عناصر الخطبة
1/طغيان الأمور المادية على الناس 2/معيار التفضيل عند الله تعالى 3/ذم التفاخر بالأحساب والعصبية الجاهلية 4/تحريم احتقار الناس وازدرائهم 5/ميزان الله يختلف عن ميزان البشر.اقتباس
والميزان عند الله -تعالى- يختلف عن ميزان البشر؛ لأنَّ الميزانَ الأُخْرَوي يُعطي الحقائق على وجهها الصحيح.. فلا ينبغي أن يغتر الناس بالمظاهِرِ والصُّور, والأشخاصِ والأجسام, وإنما المقياس بالأعمال والقلوب.. الذي يثقل في الميزان صحيفةُ الأعمال, لا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: طَغَت الأُمورُ المادية على الناس, فَعَظَّم أهلُ الدنيا الأموالَ والأحسابَ والأنسابَ بعيداً عن المقياس الشرعي الصحيح, واللهُ -تعالى- يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات:13]. أَيْ: إِنَّمَا تَتَفَاضَلُونَ عِنْدَ اللَّهِ بِالتَّقْوَى لَا بِالْأَحْسَابِ والأَنْسَاب.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "جَمِيعُ النَّاسِ فِي الشَّرَفِ بِالنِّسْبَةِ الطِّينِيَّةِ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُونَ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ؛ وَهِيَ طَاعَةُ اللَّهِ, وَمُتَابَعَةُ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". وقال السعدي -رحمه الله-: "أكْرَمُهم عند الله، أتقاهم؛ وهو أكثرُهم طاعةً, وانكفافًا عن المعاصي، لا أكثرُهم قَرابةً وقَومًا، ولا أشرفُهم نَسَبًا".
ودلَّت الآيةُ الكريمةُ: على أنَّ معرفة الأنساب مَطلوبةٌ مشروعة؛ لأنَّ اللهَ جَعَلَهم شعوبًا وقبائِلَ؛ لأجل حُصول التَّعارف فيما بينهم, قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "اللهُ -سبحانه- جعل هذه القبائلَ؛ من أجل أنْ يَعرف بعضُنا بعضاً، لا من أجل أنْ يَفْخَرَ بعضُنا على بعض؛ فيقول: أنا عربيٌّ وأنت عَجَمِيٌّ! أنا قَبِيليّ وأنت خَضِيريّ! أنا غَنِيٌّ وأنت فقير! هذا من دعوى الجاهلية -والعياذ بالله-، فالفَضْلُ في الإسلام بالتَّقوى، أكْرَمَنا عند الله هو أتْقَانا لله -عزَّ وجلَّ-، فمَنْ كان لله أتقى فهو عند الله أكْرَم.
ولا يعني هذا إهدار الجِنَسِ البشري بالكلية، لكنْ التَّفاخر هو الممنوع، أمَّا التَّفاضل فإنَّ الله يُفَضِّل بعضَ الأجناس على بعض، فالعرب أفضلُ من غيرهم، جِنْسُ العربِ أفضلُ من جِنْسِ العَجَم، لكنْ إذا كان العربِيُّ غيرَ مُتَّقٍ والعَجَمِيُّ مُتَّقِيًا، فالعَجَمِيُّ عند الله أكرمُ من العَرَبِي.
وبِمِثْلِ ذلك قال ابن عاشور -رحمه الله-: "قوله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) لَا يُنَافِي أَنْ تَكُونَ لِلنَّاسِ مَكَارِمُ أُخْرَى فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ التَّقْوَى, مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَثَرُ تَزْكِيَةٍ فِي النُّفُوسِ؛ مِثْلُ حُسْنِ التَّرْبِيَةِ, ونَقاءِ النَّسَب, والمعرفةِ فِي الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ, وَحُسْنِ السُّمْعَةِ فِي الْأُمَمِ, وَفِي الْفَصَائِلِ، وَفِي الْعَائِلَاتِ؛ مِمَّا يَتْرُكُ آثَارًا لِأَفْرَادِهَا, وَخِلَالًا فِي سَلَائِلِهَا؛ ويدلُّ عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ, خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا"(رواه مسلم)".
عباد الله: كيف يتفاخر الناسُ بالآباء والأحساب والأنساب؛ وآدمُ -عليه السلام- هو أبو البشر جميعاً؟! وقد خُلِقَ من تُراب؛ لقول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ, فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ؛ جَاءَ مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ وَالْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ, وَبَيْنَ ذَلِكَ, وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ, وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ"(صحيح: رواه أبو داود). فأصل البشر جميعاً إلى التُّراب والطِّين, فلا يجوز لأحد -بعد ظهور هذه الحقيقة- أنْ يَفتخر بآبائه ونسبه على أحد؛ فإنَّ التفاضل بين بني آدم لا يكون إلاَّ بالتقوى.
ولَمَّا خَطَبَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ, وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ, أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ, وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ, وَلاَ أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ, وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ؛ إِلاَّ بِالتَّقْوَى"(صحيح: رواه أحمد).
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "كُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا, الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ, لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ, التَّقْوَى هَا هُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ, بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ, كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ"(رواه مسلم). قَالَ شُرَيْحٌ: "كُلُّكُمْ بَنُو عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ"(رواه البخاري).
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَطَبَ النَّاسَ -يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ- فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا, فَالنَّاسُ رَجُلاَنِ: رَجُلٌ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ, وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ, وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ, وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ"(صحيح: رواه الترمذي).
ونهى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن التفاخر بالآباء الذين ماتوا, فقال: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا, إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ, أَوْ لَيَكُونَنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجُعَلِ -هو دُويبة أرْضِية- الَّذِى يُدَهْدِهُ -أي: يُدَحْرِج- الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ, إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ -الكِبْر وَالفَخْر- إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ, وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ, النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ, وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ"(حسن: رواه الترمذي).
ونَهَى -أيضاً- عن احتقار الناس وازدرائهم, وأبانَ بأنَّ ذلك يصدر -في الغالب- عَمَّنْ غلب عليه داءُ الكِبْرِ والجهل, لذا يَسْتَصْغِرُ غيره, ويَنْظُر إلى نفسه بعين الرضا؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-؛ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ". قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا, وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ. الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ -أي: دَفْعُهُ ورَدُّه- وَغَمْطُ النَّاسِ -أي: هو احتقارُهم وازدراؤُهم-"(رواه مسلم).
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
عباد الله: إنَّ النَّجاة من النار لا تكون إلاَّ بالإسلام؛ فعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: انْتَسَبَ رَجُلاَنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-, فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلاَنُ بْنُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ, فَمَنْ أَنْتَ لاَ أُمَّ لَكَ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "انْتَسَبَ رَجُلاَنِ عَلَى عَهْدِ مُوسَى -عليه السلام-, فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ حَتَّى عَدَّ تِسْعَةً, فَمَنْ أَنْتَ لاَ أُمَّ لَكَ؟! قَالَ أَنَا فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ ابْنُ الإِسْلاَمِ. قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى -عليه السلام-: إِنَّ هَذَيْنِ الْمُنْتَسِبَيْنِ: أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الْمُنْتَمِي أَوِ الْمُنْتَسِبُ إِلَى تِسْعَةٍ فِي النَّارِ, فَأَنْتَ عَاشِرُهُمْ, وَأَمَّا أَنْتَ يَا هَذَا الْمُنْتَسِبُ إِلَى اثْنَيْنِ فِي الْجَنَّةِ, فَأَنْتَ ثَالِثُهُمَا فِي الْجَنَّةِ"(صحيح: رواه أحمد).
والميزان عند الله -تعالى- يختلف عن ميزان البشر؛ لأنَّ الميزانَ الأُخْرَوي يُعطي الحقائق على وجهها الصحيح؛ فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-, فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: "مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟". فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ: هَذَا -وَاللَّهِ- حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ, وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ. قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ, فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ, هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ, وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ, وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا"(رواه البخاري).
فلا ينبغي أن يغتر الناس بالمظاهِرِ والصُّور, والأشخاصِ والأجسام, وإنما المقياس بالأعمال والقلوب؛ فعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-؛ أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الأَرَاكِ -وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ- فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ, فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مِمَّ تَضْحَكُونَ؟" قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ, فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ"(حسن: رواه أحمد). دل الحديثُ: على أنَّ الذي يثقل في الميزان صحيفةُ الأعمال, لا أشخاصُ العاملين.
ويوم القيامة تُكشَفُ الحقائِقُ, وتُبلى السَّرائرُ, فَرُبَّ شَخْصٍ عَظِيمٍ في بدنه, مُعَظَّمٍ عند قومِه, وهو لا يَزِنُ عند الله جناحَ بعوضة؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ. وَقَالَ: اقْرَءُوا: (فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)[الكهف:105]"(رواه البخاري ومسلم). دل الحديث: على أنَّ السِّمَنَ المُكْتَسَب للرِّجال مذموم؛ وسبب ذلك؛ أنَّ السِّمَنَ المُكْتَسَب إنما هو كثرة الأكل, والشَّرَه, والدَّعَة, والراحة, والاسترسال مع النفس على شهواتها.
وصلّوا وسلّموا على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات