اقتباس
ويرجع إخوة يوسف وقد تركوه وحيدا في ظلمة الجب ووحشة الصحراء، لكن الله لا يترك أولياءه والقائمين بأمره كما أراد بلا عون ولا مدد، ويأتي الفرج من الله -تعالى- في هذا الموقف العصيب الذي يبدو في ظاهر الحال وحسب تدبير...
يقول الله -تعالى- عن يوسف -عليه السلام-: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
في هذه الآية الكريمة بيان للحكمة من كل ما حصل ليوسف -عليه السلام- من ابتلاءات، وكشف عن لطيف تدبير الله -تعالى- في تلك الأحداث، وأن الله -تعالى- إذا أراد شيئا هيأ أسبابه التي تؤدي إليه في حال من اللطف والخفاء على الناس الذين لا يدركون إلا ظواهر الأسباب، ويغفلون عما يدبره الله -تعالى- من مآلات هي مقتضى حكمته سبحانه و-تعالى-، وخلاصة المغزى من سرد تلك الأحداث هي ما ذكره الله -تعالى- في هذه الآية عن يوسف وقوله لوالده بعدما تحققت رؤياه وتم ما أراده الله -تعالى: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
وهذا المعنى هو الخيط الناظم لأحداث القصة من بدايتها إلى نهايتها، وقصة يوسف في القرآن قد جاءت بطريقة فريدة؛ حيث بدأت برؤيا يوسف وهو صبي صغير، وانتهت بتأويل وتحقق تلك الرؤيا، وكيف تدرج الأمر من إلقائه في البئر، إلى أن يكون سلعة تباع بسعر زهيد، إلى أن يكون سجينا، إلى أن يكون له من الشأن العظيم والسلطان في مصر ما كان، وكانت جميع الأحداث هي الأسباب القدرية الخفية لتحقيق الرؤيا التي أخبر بها والده، والملفت في عرض تلك الأحداث أنها قد جاءت على المقابلة بين ظاهر الأسباب وما يتوقعه الناس من عواقبها السيئة وبين ما انتهت إليه تلك الأسباب من غايات محمودة وفق تدبير الله -تعالى- لها بطرق خفية تؤدي دائما إلى حقيقة إيمانية عظيمة، هي اليقين المطلق بأن الله لطيف لما يشاء، وأن الناس مهما حاولوا الاعتراض على تدبير الله فلا يبلغون إلا أن يكونوا منفذين لإرادة الله -تعالى- الغالبة من حيث لا يشعرون.
وهذا المعنى الإيماني العظيم يغرس في قلب المؤمن الثبات على أمر الله -تعالى-، وتفويض الأمور إليه، واليقين بأنه لا جزاء للإحسان من المؤمن حين يثبت على أمر الله إلا الإحسان والعاقبة الحميدة والثواب العاجل والآجل من الله -تعالى-، وأن تكون العواقب التي تنتهي إليها أموره دائما إلى خير، وإن كان قد يجهل بعض طرق الوصول إلى ذلك الخير، وكيف سيتحقق في واقعه، فيكون همه وسعيه في تحقيق ما أمره الله به لا بما قدره الله له، فإن أمر الله طريق واضح عليه نور، وزمامه وحي معصوم، وأما قدر الله وما تؤول إليه عواقب الأمور فغيب مستور لا يعلمه إلا الله، وقدر الله إنما يتحقق وفق حكمة الله وعدله، فلا طيش مع حكمته، ولا ظلم مع عدله.
ومما سبق يتبين أنه يجتمع في أحداث قصة يوسف -عليه السلام- نظران، نظر إلى ظاهر تلك الأحداث وما يتوقع حصوله عنها من عواقب سيئة، ونظر إلى ما آل إليه التدبير الإلهي لتلك الأحداث، وأن كل حدث منها يؤدي إلى ما بعده في لطف خفي اختص الله -تعالى- بعلمه وتدبيره.
وتبدأ الأحداث بالرؤيا التي رآها يوسف -عليه السلام- وهو لا يزال صبيا صغيرا، ويقص الرؤيا على والده يعقوب -عليه السلام- الذي أيقن أنها رؤيا حق، وأن من تأويلها أنه سيكون ليوسف -عليه السلام- شأن عظيم ومكانة يختصه الله بها عن سائر إخوته؛ لكنه لا يعلم كيف سيكون تدبير الله -تعالى- لذلك، ويوصي الأب ابنه أن يخفي الرؤيا عن إخوته حتى لا يحسدوه ويكيدوا له، لكن ما خشيه يعقوب من كيدهم ليوسف قد وقع، ولا راد لقضاء الله وقدره.
ويبدأ التدبير للمكيدة من إخوة يوسف بأن يطلبوا من أبيهم أن يرسل أخاهم معهم يشاركهم في الرعي ويلهو ويلعب، ويتردد يعقوب -عليه السلام- عن الاستجابة لطلبهم لما يخشاه من كيدهم له، ولا يظهر لهم إلا أنه يحزنه فراق يوسف ولو بعض يوم، وأنه يخشى أن يغفلوا عنه فيأكله الذئب؛ لكن القدر الإلهي لابد أن يتحقق كما أراده الله -تعالى-، وفق تدبير محكم ولطف خفي لا يدركه يعقوب ولا يوسف ولا إخوته، ويأذن يعقوب لأبنائه أن يصحبهم يوسف كما أرادوا.
ويخرج إخوة يوسف به إلى الصحراء، ويكون أول ما يخطر لهم هو أن يقتلوه، لكن ما دبروه من قتل يوسف يتعارض مع تدبير الله لما سيكون من أمر يوسف -عليه السلام-، ولا يقف أمام تدبير الله -تعالى- تدبير أي مخلوق، وهنا يظهر الله على لسان أحد إخوته ألا يقتلوا يوسف وأن يلقوه في الجب يلتقطه بعض المسافرين، ويبرر لهم رأيه بأنه سيحصل لهم ما أرادوا من التخلص من يوسف ليخلوا لهم وجه أبيهم كما ظنوا، وما علموا أنهم بفعلهم لن يصرفوا وجه أبيهم إليهم، بل سيزيد تعلقه بيوسف، ويبلغ به الحزن على فراقه أن يفقد بصره لكثرة بكائه عليه، وأنهم مهما بلغ مكرهم لن يقفوا في طريق تحقق ما اختص الله به يوسف -عليه السلام- من المكانة والمنزلة دونهم، وأن إلقاءهم ليوسف في الجب لا يعدوا أن يكون مجرد تنفيذ لقدر الله -تعالى-، وما سيكون من شأن عظيم ليوسف -عليه السلام-.
ويرجع إخوة يوسف وقد تركوه وحيدا في ظلمة الجب ووحشة الصحراء، لكن الله لا يترك أولياءه والقائمين بأمره كما أراد بلا عون ولا مدد، ويأتي الفرج من الله -تعالى- في هذا الموقف العصيب الذي يبدو في ظاهر الحال وحسب تدبير إخوة يوسف أنهم قد أحكموه، ويوحي الله إلى يوسف بالوعد الكريم بأن تأويل والده للرؤيا سيتحقق، وأنه سيأتي اليوم الذي يذكر فيه إخوته بما حصل منهم وهم لا يعرفون في بادئ الأمر أنه هو الذي يخاطبهم بذلك، وهكذا تنزل السكينة والطمأنينة على قلب يوسف في هذه الظروف الصعبة، ويحصل له اليقين بأن وعد الله لا يتخلف، وأن تدبير الله -تعالى- لا يقاوم.
ويأتي الإخوة إلى أبيهم وقد أنهوا المكيدة ودبروا في نظرهم القاصر طريق المخرج منها، ويعرضون على أبيهم ثوب يوسف الممزق وعليه الدماء، ويظهرون لأبيهم التأسف من أن الذئب قد غلبهم على أخيهم الصغير فأكله، ويدرك الأب أن ما كان يخشاه قد وقع، وأنهم يكذبون عليه وإن أظهروا وتصنعوا البكاء على أخيهم.
ومع ذلك كله فقد كان يعقوب -عليه السلام- موقنا بأن لله تدبيرا لا يعلم أسبابه تكون عاقبته أن يكون ليوسف -عليه السلام- شأن عظيم، وأن الله سيجتبيه بالنبوة، وأن ما فعله أبناؤه بيوسف لا يمكن أن يصرف قدر الله -تعالى- عن أن يتحقق، وهنا يخاطب يعقوب -عليه السلام- أبناءه خطاب الموقن بحكمة الله -تعالى- وحسن تدبيره، الصابر على قضائه وقدره، ويكتفي بالرد عليهم بقوله: “بل سولت لكم أنفسكم أمرا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون”.
وتمر قافلة مسافرة تجاه مصر على الجب الذي ألقي فيه يوسف -عليه السلام-، ويدلي أحدهم دلوه يطلب الماء له ولأصحابه؛ لكنه ينظر فإذا غلام متعلق بالدلو، ويستبشر بالغنيمة التي جاءته من غير سعي وطلب.
