اقتباس
ولا يجمل بالخطيب أو الداعية أو الواعظ أن تكون خطبته أو موعظته خالية من هدايات النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وتقريراته.والملاحظ أن الانفتاح الإعلامي، وانتشار كثير من الحوارات والمناظرات على الفضائيات قد أثر كثيرا في بعض الخطباء والدعاة فصاروا يتقمصون شخصيات من يسمون بالمثقفين والمفكرين في كثرة الاستدلالات العقلية على حساب النصوص من الكتاب والسنة، وبعضهم صار يستبدل بالنصوص المعصومة أقوال الفلاسفة والمفكرين والكتاب الغربيين
السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام، وأدلة وجوب الأخذ بها كثيرة جدا من الكتاب ومن السنة[1].
فمن الكتاب:
1- قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].
2- قوله سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80].
3- قوله عز وجل: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
ومن السنة:
1- قول النبي عليه الصلاة والسلام في الموعظة التي حكاها العرباض بن سارية رضي الله عنه، وفيها: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)[2].
2- حديث المقدام بن معدي كرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه)[3] وأجمع المسلمون على ذلك.
والسنة تبين ما أجمل في القرآن، وتفصل ما اختصر، وتعين ما أبهم، وقد خاطب الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بهذا المعنى في قوله عز وجل {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]. وفي آية أخرى {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل:64].
والسنة النبوية بالنسبة إلى ما ورد في القرآن على ثلاثة أنواع:
1- مؤكدة لما جاء في القرآن، فيكون الكتاب مثبتاً والسنة مؤيدة.
2- مبينة لما جاء في القرآن بتفصيل مجمله، وتقييد مطلقه، وتخصيص عامه.
3- مشرعة لأحكام لم ترد في القرآن، كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها.
وللسنة مكانة عظيمة في نفوس المسلمين لمحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وشغفهم باتباعه لنيل رضوان الله تعالى ومحبته {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]..
ولا يجمل بالخطيب أو الداعية أو الواعظ أن تكون خطبته أو موعظته خالية من هدايات النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وتقريراته.
والملاحظ أن الانفتاح الإعلامي، وانتشار كثير من الحوارات والمناظرات على الفضائيات قد أثر كثيرا في بعض الخطباء والدعاة فصاروا يتقمصون شخصيات من يسمون بالمثقفين والمفكرين في كثرة الاستدلالات العقلية على حساب النصوص من الكتاب والسنة، وبعضهم صار يستبدل بالنصوص المعصومة أقوال الفلاسفة والمفكرين والكتاب الغربيين لما يلي:
1- إرضاء جمهوره من الحضور أو المستمعين الذين يستمعون له.
2- كسب ود الوسيلة الإعلامية التي أبرزته للناس، وخصته ببرنامج فيها دون غيره.
3- مجاراة ما يُلقى على أسماع الناس عبر وسائل الإعلام المختلفة من ألفاظ ومصطلحات وأفكار لم تكن من قبل في معاجم الدعاة والمصلحين،ولا تجري على ألسنتهم؛ وذلك مثل: مصطلحات: أنا، والآخر، والرأي، والتعايش السلمي، والحوار، وغير ذلك.
4- محاولة إظهار نفسه أمام المستمعين بمظهر الخطيب المثقف الذي يُلم بأدوات العصر ومصطلحاته. ولو كان ممحصا لها، وناقدا لخللها لكان ذلك محمودا ولكن يغلب على هذا الصنف استخدامها والموافقة عليها والقناعة بها وربما ترويجها والدفاع عنها.
وقد تجتمع هذه الأسباب أو بعضها في الواحد من الخطباء.
ولا يجوز للخطيب أن يطوع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لضغوط العصر ومصطلحاته، أو يعرض عنه لأجلها؛ بل الواجب عليه أن يرد الناس إلى الجادة، ويربيهم على تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله والاستدلال به والتسليم له.
قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى:(إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل)[4].
وذَكَر الشافعي رحمه الله تعالى حديثا فقال له رجل: تأخذُ به يا أبا عبد الله ؟ فقال: أفي الكنيسة أنا ؟! أو ترى على وسطي زُنَّارا ؟! نعم أقول به ، وكلما بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت به)[5].
وقال إبراهيم الحربي رحمه الله تعالى:(ينبغي للرجل إذا سمع شيئا من آداب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتمسك به)[6].
الموازنة بين أحاديث موضوعه وبين خطبته:
أغلب الموضوعات التي يتناولها الخطباء هي موضوعات شرعية تتعلق بالمعتقدات أو العبادات أو المعاملات أو الأخلاق أو غيرها، وتتفاوت هذه الموضوعات من جهة وفرة النصوص النبوية فيها وكثرتها من قلتها، وعليه فلا تخلو الأحاديث التي جمعها الخطيب لموضوع خطبته من حالات ثلاث:
الأولى: أن تكون في عددها ومساحتها مناسبة لخطبته فلا هي كثيرة تطول الخطبة بها ولا هي قليلة تقصر بها عن المطلوب، وهذه لا إشكال فيها.
الثانية: أن تكون كثيرة لا يمكن استيعابها في خطبة واحدة، وهذه يعمل معها ما ذكرته سابقا في الآيات الكثيرة بتقسيمها على موضوعات لعمل خطب عدة منها، ويمكن مراجعة ما ذكرته في تقسيم الآيات لتتضح الصورة أكثر[7].
الثالثة: أن تكون قليلة بحيث تقصر بها الخطبة قصرا مخلا، فيكملها بالآيات والآثار عن الصحابة والتابعين والأئمة وأقوال العلماء المتبوعين، ويمكن مراجعة ما ذكرته في فقرة الآيات القليلة في الموضوع وكيف يتعامل الخطيب معها لتكون الصورة أوضح[8].
ما يراعى في الاستدلال بالسنة:
في الاستدلال بالأحاديث النبوية أرى أنه يحسن بالخطيب مراعاة ما يلي:
أولاً: التأكد من صحة الحديث الذي يستدل به؛ فإن كان متواترا أو في الصحيحين أو أحدهما فلا إشكال، ولا يحتاج إلى مراجعة؛ لتلقي الأمة لهما بالقول، ولإجماع العلماء على الاحتجاج بأحاديثهما في الجملة.
وهنا يحسن التنبيه على أن الخطيب قد ينقل الحديث ممن نقل عن الصحيحين أو أحدهما وعزاه مؤلفه إلى الصحيح فالأولى أن يتأكد من ذلك بمراجعة الصحيح لما يلي:
أ- قد يكون مؤلف الكتاب الذي نقل منه واهما في عزوه للصحيح، أو أخطأ في ذلك، أو حصل خلل في الحواشي فنُقلت تخريجات أحاديث لأخرى، وهذا محتمل بل يقع في كثير من الأحيان.
ب- قد يكون أصل الحديث في الصحيح، والمؤلف ساقه بتمامه وألحق به زيادات أو ألفاظا ليست في الصحيح، ثم عزا الحديث للصحيح يريد أصل الحديث الذي ساقه بتمامه دون الزيادات أو الروايات الأخرى، ويكون استدلال الخطيب بجزء من الحديث، ويكون هذا الجزء من الزيادات لا من أصل الحديث، أو يكون من الألفاظ الأخرى التي ليست من ألفاظ الصحيح، فيعزوه للصحيح تبعا للمؤلف، مع أن اللفظ أو الزيادة التي ذكرها ليست في الصحيح.
جـ- قد يكون الحديث في الصحيح موقوفا أو معلقا، والمؤلف رفعه أو وصله باعتبار طرق أخرى رفعته أو وصلته وهي ليست في الصحيح، فينسب للصحيح ما ليس منه لمجرد أنه اطلع على حديث فيه كلام طويل أو تخريج كثير فانتزع منه (أخرجه البخاري أو مسلم) دون أن يقرأ بقية الحاشية ليعلم أن ما في الصحيح موقوف أو معلق.
ومراجعة الصحيح للتأكد لا تضر الخطيب، بل تنفعه بتعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعناية به، واكتساب معرفة جديدة مع كل مراجعة يطالع فيها الصحيحين، وقد يقع بصره على حديث ما كان يعرفه من قبل، ويناسب هذا الحديث أن يكون موضوع خطبة أخرى، أو هو محتاج إليه في خطبته تلك وهو بجوار حديثه الذي أراد التأكد من ثبوته ولفظه، وقد وقع ذلك لي كثيرا.
أما إن كان الحديث في غير الصحيحين فلا يخلو الخطيب من حالات ثلاث:
1- أن يكون صاحب حديث عالما بتخريجه ورجاله والبحث فيهم والحكم عليه، فهذا خطيب محدث ، وليس مثلي من يرشد مثله.
2- أن لا يكون عنده أي معرفة بمراجعة كتب الحديث ومصادره، ولا يحسن بالخطيب أن يكون كذلك، ولا بد أن يتعلم ذلك ويمارسه حتى يعرف ما يخدم به خطبته.
وبإمكان المبتدئ أن يعتمد على كتب الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، ولاسيما صحيح الجامع وضعيفه؛ لسهولة تناول كتب الشيخ، وحسن فهرستها وترتيبها على الحروف الهجائية.
وبإمكانه أيضا أن يسأل المختصين أو طلاب العلم عن الأحاديث التي أشكلت عليه ولا يدري ثبوتها من عدمه، ويوجد مواقع على الشبكة العالمية تخدم السائلين في ذلك، أو يسأل بالهاتف أو غير ذلك، والحريص لن تعوزه الوسيلة في زمن ليس لمحتاج إلى علم فيه عذر أبدا.
