اقتباس
حتى لقد صار بعض الناس في زماننا هذا لا يتحركون حركة إلا بهوى، ولا يحكمون حكمًا إلا لهوى، ولا ينطقون كلمة إلا عن هوى، ولا يحبون ولا يبعضون ولا يصالحون ولا يهجرون ولا يعطون ولا يمنعون إلا على أساس من هوى... فكل حياتهم هوى، قد تحكمت فيهم رغباتهم ونفوسهم وأهواؤهم، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "ألا وإنه يخرج في أمتي قوم يهوون هوى يتجارى بهم ذلك الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يدع منه عرقًا ولا مفصلًا إلا دخله"...
هما ضدان لا يجتمعان، إما هذا وإما ذاك، وهل يجتمع النقيضان؟! إما أن تتبع الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإما أن تتبع هواك، ولا يمكن أبدًا بأي حال من الأحوال أن تتبع الله وتتبع هواك معًا! وهل يجتمع النور والظلام؟! هل يجتمع الهدى والضلال؟!... كلا، بل هذا من المستحيلات.
إن الإنسان إذا اتبع هواه ضل ضلالًا بعيدًا، بل إن السبب الرئيسي في ضلال ملايين البشر هو تقديم هوى أنفسهم ورغباتهم على مراد الله -عز وجل-، لذا فقد كرر القرآن الكريم التحذير من ذلك وأكده، فمرة يقول لنبي الله داود -عليه السلام-: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص: 26]، وأخرى يقول لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 145]، ثم جعلها القرآن قاعدة تقول: (وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام: 119]، وهذه المرة يستبعد القرآن أن يكون أحد أشد ضلالًا ممن اتبع هواه قائلًا: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) [القصص: 50]، والنماذج الواقعية المشاهدة لإضلال الهوى لأصحابه أكثر من أن تُحصر:
فهذا شاب قد تلبس بمعصية من المعاصي -يواعد فتاة أجنبية عنه أو يدمن مشاهدة الإباحيات...- وهو يوقن أن ما يفعله يرفضه الشرع وتأباه المروءة ويستهجنه العرف الصحيح، ومع ذلك فهو يتمادى في غيه وخطئه، ويختلق المبرارت والمسوغات ويجادل من ينصحه، مع أنه يوقن في قرارة نفسه أنه على خطأ، فتُرى ما الذي دفعه إلى هذا؟ إنه اتباع الهوى.
وهذان رجلان يقومان بعمل ما، كلاهما يفعل أمام عيون الناس نفس الأمر ونفس العمل، فيمدح القوم أولهما ويعيبون على ثانيهما مع أن العمل متطابق! فتُرى ما الذي دفعهم إلى قبول الأمر من الأول واستهجانه من الثاني؟ أليس اتباع الهوى؛ فهواهم مع الأول فقبلوا منه، دون الآخر!
وتلك الدعوات التي تخرج علينا بعري المرأة أو بإباحة الغناء والمجون أو باختلاط الجنسين أو بتقنين الشذوذ الجنسي... وغيرها من موبقات يعلم الصغير قبل الكبير فداحة خطرها وشرها، فما الذي حمل دعاتها على الترويج لها؟ أهو شيء غير الهوى؟!
وهذان أخوان يتجادلان في مسألة من المسائل، وقد اختلفا وتمسَّك كل منهما برأيه، مع أن أحدهما يدرك تمام الإدراك أن الحق مع أخيه، لكنه يحرد ويكابر ويعاند، فما الذي يدفعه إلى ذلك؟ الإجابة: أن هذا الحق لا يوافق هواه.
حتى لقد صار بعض الناس في زماننا هذا لا يتحركون حركة إلا بهوى، ولا يحكمون حكمًا إلا لهوى، ولا ينطقون كلمة إلا عن هوى، ولا يحبون ولا يبعضون ولا يصالحون ولا يهجرون ولا يعطون ولا يمنعون إلا على أساس من هوى... فكل حياتهم هوى، قد تحكمت فيهم رغباتهم ونفوسهم وأهواؤهم، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "ألا وإنه يخرج في أمتي قوم يهوون هوى يتجارى بهم ذلك الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يدع منه عرقًا ولا مفصلًا إلا دخله" (السنة لابن أبي عاصم، والحاكم).
