عناصر الخطبة
1/ حث الإسلام على الاهتمام بالأطفال ورعايتهم وتربيتهم 2/ رعاية النبي -صلى الله عليه وسلم- للأطفال وعطفه عليهم 3/ جوانب متعددة في اهتمام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأطفال وبعض المشاهد والقصص في ذلكاهداف الخطبة
اقتباس
لقد حث الله -سبحانه- على الاهتمام بالأولاد ورعايتهِم وتأديبِهِم على أحسنِ الخصال وكمال الأخلاقِ، وأمرنا سبحانه أَن نقتدي في ذلك بِهديِ نبينا -صلى الله عليه وسلم- في رعايته للأطفالِ، والاهتمام بهم، وذلك بِما أرساه لنا من قواعدَ وآدابٍ وأصولٍ علينا أَن نراعيها ونحن نتعامل مع...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعِينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فاللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه.
معاشر الآباء والأمهات: ما زال الحديث متواصلاً وما زلنا نعيش في رحاب سلسلة دروس "إنهم أولادنا قرة أعيننا"، ومع الدرس الرابع.
لقد حث الله -سبحانه- على الاهتمام بالأولاد ورعايتهِم وتأديبِهِم على أحسنِ الخصال وكمال الأخلاقِ، وأمرنا سبحانه أَن نقتدي في ذلك بِهديِ نبينا -صلى الله عليه وسلم- في رعايته للأطفالِ، والاهتمام بهم، وذلك بِما أرساه لنا من قواعدَ وآدابٍ وأصولٍ علينا أَن نراعيها ونحن نتعامل مع أولادنا.
ومن يطلع على سيرته -صلى الله عليه وسلم- فإنه يلاحظ بوضوح اهتمامه الواسع بأسس البناء النفسي والعاطفي للطفل، حيث يُعتبر منهجه -صلى الله عليه وسلم- في الاهتمام بالأولاد ورعايتهم، منهجا متكاملا راسخ الأصول، يانع الثمار، وافر الظلال في التربية والتنشئة والرعاية الصالحة.
لقد أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- الأطفال نصيبا من وقته وجانبا من اهتماماته، فكان معهم المربي والقدوة الصالحة والأب الحنون، يهتم بهم ويفيض عليهم من حبه وحنانه فيقبلهم ويداعبهم، ويسأل عنهم ويسلم عليهم ويسر لرؤيتهم ويمسح على رؤوسهم ويدعو لهم ويصبر على تصرفاتهم، ويستمع إلى أحاديثهم ويثني عليهم إذا أحسنوا، وينصح ويوجههم، ويتجاوز عن أخطائهم، ويشجعهم على كريم الفعال، وحميد الخصال، ويشركهم في مجالسه مع الكبار، فيحضرون الجمع والجماعات، ولا يعزلهم أو يحتقرهم، أو يتجاهلهم وينساهم.
وكل هذا الاهتمام منه صلى الله عليه وسلم بالأطفال جاء لعلمه بأنهم في أشد الحاجة إلى الرعاية والعطف والحنو أكثرَ من غيرهم، وذلك لتنمية ثقتهم بأنفسهم حتى ينشئوا أقوياء ثابتي الشخصية، أعضاء فعالين في مجتمعهم.
ولقد جاءت تلك المعاملة النبوية الراقية للأطفال مراعاة منه صلى الله عليه وسلم لسنن الله الفطرية التي جعلها الله -تعالى- في الأطفال، فلم يكبتها ولم يهملها كما يفعل بعض الجفاة غلاظ القلوب مع أولادهم.
وإذا نظرنا إلى سيرته وجدناها حافلةً بالنماذج الرائعة في تعامله الرحيم مع الأطفال في كل جانب من جوانب الحياة.
وسأسوق إليكم بعضا منها عسى الله أن يوفقنا للاقتداء بها في تربيتنا وتعاملنا مع أولادنا، وأول ما يستوقفنا من النماذج تلكم الأسس التربوية الإيمانية العظيمة التي حرِص النبي -صلى الله عليه وسلم- أثناء تعامله اللطيف مع الأطفال على توصيلها إليهم بأبسط الوسائل وأقومها، فيحكي لنا أحد الأطفال هذا الموقف وهو عبد الله بن عباس، حيث يقول: كنت خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما فقال: "يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلامُ وجفّت الصحف".
وهذا الحديث -معاشر المؤمنين والمؤمنات- كله يدور على تعلق القلب بالله والالتفات إليه وقطع الطمع والرجاء في ما عند الناس، وتفويض الأمر إلى الله والتوكل عليه.
وهو أصل عظيم في تربية الأولاد على أصول الدين وتوجيههم إليها، حفاظاً على فطرتهم الإيمانية التي فطرهم الله عليها.
فتأملوا -يرحمكم الله- كيف يتعامل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع غلام صغير فيغرس فيه هذه الأسس، والنتيجة: كان ابن عباس في الأمة ترجمان القرآن وحبر الأمة وفقيهها.
ومن صور اهتمام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالطفل أمره للوالدين بتعويد أولادهم على طاعة الله، حتى ينشئوا على حسن الصلة بالله؛ ففي الحديث الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع".
ومن النماذج: حرصه صلى الله عليه وسلم على أن يظهر المربي أمام من يقوم على تربيته بمظهر القدوة الصالحة في كل قول وعمل حتى ينطبع الولد منذ نشأته على الخير ويتخلقَ منذ نعومة أظفاره على الصفات والأخلاق الفاضلة، فيشبَّ عليها وتُصبِحَ جزءا أصيلا من شخصيته، فقد روى أبو داود بسند حسن عن عبد الله بن عامر -رضي الله عنه- قال: "دعتني أمي يوما ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعد في بيتنا، فقالت: يا عبد الله تعال حتى أعطيك؟ فقال لها صلى الله عليه وسلم: "ما أردت أن تعطيَه" فقالت: أردت أن أعطيَه تمرا، فقال صلى الله عليه وسلم: "أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةً".
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يحذر المرأة من أن تكذب على الصبي أو تستهين بمشاعره، وفي هذا هدي نبوي على أن يظهر المربي أمام من له في عنقه حق التربية بمظهر الصدق.
ومن النماذج: حرصه صلى الله عليه وسلم على النصح والإرشاد في تأديب الأطفال، فهو لا يترك فرصة ولا موقفا إلا ويقدم النصح ويرشد إلى السلوك الصحيح دون تأنيب أو شدة أو قسوة، فعند مسلم قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: "يَا أُنَيْسُ، أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟" قُلْتُ: نَعَمْ أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثم قَالَ أَنَسٌ: "وَاللَّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ، مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا أَوْ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ هَلَّا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟".
وفي صحيح البخاري عن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ -رضيَ اللهُ عنهُ- قَالَ: "كُنْتُ غُلاَماً في حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَتْ يَدِى تَطِيشُ فِى الصَّحْفَةِ، فَقَال لي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا غُلاَمُ سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ"، "فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ".
فطريقة مداعبته صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك، وأسلوب مخاطبته لعمر بن أبي سلمة، درسٌ عظيم يرسم منهجا في تربية الأطفال وتعليمهم دون تعنيف أو تأنيب؛ لأنه من عظيم رحمته صلى الله عليه وسلم بالأطفال، حرصه أن يداعبهم ويعلمهم ويُروح عن نفوسهم، ويدخل السرور عليهم، ويمرح معهم ويستأنس بهم.
فاللعب البريء والترويح عن النفس من أنجع الوسائل وأهمها وأقربها إلى نفس الطفل وأنفعها له، ولزومها للولد وهو صغير من باب أولى، أخرج الإمام أحمد بإسناد حسن عن عبد الله بن الحارث -رضى الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصف عبد الله وعبيد الله وكثيرا من أبناء العباس -رضي الله عنهم- ثم يقول صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلي فله كذا وكذا" فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم.
وروى الطبراني عن جابر -رضي الله عنه- قال: "دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- فدعينا إلى طعام، فإذا الحسين -رضي الله عنه- يلعب في الطريق مع صبيان، فأسرع النبي -صلى الله عليه وسلم- أمام القوم، ثم بسط يده فجعل يفر ههنا وههنا فيضاحكه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أخذه فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى بين رأسه وأذنيه، ثم اعتنقه وقبله.
وفي هذا الهدي النبوي قدوة للآباء، بل إقامةُ الحجة على الآباء في ضرورة إعطاء جزء من وقتهم، لملاعبة أولادهم مهما كانت مشاغلهم ومسؤولياتهم.
فملاعبة النبي -صلى الله عليه وسلم- للأطفال وملاطفته لهم والترويح عن أنفسهم لا يتعارض مع الجد، والوقار والرجولة والمسؤولية، كما يظن بعض المتكابرين أن اللعب مع الأطفال لا يتلاءم مع مكانتهم. فهل هناك أحد أعظم وقارا وأكبر شخصية وأكبر مسؤولية من الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟
الخطبة الثانية:
وجملة القول -معاشر الآباء والأمهات- إنها مشاهد سريعة لهديه صلى الله عليه وسلم ونهجه، حيث كان جل اهتمامه أن يصنع رجالا، وأن يبني أمة، ويُنشأ جيلا مثاليا في إيمانه وعباداته، وأخلاقه ومعاملاته، فتحقق ذلك، وظهرت أسماء كثيرة من الأطفال الأبطال، كان لهم تأثيرهم الواضح في المجتمع الإسلامي الأول، مثل: عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، ومعاذ بن جبل، عبد الله بن عباس والحسن والحسين وآخرون -رضي الله عنهم أجمعين- الذين كانوا نماذج مشرقة يجب أن يحتذي بهم أطفال المسلمين اليوم.
وصلِّ اللهم وسلم على قدوتنا محمدٍ وسلِّم كثيراً.
التعليقات