وينتهي الأمر بيوسف رقيقا في بيت عزيز مصر، ويتوسم العزيز في يوسف معنى يحمله على أن يوصي زوجته أن تكرم مثواه وتحسن معاملته أملا في أنه سينفعهم أو يتخذونه ولدا لا خادما، لكن بلاء شديدا آخر كان يستقبل يوسف في بيت العزيز، حيث فتنت إمراه العزيز بيوسف، ولم تطق صبرا على ما تجده من عشقه، وهيأت جميع الأسباب التي قلما ينجو أحد من حبائلها، وهنا يكون الموقف الحاسم الصارم من يوسف -عليه السلام- برفض كل إغراءاتها، وحين لا ينفع التودد والترغيب تلجأ لفرط هيامها به إلى طريق الإلجاء والإكراه، وحين يهرب منها فارا بدينه من الفتنة يجد الأبواب قد أوصدت دونه فلا يجد مخرجا من القصر، وحين تلحق به وتمسك بثوبه من خلفه وهو يهرب منها يفتح العزيز الباب، وهنا ينقلب مكر الزوجة المفتونة بيوسف إلى متظاهرة بأنه هو الجاني والساعي لفعل الفاحشة بها، وحين يتحقق العزيز من حقيقة الحال لا يزيد على أن يأمر يوسف بأن يعرض عما حصل معه، وأما زوجته فيكفيها أن تستغفر من ذنبها.
وهكذا يراد للأمر أن يدفن فلا يذكر، وأن يتجاهل من الطرفين وكأن شيئا لم يكن، لكن ما حصل من امرأة العزيز قد انتشر بين نساء القصور وأصبح حديث المجالس، ولا يجد العزيز وزوجته إلا أن يدفنوا الشائعات بسجن يوسف وهو البريء لتمضي الحياة على ما أرادوا، وحتى لا يكون غلام جاءهم خادما سببا في تعكير صفو حياتهم المترفة.
ويكون السجن على ما في ظاهره من بلاء آخر على يوسف -عليه السلام- هو مفتاح ما سيكون له من التمكين والسلطان في مصر بعد تعبيره لرؤيا الملك.
وهكذا تتوالى الأحداث بعد أن أصبح يوسف هو عزيز مصر، ويأتي إليه إخوانه وهم الذين فعلوا به ما فعلوا يطلبون الميرة لأهلهم، ويحتال يوسف حتى ينتهي المطاف بقدوم والده وأهله إلى مصر.
وليس المقصود هنا سرد أحداث معلومة وإنما بيان ما دلت عليه تلك الأحداث من أصول إيمانية عظيمة لمن تدبرها وفقه الحكمة منها.
فما أشد التباين بين نظر إلى هذه الأحداث وما يظن بحسب ظاهرها من أنها ستؤول إلى عواقب وخيمة، وبين نظر إلى لطف التدبير الإلهي لها، وما آلت إليه هذه الأحداث من عواقب حميدة، وكيف أن كل حدث يؤدي للذي بعده في لطف خفي اختص الله بعلمه وتدبيره.
فالذي وجد يوسف في الجب وباعه في مصر إنما نفذ قدر الله -تعالى- في وصول يوسف إلى بيت العزيز.
وامرأة العزيز حين فعلت ما فعلت من مراودة يوسف على الفاحشة إنما نفذت قدر الله -تعالى- في أن يعلم عنه ما شهدت به عندما حصحص الحق من صدق يوسف ونزاهته، ولهذا لم يستجب لطلب الملك بإخراجه من السجن وإحضاره إليه ليستعين به في إدارة مملكته وإنما طلب التحقق قبل خروجه من حقيقة ما اتهم به وأدخل السجن بسببه.
وسؤال الرجلين له في السجن عن الرؤيا، ثم ما كان من رؤيا الملك إنما كان تدبيرا إلهيا لبيان ما اختص الله به يوسف من تأويل الأحاديث، وأن يفتح له الباب ليكون هو الأمين على خزائن مصر.
وقدوم إخوة يوسف إلى مصر وقد أصبح عزيز مصر إنما كان سببا لتحول يعقوب وبنيه كلهم إلى مصر، ولما سيكون لبني إسرائيل الذي هو يعقوب من أحداث عظيمة بعد ذلك، حتى يبعث الله موسى -عليه السلام- ويكون لهم من الخروج من أرض مصر وهلاك فرعون وقومه ما كان.
التعليقات