وكم هو جميل أن تتوثق الصلات بين الخطباء والوعاظ والدعاة وبين علماء الحديث؛ للاستفادة منهم في علم الحديث، ولتوثيق ما يلقونه على الناس من خطب ومواعظ، فواجب على الخطباء والدعاة الاتصال بأهل الحديث، وواجب على أهل الحديث التعاون معهم، وتقديمهم بالرعاية والاهتمام على غيرهم من سائر طلاب العلم؛ وذلك لأن خطاب الخطباء والدعاة عام في الجوامع، وربما في وسائل الإعلام الأخرى من إذاعات وفضائيات وإنترنت، ويصل إلى جموع الناس في مشارق الأرض ومغاربها، وتوثيقه بالصحيح من الأدلة والمعلومات أمر واجب، وفيه نفع عام. بخلاف الدروس التي لا يحضرها إلا القليل من الطلاب، وهم ممن لا يخشى عليهم في الغالب.
وقد فعل ذلك أسلافنا من قبل؛ إذ كان رئيس الخطباء في القرن الخامس قد تقدم إلى الخطباء والوعاظ أن لا يرووا حديثا حتى يعرضوه على الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى فما صححه أوردوه وما رده لم يذكروه[9].
3- أن يكون ملما بتخريج الحديث من مصادره الأصلية، ولكنه لا يستطيع الحكم عليه ولا معرفة رجاله، وهذا يتكئ في ذلك على علماء الحديث:
أ- فيبدأ بالمتقدمين المشهورين كعلي بن المديني وأحمد بن حنبل وأبي حاتم وأبي زرعة الرازييين والبخاري ونحوهم. وقد ينقل العلماء تصحيحاتهم لبعض الأحاديث، كما ينقل الترمذي أحكام شيخه البخاري على بعض الأحاديث في سننه[10].
ب- ينظر إلى أحكام من بعدهم من أهل الحديث كالترمذي وابن خزيمة وابن حبان ونحوهم.
ت- ينظر في أحكام المتأخرين من الحفاظ كالمنذري والذهبي وابن حجر والعراقي والهيثمي والسيوطي.
ث- ينظر في أحكام المعاصرين من أمثال أحمد شاكر والألباني والأرناووط وغيرهم.
وكل كتب هؤلاء العلماء موجودة ومتداولة ومتوافرة في المكتبات العامة، وأكثرها -إن لم يكن كلها- موجود على الموسوعات الالكترونية والشبكة العالمية وبإمكان الخطيب مراجعتها والاستفادة منها.
وأحسب أن السنة من جهة الرواية قد خدمت خدمة عظيمة على أيدي علماء الحديث على مر العصور، واللاحق من العلماء يكمل ما بدأه السابق، ويبدأ شيئا جديدا يكمله من بعده حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في عصرنا بحمد الله تعالى.
ثانياً: إن رأى أن العلماء قد اختلفوا في الحديث تصحيحا وتضعيفا، وعنده من الصحيح ما يغني عنه فيعرض عن هذا المختلف فيه، وإن اتحد معنى الحديثين فجعل الصحيح شاهدا لهذا المختلف فيه فأورده من هذا القبيل فتلك هي طريقة أهل الحديث في الضعيف المنجبر.
ثالثاً: إن كان الحديث مختلفا فيه وهو محتاج إليه ويمثل أصلا في خطبته، وليس عنده ما يغني عنه؛ فيزيد من البحث والتأمل حتى يصل إلى نتيجة، ويستعين في ذلك بأهل التخصص وطلاب العلم المتمكنين في الحديث فلعل أحدهم بحثه ووصل فيه إلى نتيجة فيفيده بها.
رابعاً: يحسن التنبيه على أنه لا يجوز للخطيب أن يعتمد شهرة الحديث وتداول الناس له على الألسنة، فيظن بذلك صحته فيورده في خطبته دون التأكد من ثبوته؛ فإن ما يتداوله الناس من أحاديث فيه الصحيح والضعيف والموضوع، وفيه ما ليس بحديث مما هو من الأمثال أو أقوال السلف أو أقوال الحكماء أو غيرهم، سرت هذه الأقوال بين العوام على أنها أحاديث وليست كذلك.
وقد كثر ذلك في الأزمان المتأخرة فكتب العلماء فيه كتبا فالحافظ ابن حجر كتب كتابه (اللآلئ المنثورة في الأحاديث المشهورة) ثم ألف السيوطي كتابه (الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة) وألف السخاوي كتابا عنوانه (المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة) ثم جاء تلميذه عبد الرحمن بن الديبع فاختصره في كتابه (تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث) ثم كتب العجلوني رحمه الله تعالى كتابا سماه (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس).
وما كانت هذه العناية من العلماء حتى أفردوا كتبا في ذلك إلا حماية لجناب السنة، وحرصا على الناس من الضلال، وتنقية لما يتناقلونه من أقوال، وبيانَ ما هو حديث منها وما ليس بحديث، فلا يجوز للخطيب أن ينقل ما يجري على الألسنة في خطبته لمجرد شهرته وسريانه في الناس.
ويلحق بذلك ما هو من محفوظات الخطيب، مما لم يتيقن أنه حديث؛ فقد يكون الخطيب قد حفظ في صباه حديثا أو مقولة على أنها حديث من أبيه أو جده أو معلمه أو خطيب مسجدهم أو غيرهم، ورسخ في ذهنه أنه حديث، ولم يراجعه في كبره، فلا يجدر به أن ينقله في خطبته حتى يتأكد من ثبوته.
