عناصر الخطبة
1/ أهمية القدوة وسرعة تأثر الأطفال بها 2/ حث الآباء على أن يكونوا قدوة حسنة للأبناء 3/ أثر القدوة الحسنة والسيئة على الأبناء 4/ غرس القيم والأخلاق الفاضلة في الأبناءاهداف الخطبة
اقتباس
الطفل بمثابة "رادار" يلتقط كل ما يدور حوله، ويسجل بالصوت والصورة كلَّ التصرفات التي يقوم بها الوالدان الأفعالَ والأقوال، فتنطبع فى ذهنه، ويحاول تقليد ما يراه ويسمعه. الولد في مرحلة الطفولة تكون لديه مجموعةٌ من السمات تؤهله لاستقبال كلِّ سلوك والعملِ به، فحين...
الخطبة الأولى:
معاشر الآباء والأمهات: يقول ربنا -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6].
فما زلنا نعيش في رحاب سلسلة: أولادنا والتربية، أو التربية البيتية وأهميتها، وقد يسأل سائل: لماذا هذا الموضوع؟
لأننا في وقتنا الراهن أحوج ما نكون إلى أسر تربي أولادها.
في واقعنا اليوم نحن بحاجة إلى أبٍ مربٍّ وإلى أم مربية، وإلى بيت يتربى فيه الأولاد تربية سليمة تصل بهم إلى بَر الأمان.
فكثير من الآباء يستغرقون في التفكير والبحث عن أساليب لتقويم وضبط سلوك أولادهم من ثواب وعقاب، لكنَّ القليلَ منا من يعلم أن أهم طريقة لتربية الأولاد، هي في أن نكون قدوةً لهم.
وهذا هو موضوع خطبة اليوم: "القُدوة الحسنة وأثرها في التربية".
فالقدوة من أهم طرق التربية لما يتميز به الطفل من قدرة فائقة على التقليد والمحاكاة.
فالطفل بمثابة "رادار" يلتقط كل ما يدور حوله، ويسجل بالصوت والصورة كلَّ التصرفات التي يقوم بها الوالدان الأفعالَ والأقوال، فتنطبع فى ذهنه، ويحاول تقليد ما يراه ويسمعه.
الولد في مرحلة الطفولة تكون لديه مجموعةٌ من السمات تؤهله لاستقبال كلِّ سلوك والعملِ به، فحين يرى سلوك الوالدين يدعو إلى الإحسان والرحمة والتكافل، يدعو إلى العفة والحياء والطهر، يدعو إلى الصدق والأمانة، لن يتردد الولد في تقليد هذا السلوك.
لكن حين يلجأ الوالدان فقط إلى النصح والإرشاد بالقول دون الفعل، أو يخالف قولُهما فعلَهما، فإن الولد دائماً ما يقوم بعقد مقارنة بين ما يقال له من قِبَل والديه وبين ما يراه من سلوكهما الفعلي.
فإذا لاحظ الولد وجود تناقض بين ما يقال له وما يُفعل فإنه يصاب بحالة من الاضطراب النفسي، ويفقد كذلك القدرة على التمييز بين ما هو صحيح وما هو خطأ.
لذلك -معاشر الآباء والأمهات-: الوالدان تقع عليهما مسئوليةٌ خطيرة بأن يكونا قدوةً صالحة، ونموذجا طيبا لأولادهما؛ لأن مما يثبته الواقع وتدركه العقول أن القدوة من أهم وأمثل الطرق في ترسيخ المبادئ والأخلاق وتربية الأجيال، وتأثيرها أعظم من تأثير الخطب والمقالات والكتابات.
ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتمثل حقيقة الإسلام بين أصحابه في قدوة حسنة، يجمع بين القول والعمل، ويربط النظرية بالتطبيق، ويقدم المعاني حقائق حية، فيُهتدى بعمله قبل قوله، وبفعله قبل علمه، ويكون أمام أصحابه تجسيدًا حيًا لدعوته، ومثلًا صريحًا لمبادئه، قال ربنا: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21].
فمما يجب علينا -معاشر الآباء والأمهات- ونحن نتعامل مع أولادنا: أن نحرص على تقديم القدوة من أنفسنا أولا، علينا أن نكون قدوة حسنة لأولادنا، سواء داخل البيت أو خارجه، فقبل أن نُعلمهم أيَّ سلوك حسن يجب أن نطبقه أولاً قبل أن نطلب من أولادنا تطبيقه، فمثلاً إذا أمرناهم بالصلاة، يجب أن يرانا الأولاد ونحن نداوم على الصلاة في أوقاتها أولاً قبل أن نأمرهم بالمحافظة عليها، وإذا طلبنا منهم عدم التفوه بألفاظ قبيحة يجب ألا يسمعونا نتفوه بمثل هذه الألفاظ، أي يجب أن نؤدب أنفسنا أولا قبل تأديب الأولاد، ويجب ألا نفعل عكس ما نقول، وإلا كنا كمن قال فيهم ربنا: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [البقرة: 44].
وقال أحدهم: "ليكن أوَّلُ إصلاحِك لولدك إصلاحُك لنفسك، فإن عيونَهم معقودةٌ عليك، فالحسنُ عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت".
وقال غيره:
لا تنه عن خُلقٍ وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيمُ
فإذا فعل الآباء فعلا سيئا ووجدوا أولادهم يقلدونهم فلا يلوموا إلا أنفسهم، فمثلا إذا كان الأب يدخن ووجد ابنه يدخن فلا يلوم إلا نفسه، لأن ابنه قد قام بتقليده.
