عناصر الخطبة
1/سرعة ملل النفوس 2/التحذير من الفتور في العشر الأواخر 3/أسباب الفتور 4/علامات الإصابة بالفتور 5/سبل علاج الفتور 6/ التذكير بإخراج زكاة الفطر.اقتباس
إن بقاء قلب المؤمن على الدرجة الرفيعة من الإيمان التي يجدها في أعظم العبادات قدرًا، وأكثرها تأثيرًا؛ كالصلاة، والحج، والصيام وتلاوة القرآن، وقيام الليل، أمر متعذر، فلا بد من النزول عن هذه الدرجة إلى ما دونها، وأقل منها؛ لشدة انشغال القلب بأعمال الدنيا، وملذاتها، وما يعتريه فيها من أفراح وأتراح، وإن هذا الفتور ليس من الرياء أو النفاق، وقد وجد هذا أفضل القرون من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد فيا أيها الناس: نحن نعيش في زمن فاضل، تُقال في العثرات، وتُسكب فيه العبرات، وتُضاعف فيه الحسنات، وإن النفس ملولة، تفتر بسرعة، خصوصًا تلك النفس التي لم تعتد على العبادة، والمسابقة في الخير، فتجدها تمل بسرعة، وتحب أن تعود إلى سابق عهدها من اللعب واللهو والتقصير في العبادة.
أيها المؤمنون: إن للفتور أسبابًا ودوافع لا بد من معرفتها، حتى يتجنبها العبد، ويستمر في الاجتهاد حتى بعد رمضان، وإن الفتور بعد الاجتهاد أمر طبعي، أغلب الخلق عليه، فما أصابه الفتور إلا بعد اجتهاد في الخير وإقبال شديد، وهذه حال المؤمن، أخرج ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن لكل عمل شرَّة، ولكل شرة فترة، فمن كانت شرّته إلى سُنّتي فقد أفلح، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك".
والمعنى العام للحديث أنه إذا اجتهد العبد في فعل الخير؛ بحيث يسابق لكل معروف وطاعة خصوصًا في الأزمنة الفاضلة، فإنَّ هذا الحماس لا بد أن يعقبه فتور، فالمفلح هو من كانت فتوره في المستحبات، ولم يصلِّ للفرائض؛ لأنه إذا بلغ الفرائض أصبح تقصيرًا ومعصية.
فعلى العبد أن يجتهد في العبادة حسب طاقة نفسه حتى لا تمل العبادة، وكلما ملَّت ألزمها الفرائض، ولا يكلفها ما لا تطيق، وهكذا يعود مرة أخرى للاجتهاد، فلا يزال بين فتور واجتهاد وبُعد عن المعاصي أو تضييعٍ للفرائض، هكذا ينبغي أن تكون حال المؤمن.
عباد الله: إن بقاء قلب المؤمن على الدرجة الرفيعة من الإيمان التي يجدها في أعظم العبادات قدرًا، وأكثرها تأثيرًا؛ كالصلاة، والحج، والصيام وتلاوة القرآن، وقيام الليل، أمر متعذر، فلا بد من النزول عن هذه الدرجة إلى ما دونها، وأقل منها؛ لشدة انشغال القلب بأعمال الدنيا، وملذاتها، وما يعتريه فيها من أفراح وأتراح، وإن هذا الفتور ليس من الرياء أو النفاق، وقد وجد هذا أفضل القرون من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد روى مسلم في صحيحه: عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا تَقُولُ؟ قَالَ قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْكم لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ، سَاعَةً وَسَاعَةً"، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
والمقصد من هذا أن العبد يراقب نفسه، كلما فترت جاهدها، وألزمها سنة الحبيب -صلوات ربي وسلامه عليه-، فلا يزال في جهاد حتى يلقى ربه وهو محافظ على الفرائض، مجتهد في النوافل، متجافٍ عن المعاصي، كلما أخفق وأذنب سارع بالتوبة قبل ساعة الاحتضار.
أيها الناس: تلذذوا بالطاعة، وتذوقوا حلاوة الإيمان فهي أكبر معين على الثبات على الخير.
اللهم وفِّقنا لهداك وثبتنا على الحق حتى نلقاك، أقول قولي...
الخطبة الثانية:
الحمد لله،...
أما بعد فيا أيها الناس: يجب أن يبدأ العبد موسم الخير بالجد والاجتهاد، وصحبة الأخيار المشجعين على الخير حتى ينقضي الموسم، وأن لا يجتهد في أوله، ويفتر في ثناياه وختامه، فالعبرة بالخواتيم، خصوصًا في شهر رمضان، فآخره خيرٌ من أوله، ولهذا كان -صلى الله عليه وسلم- يعتكف في العشر الأواخر من رمضان كل سنة، فنحن بحاجة إلى زيادة في الهمة والعمل الصالح قبل انقضاء الموسم، والخيل إذا قاربت على النهاية جادت بكل ما لديها من قوة.
معاشر المسلمين: قد يقول البعض وكيف أعرف أني مصاب بالفتور؟
إنه سؤال تتحدث به قلوبنا، وإن لم تنطق به ألسنتنا، فأقول: إن ثمة مظاهر كثيرة لهذا الداء، تشير لك بثلمة في إيمانك تحتاج إلى ترميم، واهتزاز في علاقتك بربك تحتاج إلى تثبيت، أذكر لك طرفًا منها، فارع سمعك لذكرها، ولنتحسس وجودها أو عدمها في نفوسنا:
المظهر الأول: قسوة القلب، ذلك السياج المانع للقلب من الخشوع لله –تعالى-، الحابس لدمع العين من خشيته، الحائل دون قشعريرة الجلد وليونته ذلاً لله تعالى، قد جفَّت ينابيع الحب فيه، وأقفرت رياض الرحمة لديه، واصفرت خضرة المشاعر في فؤاده، (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الزمر: 22].
وتستمر القسوة بالقلب حتى تصل إلى درجة تفوق صلابة الأحجار والصخور (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[البقرة: 74].
وشتَّان بين من كان هذا حال قلوبهم، وبين من تنتفض أجسادهم كالعصافير المبللة بالمطر رهبة من الله –تعالى-، حتى خلَّد الله ذكرهم ووصفهم في كتابه العزيز فقال: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[الزمر: 23].
ولا ريب أن ذكر الموت والاستعداد للآخرة وتمني حسن الخاتمة علاج لكل من قسا قلبه بالمعصية، ولهذا حثَّ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على زيارة القبور؛ لأنها تُذَكِّر الآخرة ولتلين القلب.
المظهر الثاني: التهاون في فعل الطاعات، ما كان منها نفلاً كالأذكار والسنن والوتر، أو غير ذلك، وغذا وصل الفتور إلى الفرائض كالحج، والصلاة، والصيام، فقد زاد فتوره عن الأمر المسموح به شرعًا، ودخل في المعصية، فإذا رأى الإنسان نفسه متثاقلاً في أداء العبادات، متكاسلاً في النهوض إليها، كارهًا لأدائها، يشعر كأنها أمثال الجبال على كاهله، فليعلم أن داء الفتور قد دبَّ في أوصاله، وسرى في دمه، يقول تعالى ذامًا هذا الصنف من المصابين بهزال الإيمان وضعفه: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)[النساء: 142]، ويقول تعالى: (وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)[التوبة: 54].
ومن علامات الفتور: ثِقَل مجالس الذكر على النفس، فالبعض لا يطيق سماع موعظة ولا حديث، وكذا مجالسة الأخيار، فالفاتر عن الطاعة لا يأنس بأهل النشاط والاجتهاد في الخير؛ لأن مجالستهم تذهب الفتور وتحث على الطاعة.
أيها المؤمنون: إن الاستمرار في الفتور وعدم الرجوع للنشاط في الطاعة من علامات المنافقين التي يجب على المؤمن الحذر منها.
بقي في رمضان ليالي عظيمة مليئة بالخير والرحمة والعتق، فلا تفتروا -رحمكم الله-، فقد أوشك شهركم على الرحيل، فاجتهدوا في فعل الخير، وتعرضوا لما بقي من النفحات، فإنما يوفَّى العامل أحره عند انقضاء عمله.
وختامًا أذكركم عباد الله بإخراج زكاة الفطر التي أوجبها الله على من غربت عليه شمس آخر يوم من رمضان من المسلمين، على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، تجب على مَن فضل له صاع من طعام عن قوت عياله يوم العيد، وتخرج طعامًا ولا يجزئ إخراجها من النقود على الصحيح من أقوال أهل العلم، والأفضل إخراجها في البلد التي صام فيها، ولو أخرجها إلى المناطق الفقيرة خارج بلاده جاز، ووقتها قبل العيد بيوم أو يومين، ولا يجوز تأخيرها إلى ما بعد صلاة العيد.
اللهم اختم لنا شهرنا برضوانك…..
التعليقات