا تتم إلا إذا توافرت شروطها، وانتفت الموانع التي تحول دون تحقيقها .(1)
والإنسان الذي كرمه الله وخلقه بيديه، أرسل له الأنبياء والرسل لدعوته إلي عبادته وتوحيده، من لدن آدم وحتى خاتمهم محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم – وكانت دعوات ورسالات الأنبياء على ما احتوته من أوامر ونواهي، هي مجملها دعوة للانتقال من حال إلي حال، وهذا ما فطن إليه كفار مكة الذين عارضوا دعوة النبي للدخول في الإسلام، لأنهم وعوا جيدا أن الإسلام سيغير الأوضاع جملة وتفصيلا.
وآيات القرآن على امتدادها من الفاتحة إلي الناس صورت لنا كثيرا من هذه المواقف، وحوت كثيرا من الإشارات والدلالات التي تؤكد على حقيقة التغيير، واستحالة دوام الحال، وكذلك السنة النبوية المطهرة .
مفهوم التغيير الاجتماعي:
التغير لغة :كما جاء في لسان العرب " تغير الشيء عن حاله: تحول. وغَيَّرَهُ: حولَّـه وبدَّله، كأنه جعله غير ما كان . وفي التنزيل العزيز: "ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم ".(الأنفال :53).
قال ثعلب: حتى يبدلوا ما أمرهم الله…إلى أن قال: وغِيَر الدهر: أحواله المتغيرة .."(ابن منظور، ج2،ص1035).
ويعرفه دكتور إبراهيم رجب بأنه: " تلك التغيرات التي تحدث في التنظيم الاجتماعي أو في بناء المجتمع ووظائفه"(2).
بينما ينظر إليه (فريتشيلد) من جهة الكيفية التي يحدث بها حيث يرى أن التغيير الاجتماعي هو: " ذلك الفعل الحركي الذي يتوافق مع التغير الذي يحدث في الأهداف والأغراض التي :كانت موجودة من قبل، ويحدث هذا التغير عندما تعجز النظم التي يحتوي عليها البناء الاجتماعي عن تأدية وظيفتها، طبقا للأهداف الجديدة للمجتمع، ويؤثر هذا التغير على مكونات الوحدات التي يتألف منها المجتمع" (3).
والخطيب أو الداعية يجب ألا يكون بمنأى أو بمعزل عن موجات التغيير الاجتماعي الحادثة من حوله، بل ينبغي عليه أن يكون على دراية بها، يفهمها ويعي أبعادها بدقة، وأن يراقب عن كثب كل حدث صغيرا كان أم كبيرا لأن هذه الأحداث تشكل في مجملها منظومة اجتماعية، تقود إلي التغيير الاجتماعي على مختلف نطاقاته وأبعاده ومجالاته.
ومن هنا يجب على الخطيب أن يعتمد في خطته الدعوية استراتيجية التغير الاجتماعي معتمدا على ثلاثة تكتيكات لتحقيق هدفه الدعوي، والتكتيك هو إجراء محدّد يتخّذ لتحقيق هدف معيّن، وتعني بالإنجليزية: tactic، ومن معانيه أيضاً: وسائل وطرق وخطط تنفيذيَّة تتّخذ للنجاح في أمرٍ ما.
والتكتيكات الثلاثة هي:
التكتيك الأول: تكتيك المواجهة
وفي هذا المحور يلتفت الخطيب إلي الظواهر الحادثة في المجتمع، بعين الداعية الواعي لسنن الحياة البشرية، فينتفض ليدافع عن دينه وعقيدته، أمام الظواهر الاجتماعية الوافدة والطارئة على مجتمع المسلمين، وفي مقدمتها ظواهر الإلحاد والطعن والتشكيك في ثوابت الدين، والبدع والمذاهب الفكرية الهدامة التي تروج لها بعض الجماعات والأحزاب في صورة دينية .
وفي هذه الحالة يعتمد الخطيب على تكتيك المواجهة، باذلاً كل ما وسعه منفردا أو متعاونا مع آخرين من أجل صد مثل هذه الهجمات الفكرية.
وتكتيك الواجهة ليس غريبا على الدعوة الإسلامية فهناك أمثلة كثيرة منها:
ما جاء في القرآن الكريم عن موقف سيدنا إبراهيم -عليه السلام-: قال تعالى: (ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 258].
الموقف هنا لا يحتمل السكوت أو السكون فالأمر يتعلق بعقيدة الناس أمام مدعي الألوهية نمرود بن كنعان ملك بابل، وقد ذكر صاحب معارج القبول هذا بقوله: مناظرة هذا المحاج قد تخفى على كثير من الناس ممن حضره وغيرهم، ذكر دليلا آخر بين وجود الخالق، وبطلان ما ادعاه النمرود، وانقطاعه جهرة ( قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ) أي هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق، كما سخرها خالقها ومسيرها وقاهرها، وهو الله الذي لا إله إلا هو، خالق كل شيء، فإن كنت كما زعمت أنك تحيي وتميت، فأت بهذه الشمس من المغرب، فإن الذي يحيي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء، ولا يمانع ولا يغالب، بل قد قهر كل شيء، ودان له كل شيء، فإن كنت كما تزعم، فافعل هذا، فإن لم تفعله فلست كما زعمت، وأنت تعلم وكل أحد أنك لا تقدر على شيء من هذا، بل أنت أعجز وأقل وأذل من أن تخلق بعوضة أو تتصرف فيها . فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه، وبطلان ما سلكه وتبجح به عند جهلة قومه، ولم يبق له كلام يجيب الخليل - عليه الصلاة والسلام - به، بل انقطع وسكت، ولهذا قال تعالى: ( فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين.(4).
وقصة غلام أهل الأخدود، والقصة والموقف كاملاً جاء في سورة البروج.
ومن السنة النبوية المطهرة نذكر منها موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين والناس يفرون من حوله والموقف شديد على جموع المسلمين الذين غرتهم كثرتهم، فلم تغن عنهم من الله شيئا، وكا نت الهزيمة أقرب إليهم من النصر، فعندها وقف النبي وثبت ونادي بأعلى صوته في جموع الصحابة لثبتوا ويلتفوا حوله وليستعيدوا زمام المعركة، كما جاء عند البخاري ومسلم: قال رجل للبراء -رضي الله عنه-: يا أبا عمارة، أفررتم يوم حنين؟ قال: لا والله، ما ولَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه خرج شبان أصحابه وأَخِفَّاؤُهم حُسَّرًا ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح، فلقوا قومًا رماة لا يكاد يسقط لهم سهم، جمع هوازن، وبني نصر، فرشقوهم رشقًا ما يكادون يخطئون، فأقبلوا هناك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به، فنزل فاستنصر وقال: أنا النَّبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، ثُمَّ صفَّهم.(5).
وموقف سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والصحابة والناس من حولهم في ذهول لا يصدقون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات، حتى سيدنا عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- لم يصدق، حتى خرج عليهم الصديق في ثبات وقوة ليصحح الموقف كما جاء عند البخاري من حديث عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ. قَالَ: إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي بِالعَالِيَةِ - فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قَالَتْ: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ، فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُذِيقُكَ اللَّهُ المَوْتَتَيْنِ أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ:
أَيُّهَا الحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ، فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ،
وَقَالَ: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) [الزمر:30].
وَقَالَ: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) [آل عمران: 144].
قَالَ: فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ".( البخاري:3467).
ويصنف أيضا تحت تكتيك المواجهة، موقف الإمام أحمد -رحمه الله-، في فتنة خلق القرآن ودفاعه عن السنة رغم ما لاقاه من تعذيب وإضهاد، إلا أن ثبت وجاهر بقول الحق لأن الموقف يحتاج للمواجهة.
التكتيك الثاني: تكتيك التدعيم
ويعتمد تكتيك التدعيم على تنشيط وتأكيد القيم والمعتقدات الإسلامية التي قد تكون خملت أو ضعفت في نفوس البعض نتيجة لموجات التشكيك، أو الطعن التي قوم بها أعداء الدين من داخل الأمة وخارجها من غير المسلمين.
وهذا التكتيك في جوهره يعتمد على التربية على العقيدة السليمة الخالية من أية شوائب.
وذلك بالحديث عن أركان الإيمان وموجباته، وواجب المسلم وقت الفتن، وكيفية السلامة منها، وكذلك شمائل وخصائص النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبيان عموم رسالتهن وفضائل الصحابة وأمهات المؤمنين، ووجوب الذود عنهم وعن أعراضهم.
التكتيك الثالث: التغيير
وفي هذا التكتيك يأخذ زمام المبادرة ويسعى بمجتمعه نحو التغيير، في الأفكار والمعتقدات والسلوكيات، من خلال اعتماده على خطب تحض في مجملها على التمسك بتعاليم الدين، ويشوق النفوس لجزائها في الدنيا والأخرة، وقيمة ذلك في نهضة الأمة في ماضيها ومستقبلها.
وهذا التكتيك مكمل لتكتيك التدعيم ومساير له من خلال دعم الأخلاق الفاضلة، والدعوة للتقدي والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل أخلاقه وأفعاله ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب:21].
ويقدم سير الصحابة -رضي الله عنهم-، وعظماء الإسلام ويحلل ويشرح كيف كانوا، وثمرة جهدهم التي مازالت تجنيها الأمة حتى الآن، ويشجع على أن يتخد المسلم أنموذجا يقتدي به في حياته، فسير الرجال من عوامل التغيير الاجتماعي.
وإذا كان أصحاب المناهج الباطلة يستدعون إلي الواقع الآن سير رجالهم، فنجد وبكل أسف من يرفع صور جيفارا، أو غاندي، ...... ويتدارس سيرهم، التي تسرى في نفلبعض وتأخذهم إلي حيث ما لا يحمد عقباه.
فحري بالخطيب أن يستعيد سير رجالنا وما أكثرهم ويبث في نفوس المسلمين ولا سيما الشباب منهم الحماسة والشوق إلي الاقتداء بهم.
إن قضية التغيير الاجتماعي التي يحدثها الإسلام في نفوس اتباعه، وعاها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولخصها لنا في عبارة قوية جامعة مانعة قال فيها: " إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله ".
-----------
(1) أحمد محمد كنعان: أزمتنا الحضارية في سنة الله في الخلق، كتاب الأمة 26، ص 94.
(2) إبراهيم عبد الرحمن رجب وآخرون: أساسيات تنظيم المجتمع، الرياض، عالم الكتب 1986، ص 12.
(3) إبراهيم مدكور: معجم العلوم الاجتماعية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975، ص 165.
(4) الحافظ بن احمد الحكي :معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد ج1 ،ص 108
(5) رواه البخاري 2930، ومسلم 1776
التعليقات