عناصر الخطبة
1/سعة رحمة الله تعالى 2/من مظاهر رحمة الله 3/ثمرات رحمة الله تعالى 4/أساب نيل رحمة الله.اقتباس
ربَّنَا رَحِيمٌ بعبادِهِ، لطيفٌ بِهِم، مَا خَلَقَنَا لِيُعَذِّبنَا، ومَا كلَّفَنا لِيَشُقَّ علينَا، بل كَرّمَنَا وأَكْرَمَنَا، وأرادَ لنَا الحياةَ الطيِّبَةَ، هُوَ أرحمُ بِنَا من أنفسِنَا وأمهاتِنَا، القادِرُ على أنْ يُعَجِّلَ العقوبةَ للعاصِين، لكنَّهُ يُمْهِلهم؛ ليتوبوا ويؤخِّرهم؛ ليعودُوا، ويرحمهم لعلمِهِ بضعفِهِم...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَسِعَتْ رحمته كلَّ شيءٍ، وعَمّت كلَّ حيٍّ، كتبهَا اللهُ للمتقينَ، وأَدْنَى مِنْهَا المحسنينَ، سُبْحَانَكَ (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)[غافر: 7].
وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّمَ تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ عبادَ اللهِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيُّهَا المؤمنونَ: مِنْ أهمِّ الصفات التي تَعَرَّفَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- بهَا إلى عبادِهِ صفةُ الرَّحْمَة؛ قالَ تعالَى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الحجر: 49].
والرحمةُ كتبَهَا اللهُ -عزّ وجلّ- على نَفْسِهِ، واخْتَصَّ بِهَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، هِيَ منجاةُ الخائفينَ، ورَجَاءُ المؤمنينَ، بَشَّرَ اللهُ بها المتقينَ، وطَمْأَنَ بِهَا التَّائبينَ، وتَوَدَّدَ بِهَا إلى العُصَاةِ والمذنبينَ، وجَعَلَهَا شِعَارًا للخلائقِ أجمعينَ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لمّا قَضى اللهُ الخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إنّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي"(أخرجه البخاري ٧٤٥٣).
عِبَادَ اللهِ: ومظاهر رحمةِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- لا يُحْصِيهَا لِسَانُ فصيحٍ، ولا يَعُدُّهَا قَلَمُ أديبٍ ولا تغيبُ عن نَظَرِِ كلِّ أريبٍ لبيبٍ، قال -تعالى-: (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)[الروم: 50]؛ يُبْصِرُها العبدُ في نفسِهِ، قالَ -تعالى-: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[الذاريات: 21]، وفي الكونِ مِنْ حَوْلِهِ: قال -سبحانه-: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[القصص: 73].
أيُّهَا المؤمنونَ: ومِنْ مظاهِرِ رحمةِ اللهِ -عزَّ وجلّ- أنْ فتحَ بابًا للتوبةِ لا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشمسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، قالَ -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53].
ورحمةُ اللهِ -عزَّ وجلَّ- ليستْ قَاصِرَةً على الدُّنْيَا فقط، بل يَنْشُرُهَا اللهُ -عزّ وجلّ- لعبادِهِ يومَ القيامةِ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يَدْنُو أحَدُكُمْ مِن رَبِّهِ حتّى يَضَعَ كَنَفَهُ عليه فيَقولُ: أعَمِلْتَ كَذا وكَذا؟ فيَقولُ: نَعَمْ، ويقولُ: عَمِلْتَ كَذا وكَذا؟ فيَقولُ: نَعَمْ فيُقَرِّرُهُ، ثُمَّ يقولُ: إنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ في الدُّنْيا، وأَنا أغْفِرُها لكَ اليومَ"(أخرجه البخاري 7514)، فما أَعْظَمَ رحمة اللهِ -عزَّ وجلَّ-، وما أَغْبَنَ مَنْ حُرِمَهَا!
عِبَادَ اللهِ: إنَّ رحمةَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- سببُ كلِّ النِّعم، فمَا التوفيقُ والهدايةُ والنَّجَاحُ إلا أثرٌ من آثارِ رحمةِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- بعبادِهِ، قالَ -تعالى-: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا)[النور: 21]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "سدِّدُوا وقارِبوا وأبشِروا واعلَموا أنه لن يُدخِلَ أحدَكم الجنةَ عملُهُ، وَلا أَنَا، إلّا أنْ يتغمَّدَني اللهُ بمغفِرَةٍ ورحمةٍ"(أخرجه البخاري ٦٤٦٧، ومسلم ٢٨١٨).
فبرحمةِ اللهِ نَجَا الناجُّون، واهتدَى المهتدونَ، وبرحمتِهِ -سبحانه- يفرحُ المؤمنونَ: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس: 58].
وَاعْلَمُوا -رحمكم الله- أنَّ ربَّنَا رَحِيمٌ بعبادِهِ، لطيفٌ بِهِم، مَا خَلَقَنَا لِيُعَذِّبنَا، ومَا كلَّفَنا لِيَشُقَّ علينَا، بل كَرّمَنَا وأَكْرَمَنَا، وأرادَ لنَا الحياةَ الطيِّبَةَ، هُوَ أرحمُ بِنَا من أنفسِنَا وأمهاتِنَا، -سبحانه- القادِرُ على أنْ يُعَجِّلَ العقوبةَ للعاصِين، لكنَّهُ يُمْهِلهم؛ ليتوبوا ويؤخِّرهم؛ ليعودُوا، ويرحمهم لعلمِهِ بضعفِهِم، قالَ -تعالى-: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى)[فاطر: 45].
أعوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الأنعام:54].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشُّكرُ له على توفيقهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ ألا إله إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ لَهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسولُهُ، الدّاعي إلى رضوانِهِ، صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعْدُ: فحريٌّ بالعبدِ أنْ يَعرِفَ الأسبابَ التي يَنَالُ بِهَا رحمةَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- ومنهَا ما يأتي:
أولاً: تقوى اللهِ -عزَّ وجلَّ- وطاعتُهُ، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ..)[الحديد: 28].
ثانيًا: كثرةُ الاستغفارِ، قال -تعالى-: (لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[النمل:46].
ثالثًا: مراقبةُ الله -عزَّ وجلَّ-، وخشيتُهُ في الغيبِ والشهادةِ، قال -تعالى-: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الأعراف: 56].
رابعًا: ومن أهمِّ مَا تُسْتَمْطَرُ بِهِ الرَّحَمَاتُ: كفالةُ اليتيمِ، وسدُّ حاجةِ الأرملةِ والمسكينِ، وإِعَانَةُ الضَّعِيفِ، قالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ"(أخرجه البخاري: 6013).
أسألُ اللهَ -عزَّ وجلَّ- أنْ يَرْحَمنَا رحمةً يُغْنِينَا بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاهُ؛ (رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)[المؤمنون: 109].
عباد الله: ادعوا بقلوب صادقة، وأنتم موقنون بالإجابة.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِ المسلمينَ لِلْحُكْمِ بكتابِكَ، والعمل بسُنَّةِ نبيِّكَ.
اللهم وفِّق خادمَ الحرمينِ الشريفينِ وسموّ وليِّ عهدِهِ لما فيه الخيرُ والصلاحُ، واحفظهم من كل سوء ومكروه، واجزهم عما يُقدّمون للإسلام والمسلمين خير الجزاء.
اللهمَّ ارْبِطْ على قلوبِ رجالِ الأمنِ، الذين يُدَافِعُونَ عن الدِّينِ والمقدساتِ والأعراضِ والأموالِ واحفظهمْ من بين أيديهمِ ومن خلفهمِ، ونعوذُ بعظمتكَ أنْ يُغْتَالُوا من تَحْتِهِمْ.
اللهمَّ ارحَمْ هذا الجمعَ من المؤمنينَ، اللهمَّ استر عوراتِهِمْ، وآمِنْ روعاتِهِمْ وارفَعْ درجاتِهِمْ في الجنَّاتِ، واغفرْ لهم ولآبائِهِمْ وأمَّهاتِهِم، وأَصْلِحْ نيَّاتِهِم وذريَّاتِهِم واجمعنَا وإيَّاهُم ووالدِينَا وأزواجنا وذرياتنا ومن لهُ حقٌّ علينَا في جنَّاتِ النعيم.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى؛ فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ؛ فقالَ -جلَّ من قائلٍ عليماً-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:56].
التعليقات