وكثيرا ما سمعنا بعض الخطباء والوعاظ يستدلون بأحاديث مشهورة ولكنها لا تثبت، وقد يكون منها ما هو موضوع، وينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما ذكره المؤلفون في الموضوعات من دواعي وضع الأحاديث واختلاقها: القص على الناس وتذكيرهم وموعظتهم.
ومرة سمعت واعظا في إحدى المساجد الكبرى يعظ الناس على إثر ريح شديدة أصابتهم فبدأ موعظته يأمر الناس أن يقولوا (اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا) وردد ذلك عليهم، وكرر الدعاء به، مستدلا بالحديث المشهور في ذلك، وهو لا يثبت، ومبينا لهم أن الرياح في كل آيات القرآن رحمة، وأن الريح عذاب، ولم تأت مفردة في سياق الرحمة أبدا. وفي هذا الإطلاق ذهول منه عن قول الله تعالى {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا} [يونس:22].
بل إنه يجمل بالخطيب وإن كان حافظا للحديث عارفا بدرجته أن يراجعه حال التحضير لخطبته؛ لاحتمال الوهم، أو اختلاطه عليه بحديث آخر، وليستفيد رسوخه أكثر في ذهنه، وهو بمثابة المراجعة لحفظه.
خامساً: أرى أنه ينبغي للخطيب أن يذكر صحابي الحديث ومن أخرجه في خطبته باختصار؛ فإن ذلك أدعى للثقة فيما ينقل لدى المستمعين، ثم إنه قد يكون من المصلين معه من يستفيد من ذلك بترسيخ محفوظاته من الحديث النبوي.
سادساً: التأكد من مفردات الحديث وجمله؛ فإن التصحيف والتحريف قد يقعان أثناء النسخ أو الطباعة، وقد يرويه الراوي على الخطأ؛ ولذلك اعتنى العلماء قديما وحديثا بضبط ألفاظ الحديث، وإصلاح ما به من التحريف والتصحيف.
وخصوا هذا الموضوع بكتب أفردوها فيه ككتاب تصحيفات المحدثين، وكتاب شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف، كلاهما لأبي أحمد العسكري،وكتاب إصلاح غلط المحدثين للخطابي، وكتاب تصحيح التصحيف وتحرير التحريف لصلاح الدين الصفدي، ونبهوا فيها على ما وقع لبعض الرواة أو النساخ من تصحيف وتحريف.
ومن أمثلة ذلك: ما وقع لشيخ يعرف بمحمش أجلس للتحديث بعد وفاة محمد بن يحيى الذهلي رحمه الله تعالى فحدث بحديث (يا أبا عُمير ما فعل النغير) فصحفه إلى (يا أبا عَمير ما فعل البعير) وحدث بحديث (لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس) فصحفه إلى (خرس)[11] وأخطأ ابن لهيعة في حديث:(أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجر في المسجد) فحرفه إلى (احتجم في المسجد).
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى: وهذه رواية فاسدة من كل جهة، فاحش خطؤها في المتن والإسناد جميعا، وابن لهيعة المصحف في متنه المغفل في إسناده، وإنما الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجر في المسجد بخوصة أو حصير يصلي فيها[12].
ومع كثرة الناشرين للكتب في هذا العصر، وازدهار سوق الطباعة، وتحول هذا العمل الجليل تدريجيا من قصد خدمة تراث المسلمين، وإخراجه للناس إلى تجارة بحتة، حتى صار بعض النصارى الموارنة في لبنان يشتغلون في كتب المسلمين ويطبعونها، وهكذا الأقباط في مصر، وبعض أتباع الفرق الضالة ينشرون كتب أهل السنة، وكثير من ملاك دور النشر والقائمين عليها هم من أجهل الناس بالكتب وقيمتها؛ وأيضا تصدى لتحقيق الكتب وتخريجها في كثير من الأحيان أناس ليسوا من أهل الصنعة، ولا علم لديهم بأصول الفنون التي يحققون الكتب فيها تارة بأسمائهم، وتارة أخرى بأسماء اللجان العلمية للدار فإن الأخطاء الفاحشة، والتحريفات الكثيرة قد أصابت كثيرا من كتب التراث المطبوعة؛ مما يوجب على المستفيد منها من الخطباء وغيرهم أخذ الحيطة والحذر، والتأكد من صحة النصوص المنقولة فيها ولا سيما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك يكون وفق الخطوات التالية:
1- على الخطيب أن يحرص على اقتناء الطبعات الجيدة لمكتبته، المحققة تحقيقا علميا ممن يوثق بعلمهم وورعهم، وخاصة فيما يتعلق بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم وغيرها، وكذلك الكتب الناقلة عنها من كتب الترغيب والترهيب والآداب والمواعظ والزهد وأدلة الأحكام ونحوها؛ فإنها وإن غلا ثمنها -بسبب حقوق المحققين الذين أمضوا سنوات طويلة في تحقيقها- فإن قيمتها فيها، وهي خير من الطبعات التجارية الرخيصة في قيمتها وفي تحقيقها.
