اقتباس
إن رسالة المسجد، أيها الإمام، لا تقتصر على قولك: استووا، وإمامتك بهم! كما أن علاقتهم بك لا تنتهي عند متابعتهم لك في صلاتهم؛ فقبل أن يقتدوا بك في صلاتك ينبغي أن يهتدوا بك في أخلاقك وسلوكك وحسن تعاملك..
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على حبيبه من خلقه، الممدوح في كتابه بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وعلى آله الغُرِّ وأصحابه الميامين، وأزواجه الطاهرات، والتابعين.
وبعد:
فإن تصدرك للمسؤولية أو قبولك بها نتيجة اختيارٍ أو ترشيحٍ ما، ينبغي ألا يعني لك -بحال من الأحوال- أنه تشريف أو تميُّز، وإن كان في نظرك كذلك نتيجة جهلٍ بالأمور وحقائقها، أو قصور بمعرفة مقاصدها ومآلاتها.
وحتى لو ظن الناس ظنك هذا، وجاءتك تهانيهم بالمسؤولية تباعاً، ووردت إليك مباركاتهم سراعاً؛ فهي في الحقيقة، من حيث التوصيف الصحيح لها وإدراك تبعاتها ومعرفة عقباها، تكليف لا تشريف، ومغرمٌ لا مغنمٌ، ومسؤولية لا مندوحية، وحملٌ ثقيل اليوم، وحسرة وندامة غداً، وهذا ما حذر منه -عليه الصلاة والسلام- أبا ذر -رضي الله عنه- حيث قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ! ألا تستعملُني؟ قال: فضرب بيدِه على منكبي. ثم قال: "يا أبا ذرٍّ ! إنك ضعيفٌ، وإنها أمانةٌ، وإنها يومَ القيامةِ خزيٌ وندامةٌ؛ إلا من أخذها بحقِّها، وأدَّى الذي عليهِ فيها" رواه مسلم.
والناظر في حياتنا اليومية يجدها مليئةً بالشواهد المحزنة، والوقائع المؤلمة، والقضايا المؤسفة، التي تثبت لك مدى الانحراف الكبير لدى البعض في فهم حقيقة المسؤوليات، وطبيعة المهام الموكلة لأصحابها، سواء المستشرفين لها، أو المكلفين بها.
وهناك مشاهد تحضرني دائما بحكم تكرارها وقربها، جازماً أني لست الوحيد من يرى هذا ويشاهده بتكرار؛ بل الجميع يلامسه ويعيشه، خصوصاً ممن عرفت فيهم هذه الظاهرة وصارت لهم صفة ملازمة، وخلقاً ملاصقاً، وفي هذه الأسطر القليلة دعونا نعرفكم بهذه الظاهرة وأصحابها.
أعتذر -إخواني- أن يكون إمام مسجدنا وخطيب جامعنا هو موضوع حديثنا؛ لكنها الحقيقة وللأسف! ذلك أن كثيرا من الأئمة والخطباء -هدانا الله وإياهم- لا يحسن الاستفادة من وظيفته، ولا يجيد الانتفاع من موقعه؛ وذلك بسبب إحجامه عن التعرف على جماعة مسجده، والقرب منهم، وتوزيع النظرات عليهم، وإرسال البسمة في وجوههم، ومصافحتهم عند لقائهم، وتلبية دعوتهم، وتشريف مناسباتهم.
وحتى نكون منصفين لا مبالغين، أظن أننا لو فتشنا مبررات لهذا الجفاء، ومعاذير لهذا الانغلاق، لوجدنا في بعض الأحايين لبعضهم مبرراً وعذراً؛ إلا إنه -قطعاً- لا مبرر لآخرين ولا عذر في كل الأحوال؛ وبالتالي نجد أن أول ما يقدح في الذهن من تفسيرٍ لهذه المشكلة وتوصيف لهذه الظاهرة أمران:
الأول: أنها طباع تحكم أولئك الأشخاص؛ فتجد أنهم لا يحبون الخلطة بالآخرين، ولا يرغبون بالاجتماع بهم، ويفضلون الانكفاء على أنفسهم وأهليهم فقط أو من يعرفون، وهذا مرض ينبغي إزالته؛ حيث قد ثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- من حديث شيخ من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "المسلِمُ إذا كانَ مخالطًا النَّاسَ ويصبِرُ على أذاهم خيرٌ منَ المسلمِ الَّذي لا يخالطُ النَّاسَ ولا يصبرُ على أذاهم" صحيح الترمذي.
