أبو عبد الله حمزة النايلي
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد و على آله، وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إنَّ من السلبيات التي نراها اليوم أيها الأفاضل في بلداننا الإسلامية على بعض من حمل لواء الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بين الناس اتصافهم بالغلظة واستعمالهم الشدة في غير موطنها! يقول المناوي – رحمه الله- :"ينبغي للعالم إذا رأى من يخل بواجب أو يفعل محرما أن يترفق في إرشاده ويتلطف به ".فيض القدير ( 5 / 461)
حيث فرَّط هؤلاء بسبب ما صدر وما يصدر منهم ! في أصل مهم جدا في هذا الباب ألا وهو الرفق و اللين عند دعوة ونصح الآخرين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- :" والرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولهذا قيل ليكن أمرك بالمعروف بِالْمَعْرُوفِ ونهيك عَن المنكر غير مُنكر". الأمر و النهي عن المنكر لابن تيمية ( ص28)
ولا يستغرب صدور هذا الأمر من بعض هؤلاء! إذا عرفنا أحوالهم و تتبعنا أخبارهم! لأنه كما يقال إذا عُرف السبب بطل العجب! فالبعض منهم أيها الأحبة قد ولج ميدان الدعوة! بلا زاد ولا عتاد! و البعض الآخر قد يكون له شيء من العلم! لكن تنقصه الحكمة! ولذا يظهر عليه التسرع و الاندفاع عند أمره بالمعروف وعند نهيه عن المنكر!وكلا الصنفين قد غلبت عليهما العاطفة الغير مقيدة بضوابط الشرع، لذا نراهما أيها الكرام لا ينظران لحالة المدعوين ولا إلى عواقب الأمور! فينتج عن أفعالهما في الغالب ما ضرره أكثر من نفعه! ومن أخطر و أضر ما يُجنى بسبب أفعالهما تنفير الناس و المدعوين عن دين رب العالمين،فعن أبي مسعود الأنصاري–رضي الله عنه-أن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"يا أَيُّهَا الناس إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ ". رواه البخاري (670) ومسلم (446) واللفظ له.
يقول الإمام ابن الأثير-رحمه الله- :"إن منكم منفرين أي من يلقى الناس بالغلظة والشدة فينفرون من الإسلام والدين". النهاية في غريب الأثر ( 5 / 91)
إنَّ مما يحزن المؤمن كذلك أيها الإخوة والأخوات أن دعاة الانفتاح والتبرج والاختلاط وغيرها من المنكرات قد استغلوا اليوم النظرة السيئة لبعض عوام المسلمين لأهل الاستقامة والدين والتي للأسف تسبب فيها أحيانا بعض الدعاة المنفرين! فأثروا على بعض العوام وضعفاء النفوس فصرفوهم عن الطريق المستقيم والمنهج القويم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فأين أنت يا من تسببت في تنفير بعض المسلمين عن دين رب العالمين من وصية خير المرسلين التي أمر فيها الدعاة و المصلحين بالرفق واللين ونهاهم عن الشدة والغلظة مع المدعوين؟! ، فعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه- أن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:" بَشِّرُوا ولا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا". رواه ومسلم (1734).
يقول القاضي عياض – رحمه الله- :"( ولا تُنَفِّرُوا) من النفار وهو الشرود والهروب ومنه نفور الدابة ونفارها أي لا تشددوا على الناس وتخوفوهم فتبغضوا إليهم الإسلام وتصدوهم عنه". مشارق الأنوار ( 2/ 20)
يقول الإمام النووي – رحمه الله- :"وفي هذا الحديث الأمر بالتبشير بفضل الله وعظيم ثوابه وجزيل عطائه وسعة رحمته ، والنهي عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير، وفيه تأليف من قَرب إسلامه وترك التشديد عليهم، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان، ومن بلغ، ومن تاب من المعاصي كلهم يُتلطف بهم ويُدرجون في أنواع الطاعة قليلا قليلا، وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج فمتى يسر على الداخل في الطاعة أو المريد للدخول فيها سهلت عليه، وكانت عاقبته غالبا التزايد منها ومتى عسرت عليه أوشك أن لا يدخل فيها وإن دخل أوشك أن لا يدوم أو لا يستحليها... ".الشرح على صحيح مسلم ( 12/ 41)
فاعلم يا من عندك الحرص على نفع الآخرين أن الرِّفق و اللُّطف عند الدعوة والتذكير والتعليم من أهم الأسباب التي تجعل دعوتك مقبولة عند الآخرين سواء كانوا من الغافلين أو الجاهلين بإذن أرحم الراحمين، يقول الإمام أبو عبيد–رحمه الله- :" اللطف بالجاهل قبل التعليم أنفع له من التعنف . ثم لا وجه للتعنف لمن لا يعلم ؛ إنما يعنف من خالف مع العلم ".كشف المشكل ( 4/233)
وأنَّ تنفير المدعوين بالقول أو الفعل ليس أبدا من هدي المتقين ولا من صفات المصلحين ، يقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله- :"فالتنفير لا ينبغي؛ فلا تنفر الناس بل لِنْ لهم، حتى في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ لا تدعُهم إلى الله دعوة منفر، لا تقل إذا رأيت إنساناً على خطأ: يا فلان أنت خالفت، أنت عصيت، أنت فيك إلى آخره، هذا ينفرهم، ويزيدهم في التمادي في المعصية، ولكن ادعهم بهونٍ ولين حتى يألفك ويألف ما تدعو إليه، وبذلك تمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (بشروا ولا تنفروا) .
فخذ هذا الحديث أيها الأخ، خذه رأس مالٍ لك ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)) سر إلى الله عزّ وجلّ على هذا الأصل، وعلى هذا الطريق، وسر مع عباد الله على ذلك تجد الخير كله، والله الموفق".شرح رياض الصالحين (3/591)
بل هو من الأخلاق السيئة والصفات القبيحة التي أمر العزيز العلام رسولنا عليه الصلاة والسلام باجتنابها عند معاملة الأنام فكانت وصية له ولمن بعده من الدعاة لدين الإسلام،حيث قال العليم الحكيم لنبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].
يقول الشيخ السعدي – رحمه الله- :" أي: برحمة الله لك ولأصحابك، منَّ الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترققت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك.
{ ولو كنت فظا } أي: سيئ الخلق { غليظ القلب } أي: قاسيه، { لانفضوا من حولك } لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ.
فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين، تجذب الناس إلى دين الله وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين وتبغضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول، فكيف بغيره؟!
أليس من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما يعاملهم به صلى الله عليه وسلم، من اللين وحسن الخلق والتأليف، امتثالا لأمر الله، وجذبا لعباد الله لدين الله ؟ ". تفسير السعدي ( ص154)
واحذر أيها الداعية أشد الحذر كذلك أن تكون ليِّنًا رفيقا فقط عند دعوة الآخرين! وشديدا غليظا عند نصحك ودعوتك لأهلك وغيرهم من الأقربين! بل إنَّ أهلك و أقرب الناس إليك هم أولى الناس برفقك وبرك وحسن معاملتك، فعن عائشة – رضي الله عنها- أن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال :"خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وأنا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي". رواه الترمذي (3895)، وصححه الشيخ الألباني – رحمه الله-.
يقول الإمام الشوكاني – رحمه الله- :"في ذلك تنبيه على أعلى الناس رتبة في الخير وأحقهم بالاتصاف به، هو من كان خير الناس لأهله، فإن الأهل هم الأحقاء بالبِشر وحسن الخلق والإحسان وجلب النفع ودفع الضر، فإذا كان الرجل كذلك فهو خير الناس، وإن كان على العكس من ذلك فهو في الجانب الآخر من الشر، وكثيرا ما يقع الناس في هذه الورطة فترى الرجل إذا لقي أهله كان أسوأ الناس أخلاقا وأشحهم نفسا وأقلهم خيرا، وإذا لقي غير الأهل من الأجانب لانت عريكته وانبسطت أخلاقه وجادت نفسه وكثر خيره، ولا شك أن من كان كذلك فهو محروم التوفيق زائغ عن سواء الطريق، نسأل الله السلامة ". نيل الأوطار (6/260)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يرزقنا جميعا عند معاملة الآخرين الرفق واللِّين وأن يُوفق الدعاة الصادقين المصلحين في كل مكان لكل ما فيه خير وصلاح للإسلام و المسلمين، وأن يحفظهم من شر الكائدين ومكر الحاقدين فهو سبحانه وليُّ ذلك وأرحم الراحمين.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات