عناصر الخطبة
1/حرمة دماء المسلمين وأموالهم 2/أساس الأمن والاستقرار 3/حرمة المؤمن ومكانته 4/التحذير من الاستهانة بدماء المسلمين 5/ أكبر وسائل حفظ الأمن والقضاء على الجريمة.اقتباس
في ظلال الفضيلة مَنَعةٌ وأمانٌ، وفي مهاوي الرذيلة ذلةٌ وهوانٌ، والرجل هو صاحب القوامة في الأسرة، وإذا ضعف القوام فسد الأقوام، وإذا فسد الأقوام، خسروا الفضيلة، وفقدوا العفة، وتاجروا بالأعراض، وأصبحوا كالمياه في المفازات، يلغ فيها كل كلب، ويكدّر ماءها كل وارد...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله ولي المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، (نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إمام المتقين وحجة الله على الخلق أجمعين، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وزوجاته ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الدين.
أما بعد: فاتَّقوا الله أيها المؤمنون حق التقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أخرج البخاري ومسلم عَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: "أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟"، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: "أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟"، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: "أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟"، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: "أَلَيْسَ ذَا الحَجَّةِ؟"، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: "أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟" قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ "أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الحَرَامِ؟"، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟" قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "اللهُمَّ اشْهَدْ". قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ؛ فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ".
هذا الحديث الجليل يجلّي ثلاثة أمور بين الناس كبار، وحقوق عظام، من أشد الفظائع وأقوى الفجائع الاعتداء عليها، أو التهوين من شأنها.. هي أساس الأمن والاستقرار، وهي ركيزة السلام والإسلام. أنفس المسلمين كريمة، ودمائهم معصومة، من أعظم الموبقات وأكبر المهلكات الاعتداء عليها بغير حق، وإزهاقها بغير جُرم لها عند الله برهان.
"لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ محمداً رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْس بِالنَّفْسِ، والثَّيِّب الزَّانِي، وَالتَّارِك لِدِينِهِ الْمُفَارِق لِلْجَمَاعَةِ"(متفق عليه).
المؤمن له حرمة ومكانة أعظم من مكانة الدنيا: "لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ"(أخرجه أهل السنن).
والاستهانة بدماء المسلمين من أجل مشاجرات أو تأويلٍ أو ثأرٍ؛ جرمٌ شنيعٌ، وفي الآخرةِ عذابٌ عظيم؛ (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النساء:93].
يظهر الخلل في الأمن حين تظهر شنشنة تُحكّم أهواءها، وتتبع غير سبيل المؤمنين، من أفكار منحرفة، وتأويلات باطلة، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم.
فمن اعتدى على مسلمٍ بغير حق فالفصل في ذلك كتاب الله (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)[البقرة:179]، ليس المراد بالحياة منع احترام الآجال، لكن المراد طيب الحياة بعد الممات بالنجاة من النار، وتهيئة الحياة في الدنيا بالأمن من الغوائل بعد القصاص، والأمن من المقدمين على سفك الدماء إذا علموا بالقصاص، أو حياة القلب بنور الاتِّقاء عن حدود الله. هذا هو الشرع الحكيم، والحكم المبين، المُنزلُ مِنْ لَدُن حَكِيمٍ عَلِيمٍ.
يلي حرمة دماءَ المسلمين حرمة أموالهم "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ"، ومال المسلم حق له إذا أخذه من وجه صحيح، لا يجوز التعدي عليه "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ".
قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "لَا تُغْنَمْ أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- إِنَّمَا جَعَلَ الْغَنِيمَةَ فِي أَمْوَالِ الْكَافِرِينَ, وَلَمْ يَجْعَلْهَا فِي أَمْوَالِ الْمُصَلِّينَ, وَلَا يَحِلُّ مَالُ الْمُسْلِمِ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ".
وجحد حقوق الناس وأكل أموالهم ظلم. في صحيح البخاري "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ".
الحلف وشهادة الزور واستحلال أموال الناس كبيرة عظيمة، ومقت من الله وغضب، في صحيح مسلم قال ابن مسعود: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه، لقي الله وهو عليه غضبان".
ولا يصفو الأمن ولا يتم الاستقرار بعد حفظ الأنفس، واحترام الأموال إلا بصيانة الأعراض؛ "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ".
في ظلال الفضيلة مَنَعةٌ وأمانٌ، وفي مهاوي الرذيلة ذلةٌ وهوانٌ، والرجل هو صاحب القوامة في الأسرة، وإذا ضعف القوام فسد الأقوام، وإذا فسد الأقوام، خسروا الفضيلة، وفقدوا العفة، وتاجروا بالأعراض، وأصبحوا كالمياه في المفازات، يلغ فيها كل كلب، ويكدّر ماءها كل وارد.
إنَّ الكريمةَ ربّما أزرى بها *** لينُ الحجابِ وضعفُ مَن لا يحزم
وكذاك حوضُك إن أضعت فإنه *** يُوطأ ويشربُ ماؤه ويهدم
كم للفضيلة من حصنٍ امتنع به أولو النخوة!، فكانوا بذلك محسنين، وكم للرذيلةِ من صرعى أوردتهم المهالكَ!، فكانوا هم الخاسرين.
عصمنا الله وإياكم وذرياتنا كل فتنة مضلة، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لي ولكم...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اجْتَبَى.
أَمَّا بَعْدُ: إن طريق السلامة بعد الإيمان بالله ورحمته وعصمته، ينبع من البيت والبيئة، فهناك بيئات تنبت الذل، وأخرى تنبت العز، وثمة بيوتات تظللها العفة والحشمة، وأخرى ملؤها الفحشاء والمنكر.
وأن أكبر وسائل حفظ الأمن والقضاء على الجريمة، وأنجح وسائل التربية على الفضيلة والعفة هي إقامة الصلاة، والتربية عليها (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)[العنكبوت: 45].
والمجتمع جسد الحياة، والقلوب جسد المجتمع بصلاحه يصلح المجتمع ويأمن، وبفساده يضطرب الأمن ويهلك "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد؛ ألا وهي القلب".
ومسك الختام: وصية ربّ الأنام.. الوصية بالتقوى (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا)[الطلاق:10-11].
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا وأعراضنا، ومن أراد بنا سوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره.
التعليقات