اختلاف الرؤى الدعوية ودعاوى التشرذم (1)

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

.. وليس معنى اجتماع القلوب على الأخوة في الله أن تذوب الفوارق بين التجمعات العاملة للإسلام، أو أن تصير كلها كيانًا واحدًا له اهتمام واحد أو رؤية واحدة في التغيير؛ كلا على الإطلاق؛ فهذا لا يقول به عاقل فضلاً عمن دخل في معترك الحياة الدعوية ومارس بنفسه تجارب التعامل مع الآخرين، فلا حرج إطلاقًا في احتفاظ كل فصيل بتخصصه الذي ارتضاه لنفسه من خلال رؤيته للواقع ..

ملتقى الخطباء/ كانت سنَّة الله تعالى في الأمم التي طلعت عليها شمس الفطرة البشرية أن تقع في الاختلاف، سواء في وجهات نظرها أم تحديدها للأولويات، بل وفي اختيار الأوقات والأزمان التي تصلح لتكون محلاً للأعمال على اختلاف درجاتها من الأهمية والحاجة إليها، فضلاً عما يسببه ما بين البشر من تفاوت في العقول والأفهام وإدراك للحقائق وفهم دقيق للظروف الواقعية من اختلاف في الرؤى وتحديد للأولويات، هذا فيما يتعلق بالفطرة البشرية بوجه عام، وليست الدعوة الإسلامية -باعتبارها نشاطًا بشريًّا- بمنأى عن ذلك، بل هي واقعة في لب ذلك الأمر وأساسه، حيث جاءت كثير من النصوص الشرعية في الفروع حمّالة أوجه لتقبل أكثر من تأويل وتفسير للمراد منها وفقًا لتعدد الزمان والمكان، واختلاف أحوال العباد، وذلك لا شك مِنْ يُسْر الشريعة الإسلامية التي تفردت بمثل هذه الخصيصة، حيث لا خلاف في مسائل العقائد والثوابت من الشريعة، وإنما جاء الخلاف في المسائل الفروعية؛ تيسيرًا على الأمة، وإيعازًا للدعاة والمصلحين إلى تقبل الخلاف بصدر رحب، مادام واقعًا في دائرة المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف، وما لم يكن فيها دليل شرعي قطعي الثبوت قطعي الدلالة.

وعلى الرغم من بداهة المقدمة السابقة واتفاق العقلاء عليها بالقبول إلا أننا نستطيع أن نلمس حالة من التهارج والتشرذم والتفرق بين الدعاة إلى الله تعالى والمصلحين -إلا من رحم الله- أورثت خذلانًا وفشلاً وضياعًا للكلمة وسط ركام من التنازعات وتجرؤ كل فريق على نظيره بسبب اختلاف الرؤية الذي أُتبع بالهوى لدى أي من الطرفين؛ فكان ذلك مصداقًا لوعيد الله تعالى في قوله: (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46]؛ حيث رتب سبحانه الفشل وذهاب القوة وضياع الكلمة وعدم اكتراث الأعداء بالمؤمنين على تنازع الجماعة المسلمة وتفرقها، ومع ذلك أمر بصبر كلا الفريقين المختلفيْن على الآخر، وإن وجد منه أذى أو لمس منه إساءة ظن أو اتهامًا بالباطل.

فطَرْحُ الهوى جانبًا، واستسلام المؤمنين لله ابتداءً يُبطل أسباب النزاع، فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه؛ وإلا حين يكون الهوى المطاع والشح المتبع هو الذي يوجِّه الآراء والأفكار، فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيس للنزاع بينهم -مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة- فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر؛ فلكم اختلف العلماء والصالحون المصلحون من السلف والخلف وظلوا مع ذلك إخوانًا متحابين متآلفين؟! إنما مثار التنازع والفُرقة هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له أن وجه الحق في غيرها! وإنما هو وضع "الذات" في كفة، والحق في كفة؛ وترجيح الذات على الحق الواجب الاتباع..

لقد كانت الفرقة إيذانًا بتسلط التتر على دولة الإسلام في وقت انتشرت فيه الفتن في المذاهب واعتداد كل ذي رأي برأيه دون النظر إلى المصلحة العامة للأمة، فكانت النتيجة قتلى بالملايين وتسلط للكفار على بلاد المسلمين. ثم تسلَّطَ الصليبيون على المسلمين في بلاد الأندلس يوم أن أصبحوا فرقًا وطوائف بعد عزة وتمكين دام ثمانية قرون. وتسلط اليهود في هذا العصر على بيت المقدس واستطالوا على الملايين المحيطة به من المسلمين بتقطع أمرهم، وفساد ذات بينهم، وإعراضهم عن أمر الله عز وجل. وكانت الدولة للغرب الصليبي على الأمة الإسلامية في أكثر من بقعة من بقاع الأرض؛ لانشغال كل طرف بنفسه وتنازعه مع غيره على الرياسة والسلطان، والمسابقة في إرضاء القوى الكافرة على حساب الوحدة الإسلامية؛ فلله كم من دماء أريقت، وأرواح أزهقت، ومقدسات هُتكت؟! ولا يزالون مختلفين!!

ومن يتأمل نصوص الوحيين يجد تشنيعًا على المتخالفين المتفرقين؛ وأن الاجتماع على شرع الله تعالى من النعم الكبرى التي لا يقدِّر حجمها إلا من حرم منها؛ يقول تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

فهذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتنّ الله بها على الجماعة المسلمة الأولى، وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائمًا إلى قيام الساعة، وهو هنا يذكِّرهم هذه النعمة، يذكِّرهم كيف كانوا قبل الإسلام "أعداءً"، فما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد، وهما الحيان العربيان في المدينة النبوية، يجاورهما اليهود الذين كانوا يوقدون حول هذه العداوة وينفخون في نارها حتى تأكل روابط الحيين جميعًا، ومن ثمّ تجد يهود بيئتها المناسبة ومجالها الصالح الذي لا تعمل إلا فيه، ولا تعيش إلا معه. وهو الواقع الذي تدعونا الوقائع والأحداث المعاصرة إلى التعلم منه؛ فـ"فرِّق تسد" ما هي إلا مذهب شيطاني من مذاهب الصهيونية التي وعاها الأعداء وبثوها في قلوب الأمة بدءًا من الدول والإمارات الإسلامية التي فعَّلت الحدود السياسية فيما بينها، ليترسخ في قلب كل امرئ مسلم أنه مختلف عن أخيه الذي يعيش حيزًا آخر من اليابسة، وانتهاءً بالتجمعات الإسلامية الصغيرة أو الكبيرة التي صارت توالي وتعادي على الانتماء للمذهب أو الشيخ أو القبيلة.

فغير ممكن أن يجمع القلوبَ إلا أخوةٌ في الله، تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية، والثارات القبلية، والأطماع الشخصية، والرايات العنصرية، ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال، باتباع هدي الله، والاسترشاد بسنة رسول الله.

وليس معنى اجتماع القلوب على الأخوة في الله أن تذوب الفوارق بين التجمعات العاملة للإسلام، أو أن تصير كلها كيانًا واحدًا له اهتمام واحد أو رؤية واحدة في التغيير؛ كلا على الإطلاق؛ فهذا لا يقول به عاقل فضلاً عمن دخل في معترك الحياة الدعوية ومارس بنفسه تجارب التعامل مع الآخرين، فلا حرج إطلاقًا في احتفاظ كل فصيل بتخصصه الذي ارتضاه لنفسه من خلال رؤيته للواقع، ومحاولته استرشاد الطريق الأسمى في تغييره للأفضل، ولكن ليعلم كل عامل للإسلام أن الاختلاف الذي يراه من حوله بينه وبين إخوانه ليس إلا اختلاف تنوع، تتعدد فيه الآراء إزاء القضية الواحدة ردًّا أو قبولاً أو تفصيلاً، دون الحاجة إلى بث الكراهية أو المعاداة والموالاة بناءً على نظرة الطرف الآخر إزاء القضية نفسها، مع الاحتفاظ بكامل الاحترام لرؤية الطرف الآخر، والاعتقاد الملزم لجميع الأطراف بأنه يقف على ثغر من ثغور الإسلام، ويحتاج من إخوانه العاملين في التجمعات الأخرى للتأييد والتشجيع والمعاونة والدعاء، كما كان يفعل الصالحون من سلف الأمة تجاه إخوانهم حتى ولو اختلفوا معهم في مسألة من المسائل أو نظرة لأمر من الأمور. وهو عين ما كان يروِّج له الإمام الشافعي -رحمه الله- بقوله: "ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة؟!".

وكأنيِّ بالداعين إلى أن تصير كل التجمعات الإسلامية تجمعًا واحدًا له رؤية واحدة -هي رؤية الداعي في الغالب- كأني به كلاعب بناء الأجسام الذي ركَّز تدريباته على عضلة الذراع دون بقية أجزاء جسده، حتى تضخم ذراعاه -فيما بقية أعضائه على حالها- فأحدثا تشوهًا في جسده غير مقبول، وهذه هي الصورة التي ستكون عليها الدعوة الإسلامية في حالة توحيد الرؤى الدعوية، واختصار جهود بقية التجمعات في ناحية واحدة هي ما أقتنع به أنا والعاملين معي فقط، فالتركيز على جانب واحد فقط من جوانب الدعوة أو طلب العلم أو التربية أو الجهاد أو العمل السياسي أو الحسبة أو دعوة غير المسلمين إلى الإسلام... أو ما سوى ذلك من مجالات الدعوة، لاشك سيضعف الدعوة ويعمل على تشوهها وخروج منتج غريب لا نرتضيه جميعًا؛ فضلاً عما ستعانيه الدعوة الإسلامية من تقصير أفرادها في بقية الأعمال الأخرى المنوطة بهم؛ لذلك فإن على كل التجمعات العاملة للدين أن تتقبل التنوع، وتتعامل مع كل تجمع على أساس التخصص المحمود الذي ارتضته من خلال وجهة نظرها وإمكانات العاملين معها، وتتجاهل ما قد يفسد ود هذه المحبة أو يكدّر صفوها.

وليس أشد على النفس من أن ترى فصيلين يكيل كل منهما للآخر الاتهامات ويصمه بالمعايب والمساوئ والجهل والابتداع في الدين لا لشيء إلا لعدم تبني كل منهما لوجهة نظر الآخر في أمر قد يكون من السعة بمكان، أو لرفض أحدهما الانضواء تحت لواء الآخر، أو على أقل تقدير عدم القبول النفسي لما يقوم به تجمع آخر من جهود لنشر دين الله تعالى والسعي في دفع عجلة الدعوة إلى الأمام، في حين تجمعت دول أوروبية شتى -أقصد دول الاتحاد الأوروبي- وهي التي تختلف في اللغات والعادات والتقاليد والتوجهات السياسية والأعراف المجتمعية والأعراق والصفات النفسية والتركيبات الجسمانية والعقلية، إلا أنها اتفقت جميعها في الدين، رغم الاختلافات المذهبية العميقة في النصرانية، واتفقت كذلك على الكيد والعداء للأمة الإسلامية. وهذا هو سبب النكبات المتتالية التي وقعت فيها الأمة.

وقد زاد هذا التفرق والتنازع -سواء أكان بين الدول الإسلامية أم بين التجمعات الصغيرة أو الكبيرة العاملة للإسلام- من سطوة الأعداء على الأمة؛ إذ لو كان الجميع على قلب رجل واحد، وكان قرارهم واحدًا منطلقًا من المصلحة العامة للأمة مع غض الطرف عما قد ينطوي على ذلك من هضم لحق النفس أو إنكار للذات من أجل المصلحة العامة، لما ارتُكبت في حقها هذه الجرائم، وهو الأمر الذي أكّده شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- بقوله: "وهذا التفريق الذي حصل من الأمة: علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها، هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب"(1).

ــــــــــــــــ

(1) مجموع الفتاوى (3/419-421).

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life