وما يزال العبد يستسلم لهواه ويخضع له ويتابعه حتى يصير ذلك الهوى صنمًا في قلبه يتخذه إلهًا من دون الله، قال -تعالى-: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) [الفرقان: 43]، يقول قتادة مفسرًا كيفية اتخاذ الهوى إلهًا: "كلما هوى شيئا ركبه، وكلما اشتهى شيئًا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى" (أضواء البيان).
وإن العالِم إذا اتبع هواه قاده ذلك -إن استرسل فيه- إلى الكفر -والعياذ بالله-، وهذا نموذج قدَّمه لنا القرآن: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) [الأعراف: 175-176]، وقد قيل أنها نزلت في واحد من علماء بني إسرائيل وكان مستجاب الدعاء، لكنه اتبع هواه ودعا على موسى -عليه السلام- وفتن حتى انتهى به الأمر أن سجد للشيطان -نعوذ بالله من الحور بعد الكور-.
ومثله قد فعل كثير من بني إسرائيل فيما نقل القرآن عنهم ونعى عليهم: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) [البقرة: 87].
***
ومن خطورة الهوى أنه متأصل في النفس ذو جذور وأصول في تكوينها، لكن الغلبة عليه ممكنة يسيرة على من يسرها الله عليه، وقد قدَّم ابن القيم -رحمه الله- بعض وسائل التغلب على الهوى لمن وقع في شركه قائلًا: "فإن قيل: فكيف يتخلص من هذا من قد وقع فيه؟ قيل: يمكنه التخلص بعون الله وتوفيقه له بأمور:
أحدها: عزيمة حر يغار لنفسه وعليها.
ومنها: جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة.
ومنها: قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة، والشجاعة كلها صبر ساعة، وخير عيش أدركه العبد بصبره.
ومنها: ملاحظته الألم الزائد على لذة طاعة هواه.
ومنها: إبقاؤه على منزلته عند الله -تعالى- وفي قلوب عباده، وهو خير وأنفع له من لذة موافقة الهوى.
ومنها: فرحه بغلبة عدوه وقهره له ورده خاسئًا بغيظه وغمه وهمه حيث لم ينل منه أمنيته...
ومنها: التفكر في أنه لم يخلق للهوى، وإنما هيء لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصيته للهوى، كما قيل:
قد هيأوك لأمر لو فطنت له *** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
ومنها: أن لا يختار لنفسه أن يكون الحيوان البهيم أحسن حالًا منه؛ فإن الحيوان يميز بطبعه بين مواقع ما يضره وما ينفعه فيؤثر النافع على الضار.
ومنها: أن يسير بقلبه في عواقب الهوى فيتأمل كم أفاتت معصيته من فضيلة وكم أوقعت في رذيلة وكم أكلة منعت أكلات وكم من لذة فوتت لذات وكم من شهوة كسرت جاهًا ونكست رأسًا وقبحت ذكرًا وأورثت ذمًا وأعقبت ذلًا وألزمت عارًا لا يغسله الماء غير أن عين صاحب الهوى عمياء.
ومنها: أن يعلم أن الشيطان ليس له مدخل على ابن آدم إلا من باب هواه؛ فإنه يطيف به من أين يدخل عليه حتى يفسد عليه قلبه وأعماله، فلا يجد مدخلًا إلا من باب الهوى فيسري معه سريان السم في الأعضاء... (روضة المحبين لابن القيم مختصرًا).
فاللهم إنا نستعيذ بك ونقول كما كان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال والأهواء" (الترمذي).
ومما يعين كذلك على التغلب على الهوى إدراك المرء بركات مخالفة هوى نفسه والتسامي فوقه، فإن الخير كله والسعادة كلها في مخالفته، فمن خالف هواه فله الجنة، قال -تعالى-: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40-41]،
وقد جمعنا ها هنا عددًا من خطب الخطباء الذين قد انتبهوا قبلنا إلى خطورة الهوى، فاعتلوا منابرهم محذرين منه ومنذرين عاقبته ومبينين بركات مخالفته، وهذه هي بعض خطبهم علَّ الله أن ينفع بها ويفتح بها باب خير.
التعليقات