وهذا يريح الخطيب والباحث على مدى الزمن، بطمأنينته إلى أكثر كتبه التي يملكها، ووثوقه فيها، ويوفر عليه وقتا طويلا قد يقضيه بسبب أغلاط في حديث حولت معناه أو أوجدت فيه إشكالات يستنزف وقته وجهده في حلها، ولربما رجع إلى كتب الشروح والغريب واللغة ثم يتبين له بعد جهد جهيد، ووقت طويل أن في متن الحديث خطأ في الطباعة!!
2- إذا كان الكتاب الذي سيأخذ منه الحديث لم يخدم كما ينبغي، ولا يوجد له طبعة جيدة -وهذا مع الأسف كثير في كتب التراث- أو هو لا يملك طبعة جيدة، فأرى أن يأخذ الحديث من طبعته السقيمة، ولكن يراجع كتبا أخرى مساعدة يغلب على ظنه أن الحديث فيها، مثل كتب الزوائد والشروح، والكتب المصنفة في موضوعات معينة، وهذا الحديث من ضمن موضوعاتها.
وكثيرا مما تتوارد نسخ عدة، وكتب متنوعة على الخطأ؛ لأن الخطأ في المصدر المنقول عنه، وقد يكون الخطأ في أصل المخطوط، ويكون اللفظ محتملا وليس فيه ما يستنكر، وقد يعذر الخطيب في هذه الحالة. لكن زيادة الاستيثاق، وحرص الخطيب على إدراك معنى الحديث يوصله إلى الصواب، ويقلل احتمال وقوع الخطأ بإذن الله تعالى، ولأهمية المثال العملي في توضيح الصورة للخطيب أسوق هذا المثال:
لو كان عند الخطيب حديث في مسند أحمد، والطبعة التي عنده للمسند رديئة، فيراجع طبعة جيدة ولو في مكتبة عامة، فإن لم يتوفر له ذلك، وكان الحديث في أحد الكتب الستة راجعه فيه- ويستعين في بحثه بجامع الأصول وفيه الموطأ وباقي الستة إلا ابن ماجه- فإن لم يكن في أحدها فيراجع مجمع الزوائد للهيثمي، وبإمكانه أن يراجع ترتيب المسند وشرحه للساعاتي المسمى (الفتح الرباني).
فإن كان الحديث في موضوع من موضوعات الترغيب أو الترهيب أمكنه مراجعة كتاب المنذري، وإن كان الحديث قولا للنبي صلى الله عليه وسلم أمكنه مراجعة الجامع الصغير للسيوطي، وزياداته للمناوي، وصحيحه وضعيفه للألباني. وهكذا .... ولن يعدم طريقة من الطرق يجد بواسطتها الحديث في مصادر أخرى.
ويستفيد من مراجعته لهذه الكتب المتنوعة فوائد كثيرة منها:
أ- الاطمئنان إلى لفظ الحديث، وتوثيقه قدر المستطاع.
ب- زيادة خبرته في التعامل مع كتب التراث، ومعرفة مناهج مصنفيها فيها، ومع كثرة المراجعة والممارسة يمتلك دربة في ذلك تمكنه من الوصول إلى المعلومة التي يريدها في أسرع وقت وأقل جهد؛ إذ إن هذه المراجعات تشبه دورات تعليمية سريعة في هذه الكتب العظيمة.
ت- قد يجد أحاديث أخرى تخدمه في موضوعه الذي يكتبه، وربما كانت هذه الأحاديث بالنسبة لموضوعه أهم من الحديث الذي قصده؛ مما يثري موضوعه ويقويه بالنصوص ويوسعه.
فمراجعته لمجمع الزوائد تمكنه من معرفة أحاديث أخرى في موضوعه أو قريبة منه في مسند أحمد أو مسند أبي يعلى أو مسند البزار أو في معاجم الطبراني.
ومراجعته للترغيب والترهيب تكسبه أحاديث أخرى في موضوعه أو قريبة منه، وقد يكون منها ما هو أقوى من حديثه أو في الصحيح، وقد غفل عن هذه الأحاديث أو لا يعلمها قبل مراجعته لهذا الكتاب.
ومراجعته للفتح الرباني تكسبه أحاديث أخرى وآثارا عن الصحابة والتابعين؛ لأن الساعاتي رحمه الله تعالى يعقد بابا في نهاية كل باب من ترتيبه لأحاديث المسند يجعله لزوائد الباب وأحكامه، يسوق فيه أحاديث وآثارا وأحكاما يكثر فيها النقل من كتب الشروح، وقراءة الخطيب لذلك تجعله أكثر إلماما بموضوعه، وتمكنا فيه، وتفتح له أبوابا عظيمة من العلم والمعرفة.
وإذا كان لديه كتاب ترتيب أحاديث صحيح الجامع الصغير وزياداته على الأبواب الفقهية لعوني الشريف، أمكنه الاطلاع على أحاديث قولية أخرى في موضوعه الذي يريده أو قريبة منه.
ث- أنه يطلع على تخريج الحديث، فالمنذري والهيثمي والساعاتي يخرجون الأحاديث.
جـ- أنه يطلع على حكم على الحديث أو حكم على رجاله؛ فالمنذري والهيثمي يحكمان أحيانا على الحديث بالصحة أو بالحسن أو بالضعف أو النكارة، ويحكمان أكثر على رجاله بعبارات: ورجاله رجال الصحيح، ورجاله ثقات، أو موثوقون، أو فيه فلان مختلف فيه، أولم يوثقه إلا ابن حبان، أو ضعيف، أو منكر الحديث أو كذاب...
فإن كان الحديث لا يحتج به أسقط ذلك عن الخطيب عناء كبيرا من البحث في درجة الحديث. وكانت مراجعته تلك عونا له في السلامة من الاستدلال بحديث لا يحل الاستدلال به، ولا نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم.
وإن كان الحديث مما حكما على رجاله بالتوثيق احتاج إلى التأكد من اتصال السند وعدم العلة المانعة من الاحتجاج بالحديث؛ لأنه لا يلزم من توثيق الرجال، أو كونهم من رجال الصحيح صحة الحديث؛ لاحتمال الانقطاع أو علة أخرى خفية.
وكذلك الساعاتي يحكم أحيانا على الأحاديث أو ينقل حكم من قبله عليها.
والسيوطي والألباني يحكمان أيضا على الأحاديث.
سابعاً: الاستيثاق من قراءته للحديث وإعرابه بشكل صحيح؛ فإن بعض الكلمات والجمل أو أسماء الرواة قد تكون عالقة في ذهنه على الخطأ، إما لأنه حفظه هكذا في صغره، أو سمعه من متحدث على الخطأ فرسخ في ذهنه، أو هو يقرأه ابتداء بشكل خاطئ، ويكون استيثاقه بما يلي:
أ- أن يراجع الحديث في طبعة محققة موثوقة مضبوطة بالشكل ويقرأه منها بتمعن، ويضبط في كتابته ما يحتاج إلى ضبط.
ب- أن لا يملك طبعة مشكولة، وفي هذه الحالة يراجع كتب الشروح، والشارحون غالبا ما يضبطون الكلمات المشكلة، ويذكرون الأوجه أو الخلاف إن كان ثمة خلاف، أو كان للكلمة أكثر من وجه.
ومما يحضرني من الأمثلة حديث (تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودا عودا) فكلمة (عودا) اختلفوا في ضبطها على أقوال ثلاثة:
1- عَوْذَا عوذا، بالذال المعجمة، ومعناه: الاستعاذة بالله تعالى منها.
2- عَوْدَا عودا، بفتح الدال، على معنى أن الفتنة كلما زالت عادت مرة أخرى.
3- عُوْدَا عودا، على معنى أن الفتن تتوالى على القلب، كما يتوالى العود بإزاء العود في نسج الحصير.وقد توارد شراح صحيح مسلم القاضي عياض والقرطبي والنووي والأبي على ذكر هذه المعاني والترجيح بينها.
والمعنى الأخير هو الأشهر والأظهر، لكن معرفة الخطيب للمعاني الأخرى يفيده جدا، وقد يكون أحد المصلين حفظه على المعنى الآخر فيحتج عليه به، فيكون ملما بتلك المعاني، وهذا يُكسبه ثقة الناس فيه، وطمأنينتهم إلى ما يلقي عليهم.
وأحيانا يتصرف الرواة في الكلمة فيغيرون لفظها -بناء على جواز الرواية بالمعنى إذا لم يخل به- بزيادة حروف أو إبدالها بمرادف لكن المعنى يكون متقاربا، ومن لا علم له بذلك قد يظنه خطأ في الحديث، مع أن كل الألفاظ صحيحة لتقارب معانيها.
ومن أمثلة ذلك: ما جاء في حديث أبي رزين العقيلي لما سأل عن البعث وكيفيته فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(أما مررت بوادي أهلك محلا....الحديث).
فكلمة (مَحْلا) هكذا جاءت في المسند، ومعناها: مجدبا، من أمحلت الأرض إذا أجدبت، وجاء في الرواية الأخرى للمسند وعند الطيالسي (مُمْحِلا) وهي بمعنى الأولى، ومثلها حديث النواس رضي الله عنه في شأن الدجال وفيه(فيصبحون مُمْحلين)، وجاء في رواية الطبراني (قَحْلا)، وقحل الناس: يبسوا من شدة القحط. فهذا اختلاف في الروايات لكن المعنى واحد.
ت- بإمكانه مراجعة كتب غريب الحديث إن كانت الكلمة غريبة -أي يقل استعمالها- أو كانت مشتركة مع غيرها في المعنى؛ فالمصنفون في الغريب يعتنون ببيان الفروق المعنوية بين المشتركات في الألفاظ، وأحيانا يوردون أحاديث أخرى فيها ذات الكلمة أو قريبة منها في المعنى فيستفيد الخطيب بمراجعتها نصوصا أخرى، واتساعا في علم معاني الحديث.