الثاني: أنه فساد في نفوسهم؛ ولذلك صور منها:
الصورة الأولى: البعض -حسب زعمه- يرى أن التعرف على جماعة مسجده والدخول فيهم يُذهب هيبته ويضعف مكانته؛ وبالتالي يتوارى عنهم ويتهرب من لقائهم، وهذا خللٌ سببه الجهل بالدين وعدم الفقه فيه، وما علِم المسكينُ أن من حِكم الإسلام العظيمة في إلزام الناس بالصلاة في المساجد خلف إمام واحد في صفوف مرصوصة متساوية الاجتماعَ والالتقاء والقرب؛ فإذا اتحدت الأبدان اتحدت الأرواح، فالأفكار والتوجهات، وهكذا...
الصورة الأخرى: يكون داعيه لذلك -والعياذ بالله- كبر في نفسه، وإعجاب بوظيفته؛ حيث يرى نفسه فوق الجميع، وتلك مصيبة عظمى، ومهلكة كبرى، وداء قاتل، فقد روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "وثلاثٌ مُهلِكاتٌ: هوًى مُتَّبَعٌ، وشُحٌّ مُطاعٌ، وإِعجابُ المرْءِ بنفْسِهِ" [حسنه الألباني في صحيح الجامع].
ومتى أُعجب المرء بنفسه فثَمَّ الخذلان، وضياع الشأن؛ فبدل أن يرجو بعمله النفع والجنة إذا به يجد نفسه على شفير جهنم بأقرب وسيلة وأسرع طريق؛ بسبب هذه الأوبئة وتلكم الأمراض.
ومن يعِ المسؤولية ويدرك المهمة فسيجد أنها فرصة سانحة (الإمامة والخطابة) أن تجمع هؤلاء بأهل مساجدهم وتربطهم بها، وهم حينها مكان اعتزاز واحترام، ومحل تقدير وإجلال، وموقع السؤال والاستفسار، ومقام التوجيه والاهتداء، وموطن البث والشكوى.
ولكن؛ للأسف! فرطوا في استغلال هذه المنح، وقصروا في توظيف هذه الفرص لنفع أنفسهم وبيئة عملهم، في حين أن هذه المناصب يستشرف لها من لا خلاق لهم، ويتمناها غيرنا لينشروا فيها أفكارهم، ويزرعوا فيها عقائدهم؛ لما تتمتع به من مزايا وخصائص لا تتوفر في أي وسيلة أخرى تجمع الناس كالمحافل وغيرها.
نعم، إنه لمن المؤسف جداً، ومن المحزن كثيراً، أن تجد خطيباً أو إماماً لا يعرف مَن وراءه من المصلين، حتى القريبين منه من ذوي الصف الأول؛ ناهيك عمن هم ذات اليمين والشمائل، والصف الثاني ومن بعده، فهو لا يعرف أوصافهم، فضلا عن أسمائهم أو كناهم؛ حتى إنك لتجد بعض الأئمة أو الخطباء كأنه غريب عليهم وهم غرباء عنه، رغم وجوده بينهم سنوات؛ بل ربما سمعت الأدهى من ذلك والأعجب أن المأمومين لا يعرفون اسمه أحيانا!.
وطريقة هذا الصنف وأسلوبه أن يدخل وقت إقامة الصلاة من الباب المخصص له، فيستقيم في مصلاه، ويرفع صوته: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم! ولم يعلم أنه بجفائه هذا وانغلاقه قد اختلفت عليه قلوبهم، وحينها يصلي بهم وهم له كارهون، ثم بعدها يسلم ويستقل الناس بجسده وهو قد أعرض عنهم بقلبه وبصره، ليقرأ أذكاراً بعد الصلاة على عجل, وينطلق مسرعاً لا يلوي على شيء إلى المخرج الذي منه دخل، وتستمر الحكاية.
ألا يخشى مثل هذا الصنف أن يدخل في عموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثةٌ لا تُرفعُ لهم صلاتُهم فوقَ رؤوسِهم شِبْرًا: رجلٌ أَمَّ قومًا وهم له كارهونَ..." [حسنه الألباني في تخريج مشكاة المصابيح].
والمشكلة أن هذا الصنف -هداهم الله- بأسلوبه هذا يستند إلى هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام- وسنته، وما أشد حرصه بهذه السنة! خصوصاً أنها لاقت خللاً تربوياً، وضعفاً إيمانياً، وجفاء خلقياً؛ فتشربها، ونسي أن هديه -عليه الصلاة والسلام- كان ألطف من هذا وأشمل؛ إذ كيف يتغافل صاحبنا أو يتناسى هديه -عليه الصلاة والسلام، بأبي هو وأمي- يوم كان يلتفت إلى أصحابه بجسده وقلبه وبصره بعد أن يسلم، فيستمتعون بالنظر إلى محياه المبتسم الوضاء لا المقطب، والبشوش لا المكدر.
ولئن كان -عليه الصلاة والسلام- يدخل في وقت الصلاة، فإذا ما رآه بلال دخل أقام الصلاة، فلقد كان يجلس بعدها فيسأل عن أصحابه، يتفقد غائبهم، ويسأل عن مريضهم، ويفسر رؤاهم، ويستمع لأشعارهم، وتذاكرهم تأريخهم الغابر، وقصصهم فيه، وغير ذلك كثير مما روي صحيحاً، وكثيراً ما كان هذا بعد صلاة الفجر.
فلم يكن -عليه الصلاة والسلام- يتوارى من الناس بلباس يسدله على وجهه، ويطأطئ رأسه بين جنبيه، مسارقاً المصلين النظرات! وما إن ينتهي من أذكاره حتى ينصرف؛ بل بعضهم لا يكملها، فينصرف قبل أن يأتي إليه أحد المصلين في حاجة ما.
كان المربي والمعلم -صلى الله عليه وسلم- واسع الصدر، قريب التعايش، سهل الحديث، يجلس بينهم كأنه واحد منهم، لا يتميز عنهم بشيء، ولا يعرض عن حاجتهم.
لقد كان المطلوب شرعاً وعقلاً وعرفاً ممن هذا وصفه وهذا سلوكه أن يبرز للمصلين نفسه، وألا يغالط نفسه متعللاً أن ذلك من هديه -صلى الله عليه وسلم-، وأنه بهذا يتبع سنته؛ والصحيح أن هذا لا يمت لهديه بصلة، لا من قريب ولا من بعيد؛ بل هو سلوك الناكصين عن هديه، الناكبين عن سنته.
إن الناس -أيها الإمام والخطيب- ينتظرون منك كلمة طيبة، أو نظرة معبرة، أو ابتسامة صادقة، أو مصافحة، أو لقاء تسألهم فيه عن أحوالهم، وتتفقد غائبهم، وتعزيهم في موتاهم، وتدعو لمريضهم، وتدعو لهم، وتبارك لهم في مناسباتهم؛ تتألف بها قلوبهم، وتزرع الطمأنينة في نفوسهم، تشوقهم لرؤيته -صلى الله عليه وسلم-، وتحدوهم للحشر معه تحت لوائه؛ لنيل شفاعته، والشرب من حوضه، من خلال السير على سنته، واتباع هديه.
إن رسالة المسجد، أيها الإمام، لا تقتصر على قولك: استووا، وإمامتك بهم! كما أن علاقتهم بك لا تنتهي عند متابعتهم لك في صلاتهم؛ فقبل أن يقتدوا بك في صلاتك ينبغي أن يهتدوا بك في أخلاقك وسلوكك وحسن تعاملك.
فرسالة إمامنا وخطيبنا أبعد من ذلك، إنها رسالة سامية هادفة بنّاءة؛ تبني العلاقات والروابط، وترسخ الأخلاق والفضائل، وتؤسس الأفكار والعقائد، وتجمع القلوب والأبدان على الخير والهدى.
فإذا ما تخلّى الإمام عن هذه السجايا وتلكم السمات فقد اختصر رسالة المسجد الكبرى اختصاراً مخلاً، وتخلى عن جزء هام من مسؤوليته؛ وحينها لا تنفعه "الغترة" ولا "الشماغ"، ولا اللحية ولا اللباس الأبيض الجذّاب؛ لأنّهُ حينها -في نظر الشرع- هيكلٌ فارغٌ معطّلٌ، لا يختلف حاله عن الحال التي انتهى إليها أحبار السوءِ من قبل، ففي الحديث، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "لتتّبِعُنَّ سنن الذين من قبلكم " [متفق عليه]، وهي سُننٌ تستعرُ -كما رأيتم- في القلوب والعقول والأبدان والأوضاع.
آمل أيها الكرام: أني قد بلغت بكم القصد وأهديكم الصواب؛ هدف التناصح وبغية التعاون؛ حتى لا نضر معشر الدعة وطلبة العلم أكثر مما ننفع ونسيء للرسول -صلى الله عليه وسلم- في هديه وشريعته بدلاً أن نقتدي به ونتأسى لنحبب للعباد دينه وشريعته..
اللهم انفعنا بما علمتنا وزدنا علما ! اللهم احشرنا تحت لوائه–عليه الصلاة والسلام- وأوردنا حوضه وارزقنا شفاعته وأكرمنا بجواره !
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات