اقتباس
في كل الأحوال؛ فإن السعودية الحريصة كل الحرص على إنجاح مناسك الحج، وتبذل في ذلك جهوداً هائلة لا يمكن تجاهلها أو التقليل من حجمها، معنية بدراسة هذه الأسباب التي أدت إلى الكارثة، وهي بالتأكيد مصممة على الحؤول دون تكرارها لأسباب دينية، أخلاقية، وسياسية أيضاً، وهي تدرك جيداً ما الذي يرنو إليه المغرضون من إلقاء التبعة عليها فيما يخرج عن إرادتها بقضاء الله وقدره، أو تضخيم أي خلل قد يحدث ولا يمكن أن يخلو منه جهد بشري في تنظيم موسم كهذا بهذه الأعداد الضخمة والتحديات الهائلة..
كم هو محزن أن نفقد مسلمين في شعيرة من الشعائر، وكم هو مؤلم أن يكون من بين من يتوفاهم الله صالحون.. وفي فاجعة كتدافع مشعر منى حصدت ما يقرب من ثمانمائة حاج يزداد الألم حين يوظف البعض سياسياً لتحقيق أهداف حقيرة.
السلطات السعودية باشرت تحقيقاً في المأساة التي ألمت بالمسلمين جراء تدافع في إحدى طرق الحجيج في منى، وفي أحوال كهذه؛ فإن التحقيق لن يخرج في نتائجه عن إحدى هذه الاحتمالات:
- إما خلل عفوي لا يمكن توقعه، وهو ناجم حينئذ من خطأ بشري من بعض الحجيج أو بعض المشرفين الميدانيين.
- وإما خلل عفوي يمكن توقع حصوله، لكنه استبعد تخطيطياً لسبب أو لآخر.
- وإما أن الحادث ناجم عن تعمد تآمري من مدسوسين من بعض الأجهزة التابعة لدول معادية للسعودية أو للإسلام عموماً (وهو ما تشير له بعض تقارير ميدانية لم تتأكد أو تنف بعد).
في كل الأحوال؛ فإن السعودية الحريصة كل الحرص على إنجاح مناسك الحج، وتبذل في ذلك جهوداً هائلة لا يمكن تجاهلها أو التقليل من حجمها، معنية بدراسة هذه الأسباب التي أدت إلى الكارثة، وهي بالتأكيد مصممة على الحؤول دون تكرارها لأسباب دينية، أخلاقية، وسياسية أيضاً، وهي تدرك جيداً ما الذي يرنو إليه المغرضون من إلقاء التبعة عليها فيما يخرج عن إرادتها بقضاء الله وقدره، أو تضخيم أي خلل قد يحدث ولا يمكن أن يخلو منه جهد بشري في تنظيم موسم كهذا بهذه الأعداد الضخمة والتحديات الهائلة.
ولذا؛ فليس من مصلحة السلطات السعودية ألا تجري تحقيقاً شفافاً يفضي إلى تحديد المسؤول عن هذه الحادثة، لا عقلاً ولا منطقاً. هذا بالإضافة إلى أن هذا البلد الثري لديه من الإمكانات والخبرات الطويلة في رعاية تلك المناسك ما لا يجعله بحاجة لدروس خارجية خصوصاً من دولة لم يطأ غربانها أرضاً إلا حل فيه الخراب/إيران.
ولا أحد يمكنه في المقابل أن ينكر أن ثمة حاجة إلى تطوير الأداء في رعاية المناسك، إذ إن عملية التطوير وتصحيح الأخطاء – إن وقعت – هي حالة ديناميكية مستمرة لا ينبغي لها أن تتوقف أبداً، لاسيما إذ ما استعرضت هيئات السلامة النقاط التي يمكن أن يحدث بها خلل ما، وترفع بهذا توصياتها لمسؤولي التخطيط والإشراف على عمل يعلم الجميع أن ليس له نظير في العالم، وبالتالي؛ فإن خبراته وتجاربه هي محض تراكمات ميدانية في هذه الأماكن المباركة بالذات، لا سواها، ولا خبرة لغيرها بها على الإطلاق، وعليه؛ فإن الحاجة لدراسة أي خلل تنظيمي، أو تآمر من جهات دولية، أو عدم التزام من بعض الحجيج والتفويجات، هو محض عمل تفاعلي دائم لا ينقطع ما دامت هناك متغيرات حولية تتعلق بمتغيرات أعداد الحجاج وثقافتهم والمناخات المحيطة، الجوية والتقنية أيضاً.. الخ. لكن في المقابل، فإن هذا كله لا يبيح للإيرانيين استغلال هذه المأساة لعرض أطروحتهم الصهيونية النافذة في العراق وسوريا واليمن من أجل تقسيم بلاد الحرمين الشريفين أيضاً.
التحقيقات لم تنته بعد، ولم يصدر من السلطات السعودية ما يمكن البناء عليه في تحليل أسباب الكارثة، كما أنه لم يرشح خارج إطار التحقيق ما يبلغ بنا حد اليقين في ترجيح كفة هذا الاحتمال عن ذاك، سوى مؤشرات تومئ إلى احتمال ضلوع البعثة الإيرانية وضباطها الاستخباريين الاعتياديين، وغير الاعتياديين، لاسيما بعدما أعلن التليفزيون الإيراني الحكومي عن أن سفير إيران السابق لدى لبنان غضنفر ركن آبادي مفقود ضمن قائمة تضم أكثر من ثلاثمائة إيراني مفقود!، وهو ما كشف عن مفاجأة مثيرة تتعلق بكون غضنفر لم يدخل السعودية بطريقة شرعية واستخدم اسماً مزوراً، علاوة على شخصيات أخرى استخبارية وأمنية تردد أنها فقدت أيضاً كمسئول قسم الدراسات الاستراتيجية في الحرس الثوري الإيراني الدكتور علي أصغر فولادغر (استخبارات) , والمسئول في وزارة الخارجية الإيرانية أحمد فهيم، والسفير الإيراني في سلوفينيا محمد رحيم أقايي بور, واللواء إسماعيل حميد زائر مدير الجرائم الكُبرى في وزارة الداخلية العراقية (عمليات بغداد)، إضافة لما بثته فضائية العربية نقلاً عن شهود عيان أكدوا تورط نحو 300 إيراني في السير بعكس الاتجاه مسببين هذا التدافع.. وبرغم أن مسارعة الإيرانيين في اتهام السعودية بالتقصير من دون معطيات مدينة، يعزز من فرضية تورط إيرانيين في الحادث. إلا أن كل هذا - كما سبق – لا يمكنه استباق تحقيق وتوجيه أصابع الاتهام أو التقصير لأحد.
ولكن بعيداً عن تحليل الحادثة، وما إذا كانت حادثاً مدبراً أو ناجماً عن خلل بشري ما؛ فإن ما يسترعي الالتفات إليه هو محاولات استثمار الحادثة في تحقيق أهداف سياسية إيرانية رخيصة.
وما مالت إليه طهران فور وقوع المأساة من طلب التحقيق دولياً مع السعودية، ومحاولة التدخل بإرسال فرق تحقيق، ومطالبة مجلس التعاون الإسلامي بإشراف دولي على الحج، يشي بأن نوايا إيران تجاه بلاد الحرمين الشريفين إجرامية، وتفاعلها السريع مع الحادثة إنما يعني أن إيران تحرق المراحل من أجل جر المنطقة للفوضى في أعقاب تلقيها صفعة مؤلمة من السعودية في اليمن، ويؤكد بقوة حقيقة الدور الإيراني في تنفيذ المخطط الصهيوني لتقسيم المنطقة، والذي تسير فيه إيران جنباً إلى جنب مع الكيان الغاصب من أجل الوصول إلى هدف واحد، أخفته "إسرائيل" حيناً، وادعت أنه قد غضت الطرف عنه، فيما سمحت لإيران بتنفيذ خطواته واحداً تلو الآخر.. أعني "إسرائيل الكبرى" من النيل إلى الفرات.
لقد تركت إيران لتتمدد منفذة الخطة الصهيونية بحذافيرها، تارة مع الولايات المتحدة في العراق، وتارة مع روسيا في سوريا، وتماهت تماماً مع خرائط رسمت بأيدٍ صهيونية منذ عقود لتقسيم السعودية لثلاث دول، المنطقة الشرقية، ونجد، والحجاز، وهي خرائط تتلاقى مع فكرة "إسرائيل" الكبرى الذي ستتمكن لاحقاً – وفقاً لهذا التصور المرسوم – بأن تضم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم (لأن للكيان الصهيوني "حقوقاً" بزعمهم فيها لاستعادة أملاك خيبر وبني النضير وبني قينقاع!). منها خريطة برنارد لويس الأكاديمي بجامعة برنستون الأمريكية، والتي نشرتها مجلة وزارة الدفاع الأمريكية اكسيكميوتف انتلجنت رسرتش بروجيكت 2003، والتي أوصى فيها بتقسيم السعودية والخليج إلى دول ثلاث دولة الحجاز (دولة المقدسات كما يطلق عليها في الأدبيات الصهيونية الحديثة)، ودولة نجد، ودولة الإحساء والتي تضم إلى جانب المنطقة الشرقية السعودية، سائر دول الخليج فيما عدا عمان.
ولم يكن الأمر واضحاً في الزمن التي رسمت فيها الخريطتان، الصهيونية، والإيرانية، واللتان تكادان أن تتطابقا إلا حالما بدت البغضاء من أفواه الجميع، وتوزعت الأبواق الصهيونية الآن، والإيرانية، في إثارة قضية تدويل الإشراف على الأماكن المقدسة التي هي تكأة لتمهيد الطريق نحو تقسيم بلاد الحرمين الشريفين.
وإن الجرأة والوقاحة التي اتسمت بها المواقف الرسمية الإيرانية في أعقاب الحادثة، وضلوع مسؤولين إيرانيين رفيعي المستوى كمرشد الثورة الإيرانية والرئيس الإيراني، وسماع رجع صدى صراخهما في لبنان حيث ردد حسن نصر الله النغمة ذاتها، ومن شخصيات طائفية عديدة، جميعها تبرهن على أن المسألة لا تتعلق بحالة ابتزاز أو انتقام لفظي من الهزيمة التي يتجرعها الإيرانيون اليوم في اليمن، وسوريا بدرجة أقل، فحسب.. وإنما هي كرة لهب تتدحرج من نيران فارس إلى أرجاء الجزيرة العربية لإشعال منطقة ترسم تل أبيب وواشنطن لها خرائط ومستقبل يقبل القسمة مراراً إلى فسيفساء تزداد معه المنطقة برمتها انصياعاً للإرادة الصهيونية التي تنفذها الأيدي الإيرانية، خصوصاً بعدما وضعت قناة الحرة الأمريكية الناطقة بالعربية استبياناً للرأي يضع تدويل الحرمين على طاولة النقاش بما يبرهن على نوايا أمريكية خبيثة تتساوق مع النوايا الأمريكية الاعتيادية، والتي ظهرت في أكثر من وسيلة إعلامية وتصريح سياسي أظهرهم تصريح جو بايدن الأخير بشأن "الإرهاب"، والذي ذكّر في هجومه بالنوايا الأمريكية التي تسربت منذ تسعة أعوام في دراسة حدود الدم التي كتبها الجنرال الأمريكي المتقاعد رالف بيترز، ونشرت في مجلة أرمد فورسيس (القوات المسلحة الأمريكية) .
لما تقدم؛ فإن ما كشفته الحادثة المؤلمة أن مخططاً كهذا لم يذهب بعيداً عن أحلام المتآمرين، وأن إيران الضالعة في كل تخريب وفوضى بالمنطقة أضحت أكثر جرأة واستفزازاً بعد "تعميدها" أمريكيا وأوروبيا و"إسرائيليا"، وأنها قد صارت مخلباً "استعمارياً" معتمداً يتمتع بحماية وحصانة غير مسبوقة في المنطقة، وأن هذه الجرأة وهذا الخبث وتلك الوقاحة لا تنبعث إلا من طرق ممهدة أشارت علاماتها إلى الضوء الأخضر، بما يجعل من التفكير في بقاء العلاقات الدبلوماسية الخليجية معها محل جدلٍ مستحق، ويفضي إلى دراسة طريقة التعاطي معها في المستقبل القريب، ومع امتداداتها في المنطقة، بحيث تبني على كل معطيات جديدة سياساتها وآلياتها وأدواتها، فما قد صلح بالأمس قد لا يستقيم في الغد.
إيران اليوم تشارك روسيا احتلال سوريا، وكادت أن تفجر الكويت من داخلها، وهي تسعى لعرقلة تحرير اليمن.. ورابعة الموبقات تبيان نواياها تجاه السعودية، وفارق كبير بين أن تجابه إيران السعودية في محيطهما الإقليمي، وبين أن تسعى لاختراق الداخل السعودي بغية تفجيره اتساقاً مع مطامع صهيونية قديمة.. الفارق كبير، وبحجم هذا الجرم تبدو الحاجة لاستخدام كل أوراق السعودية الممكنة، وهي كثيرة بالمناسبة، في كسر شوكة العدوان؛ فتنظيم البيت الداخلي الخليجي بالغ الأهمية، ودراسة أفكار الاتحاد بأي صيغة أكثر تقدماً أمر مهم، وفتح ملف الأقليات السنية وغير السنية في إيران على نحو أكثر جدية مهم أيضاً، وتسريع وتيرة تحرير اليمن استباقاً لتحقيق حلف روسيا/إيران نجاحاً نسبياً في سوريا مطلوب بدرجة كبيرة، واستخدام السعودية لقواها الناعمة السنية في العالم كله شديد الأهمية، وتقارب أعلى مع أنقرة في حال نجح المحافظون في تركيا بالانتخابات القادمة هو مسار لابد منه.. إلى غير تلك من أوراق..
الأمر مقلق، ليس لأن إيران قوية، وإنما لأن إيران هي مخلب قط الصهيونية العالمية التي تحرك دولاً كثيرة في مقدمتها الولايات المتحدة التي غدت أكثر ميلاً لـ"محور المقاومة" المزعوم أكثر من ميلها لمحور الاعتدال المفترض، وفقاً لتقسيم سبق الربيع العربي. وإن ما يلحظ من سرعة الإدانة الإيرانية لحادثة منى، وسعيها على كل الأصعدة لاستثمارها لتحقيق هدفها المعلن آنفاً لتفتيت الجزيرة العربية تماماً مثلما وضع تيودور هرتزل منذ أكثر من قرن استراتيجيته الصهيونية للمنطقة، حين قال فيها: "إن ما يلزمنا ليس الجزيرة العربية الموحدة، وإنما الجزيرة العربية الضعيفة المشتتة، المقسمة إلى عديد من الإمارات الصغيرة الواقعة تحت سيادتنا والمحرومة من إمكان الاتحاد ضدنا"، هذا هو حلم هرتزل عام 1904، وهذا ما نطق به روحاني على هامش دورة الأمم المتحدة الأخيرة حين طالب بتحقيق دولي، يفسره رجاله في طهران بأنه تقدمة لإشراف دولي، ينتهي إلى "دولة مقدسات" حجازية تحكي تفتتاً لجزيرة يريدها الصهاينة هكذا ويتولى الصفويون تخطيطها برعاية دولية جديدة.
التعليقات