والكتب في الغريب كثيرة ومتداولة ومن أشهرها: كتب الخطابي والحربي وابن الأثير.
ث- يمكنه أيضا أن يراجع كتب أهل اللغة كالقاموس والصحاح واللسان ونحوها؛ فإن أهل اللغة يأتون بجذر الكلمة ويذكرون ما فيها من استعمالات، ويستدلون لما يوردون من المعاني بالقرآن والسنة وأشعار العرب وأمثالهم.
ثامناً: التأكد من أن استدلاله بالحديث صحيح، فقد يكون معنى الحديث أو الشاهد منه على غير الوجه الذي أراده الخطيب؛ إما لفهمه على الخطأ، أو سمعه من أحد خطأ، أو يكون المعنى الذي قصده شاذا أو مرجوحا، وقد يحكيه على أنه المعنى الوحيد للحديث مع كونه مرجوحا.
وتلافي الخطأ في ذلك يكون بمراجعة كتب الشروح، ويستفيد من مراجعتها بعض النصوص الأخرى غير حديثه المشروح، وقد يجد آثارا وأقوالا للعلماء تنفعه في موضوعه.
فإن كان حديثه في الكتب الستة فقد شرحت شروحا كثيرة، وإن كان الحديث في كتاب لم يطبع له شرح، أو هو لا يملكه، فلن يعدم حيلة يجد فيها الحديث:
فقد يجده في شروحات عمدة الأحكام أو المنتقى أو بلوغ المرام إن كان الحديث في الأحكام.
وإن كان الحديث قولا وجده في شروح الجامع الصغير كفيض القدير للمناوي.
وربما وجده في شروحات مشكاة المصابيح أو رياض الصالحين أو شرح السنة للبغوي أو غيرها من كتب المجاميع والشروح.
تاسعاً: ينبغي للخطيب أن لا يشير إلى الأحاديث إشارة لا يفهمها إلا من كان حافظا للحديث، مستحضرا له، فليس كل المصلين يحفظون الأحاديث، وليس كل من يحفظها يستحضرها في الحال، ولا سيما إذا كان الحديث لا يطرق الأسماع كثيرا.
عاشراً: إذا كان في الحديث إشارة توضيحية من النبي عليه الصلاة والسلام، فأرى أن يطبقها الخطيب وهو يقرأ الحديث؛ تأسيا بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولإفهام المصلين كيف فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فالوصف وحده قد لا يفهمه كل المصلين، والفعل أبلغ من الوصف.
وكثيرا ما جاء في الأحاديث: وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، وخنس الإبهام، فبسط يديه أو قبضهما، وأشار بيده هكذا، أو قبل المشرق، يقول هكذا بأصبعه، وقبض أصابعه...
وأحيانا قد لا يجد الخطيب وصفا دقيقا في الرواية كيف فعل النبي عليه الصلاة والسلام، إما لاختصارها أو بدا للراوي أنها معروفة فلم يوضحها، وعلى الخطيب في مثل ذلك أن يجمع الروايات، ويطلع على شرح الحديث؛ ليتبين له الوصف كاملا إما من رواياته الأخرى وإما من كلام الشراح.
وذلك مثل حديث ابن عمر في أن الله تعالى يطوي السموات والأرضين بيديه، قال ابن عمر يحكي فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث بهذا: ويقبض أصابعه ويبسطها. هكذا في رواية مسلم، والحديث في الصحيحين. وزاد ذلك إيضاحا رواية للنسائي وفيها: وجعل باطنها إلى السماء[13].
الحادي عشر: إذا أنهى الخطيب صلاته، ثم سئل عن معنى في حديث استشهد به، أو أورد أحد المصلين عليه إشكالا في استدلاله، أو دليلا آخر ينقض ما قرره في خطبته، فلا يخلو الخطيب من حالين:
الأولى: أن يكون عنده جواب لهذا الإشكال، ويعلم ما قد يورد على استدلالاته من أدلة أخرى، ولديه أجوبة لها -ولا يتأتى ذلك للخطيب إلا بالتحضير الجيد- فليزل تلك الإشكالات، ويُجِبْ عنها بما آتاه الله تعالى من علم وفقه وتحضير جيد لموضوعه.
الثانية: أن لا يكون عنده جواب لهذا الإشكال، ولا يعلم بالأدلة التي أوردت عليه، فلا يجوز له حينئذ أن يخلص نفسه من هذا المأزق بالكذب، أو بنفي ما لا يعلم مع احتمال ثبوته، ولا يحل له أن يصر على رأيه وهو غير متأكد مما أورد عليه.
مثال ذلك: لو تحدث الخطيب عن فوائد الأمراض وما يحصل فيها من الأجر والثواب، وساق الآيات والأحاديث في فضل الصبر على المصائب، ثم أورد ما جاء في المسند وغيره من أن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قد دعا على نفسه بالحمى، فلازمته حتى إن حرها ليوجد من وراء اللحاف، واستشهد الخطيب بفعل أبي رضي الله عنه على جواز أن يدعو الإنسان على نفسه بالمرض ابتغاء الأجر، ولا سيما أن أبيا رضي الله عنه من فقهاء الصحابة وعلمائهم.
ثم أورد معترض على الخطيب الأحاديث التي فيها الأمر بسؤال الله تعالى العفو والعافية، والأخرى التي فيها النهي عن الدعاء على الأنفس أو الأولاد أو الأموال، وذكر قصة الرجل الذي دعا على نفسه فزاره النبي صلى الله عليه وسلم وقد أكله المرض، فأنكر عليه الصلاة والسلام عليه دعاءه على نفسه، وقصته مخرجة في صحيح مسلم.
ولا شك في أن الخطيب في مثل هذه الحالة مخطئ، ولا يحل له المكابرة والإصرار على الخطأ، وفعل أبي رضي الله عنه اجتهاد منه يؤجر عليه إن شاء الله تعالى، ولكن لا يقضى باجتهاده رضي الله عنه على النصوص الصحيحة الصريحة في هذا الباب، ولا يوافق عليه بحجة أنه من علماء الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه وإن كان كذلك فهو غير معصوم من الخطأ، وقد تخفى عليه بعض النصوص، ولا عصمة إلا للرسل عليهم السلام.
والواجب الشرعي، ثم الشجاعة الأدبية يقضيان على الخطيب بأن يراجع الحق، ويعترف بخطئه، وأن يشكر من تعقبه فيه، وبينه له، وأن يسعى إلى تصحيحه في خطبة تالية سواء صرح بخطئه، وذكر لهم أنه راجع عنه، وهذا أحسن.
فإن عجز عن ذلك قرر الصواب الذي يعارض ما قرره من خطأ سابقا، ويؤكد عليه مستشهدا بما علمه من أدلة كان من قبل يجهلها، فإن نوقش عقب الصلاة بقوله السابق بين أنه اخطأ فيه، وأنه صححه في هذه الجمعة.
وقد يظن بعض الخطباء أن مثل هذا الاعتراف يقلل من ثقة المصلين في الخطيب، وهذا ظن خاطئ، بل الاعتراف بالخطأ يزيد من طمأنينة المصلين وثقتهم في خطيبهم؛ لأنهم سيتيقنون أو يغلب على ظنهم أن ما لم يعتذر خطيبهم عنه فهو صحيح، فهو قد عودهم على الاعتذار مما يخطيء فيه.
وقد بينت في مقال سابق أنواع المناقشين للخطيب، وكيفية التعامل مع كل نوع منهم[14].
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] أود التنبيه على أمرين:
الأول: أن هذه المقالة وما قبلها وما سيتلوها في هذا الباب لا تختص بالخطيب وحده، وإن خوطب بها، بل يشترك معه الداعية والمحاضر والواعظ، وكل من تصدى لدعوة الناس، وأراد تحضير موضوع من الموضوعات لخطبته أو محاضرته أو موعظته أو بحثه أو مقالته.
الثاني: أنني ما جمعت مادة هذه المقالات من كتب متخصصة في الخطابة والدعوة وغيرها؛ لأنني لم أجد فيها ما أريد، وعليه فلا مراجع عندي لهذا الموضوع، ولا الذي قبله ولا ما يليه في هذا الباب، وإنما هي تجارب وممارسات خلال السنوات الماضية أردت أن أكتبها لإخواني، فالنقص والزلل محتمل فيها، والله الموفق.
[2] رواه أبو داود:4607 والترمذي وقال: حسن صحيح:2676 وابن ماجه:42 والدارمي: 95.
[3] رواه أبو داود (4604) وأحمد 4/130.
[4] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ص142.
[5] الحلية لأبي نعيم9/106.
[6] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ص142.
[7] انظر استدلال الخطيب بالقرآن، البيان عدد() ص().
[8] المصدر السابق.
[9] سير أعلام النبلاء 18/280وطبقات الحفاظ للسيوطي 1/435.
[10] انظر على سبيل المثال هذه الأحاديث في الترمذي: فحديث رقم (128)نقل فيه تصحيح أحمد والبخاري لحديث حمنة بنت جحش فيما تفعل المستحاضة وحديث(614) نقل فيه استغراب البخاري لحديث كعب ابن عجرة رضي الله عنه في الأمراء، وحديث(620) نقل فيه تصحيح البخاري لحديث في الصدقة عن علي رضي الله عنه وانظر أيضا:(644 و683 و758 و1016 و1177 و1178 و1461 و1366 و1776 و1841 و2697).
[11] انظر: معرفة علوم الحديث للحاكم ص146 وفتح المغيث 3/74.
[12] التمييز، ص187.
[13] السنن الكبرى (7695).
[14] انظر: استدلال الخطيب بالقرآن، البيان عدد () ص ().
التعليقات