وهكذا الكذب عندما يرى الأولاد آباءهم يكذبون، أو يرتكبوا غير ذلك من المخالفات، كالخيانة والغش وارتكاب الفواحش والسرقة، فإنهم سيقلدونهم في فعل هذه المخالفات.
وفي هذا المعنى ألهم الله شاعراً كلاما هو دُررٌ من الجواهر النفيس، فأنشد يقول:
مَشى الطاووسُ يوما باعْوجاجٍ *** فقلدَ شكلَ مِشيتهِ بنوهُ
فقالَ علامَ تختالونَ؟ قالوا *** بدأْتَ به ونحنُ مقلدوهُ
فخالِفْ سيركَ المعوجَّ واعدلْ *** فإنّا إن عدلتَ مُعدلوه
أما تدري أبانا كلُّ فرع *** يجاري بالخطى من أدبوه؟!
وينشَأُ ناشئُ الفتيانِ منا *** على ما كان عوَّدَه أبوه
فكلما عظمت المخالفة التي يفعلها الأب أو تفعلها الأم كانت الجناية على الولد أعظم وأكبر، وكل هذا ظلم للتربية، وظلم للأمانة، وظلم للإحساس والمشاعر تجاه الأولاد.
نعم -معاشر الآباء والأمهات-: إنها القدوة السيئة من بعض الآباء المستهترين التي يورثونها لأولادهم، وهذا ما يذكرنا بالمثل القائل:
إذا كان رب البيت للدف ضاربا *** فما شيمة أهل البيت سوى الرقص
ورحم الله الإمام ابن القيم عندما قال: "أكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالُهم لهم، وتركُ تعليمِهم فرائضَ الدين وسننَه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوهم كباراً".
فإذا كان الأب نفسه قدوة سيئة لأولاده وكذلك الأم، فإن الولد قد تغيب عنه القدوة الصالحة، فيَعْظم الأمر، وتكتمل المصيبة، وتتوسع الخروق، ومن تم تتكالب عليه القدوات السيئة في الشارع والمدرسة والملعب والإعلام وغيره، وهذه هي المصيبة العظمى، والمشكلة الكبرى.
فقبل أن نلوم أي جهة خارجة عن البيت، وقبل أن نلوم ونعتذر بالفسادِ الاجتماعي ونُحمل المجتمع فسادَ أولادنا، علينا أن نَعلَمَ ونوقِن أن ما ينقُشُه الآباء في نفوسِ أولادِهم من معاني الخير والفضيلة، بالعبارات الصادقة الحارة، والسلوك القويم، مع القدوة الصالحة، له أثرُهُ القوي الذي يبقى مع الولد حتى وإن ظَهَرَ عليه بعضُ الانحرافٍ في أول الأمر بسبب ضغط المجتمع والفساد المستشري فيه، فإنَّه غالباً ما يرجعُ إلى الخير، وتكون عاقبتُهُ إلى الصلاح؛ لأن الله ما كان ليُضيعَ جهدَ الآباء الصادقين الذين جاهدوا في سبيل إصلاح أولادهم واستقامتهم.
ولو افترضنا ضياعَ الولدِ وانحرافَهُ مع ما بَذله الأبوان في سبيل إصلاحه فإنه لا لومَ عليهما، وقد أخذا بالأسباب فإنَّ لله في ذلك حكمة هو أعلمُ بها، وللأبِ وللأم الأجرُ والمثوبةُ على صلاح نيتهما وبَذل جهدهما وتضحيتهما.
الخطبة الثانية:
معاشر الآباء والأمهات: يقول النبي الحبيب -صلوات ربي وسلامه عليه-: "إنَّ اللهَ سائلٌ كلَّ راعٍ عمَّا استرعاه أحفِظ أم ضيَّع حتَّى يسأَلَ الرَّجلَ عن أهلِ بيتِه".
فالأولاد يولدون على البراءة الأصلية وعلى الصلاح المطلق، يولدون وهم على الخيرِ مفطورون، وعلى اتباعِ الحق مجبولون، قلوبهم طاهرة، وصدورهم منشرحة، ونفوسهم على الخيرِ مقبلة، يولدون كالماء العذب، إن أُضيف إليه الملح صار مالحا، وإن أُضيف إليه السكر صار حلوا، وإن لم يُضف إليه شيء وبقي بعيدا عن التلوث والتأثر بقي صالحا.
وهكذا كل مولود يولد مستعدا للصلاح والصواب والحق، لكن بيئته الأولى تؤثر فيه إما تثبيتا على النقاء والطهر والاستمرار على ذلك، وإما انحرافا وتلويثا وتغييرا.
وقد أكد ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ففي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: "كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفطرةِ، فأبواه يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه" فهذا الحديث الشريف يدل على أن دور الأبوان ليس بالأمر الهين، فهما القدوة الأولى والموجه الأول لأولادهما.
فالأولاد بمثابة أرض خصبة للاستنبات، وأول زارع فيها، وأول من يضع البذر فيها هما الوالدان، هما أول من يغرس السلوكيات والأخلاقيات والاتجاهات في نفس الأولاد، فليتخير كل منهما الزرع الذي يحب أن يكون عليه أولاده مستقبلا.
فإما أن يغرس الآباء في أولادهم محاسن الصفات ومكارم الأخلاق بأن يجعلوا أَنفسهم قدوة لهم في الخيرِ وعلى الخير، فيَنبت الأولاد نباتاً حسناً، ويثبتوا على فطرةِ الله التي فطرهم عليها، وإما أن يغرسوا فيهم الشر والفساد والغي والضلال فينبتون نباتاً سيئاً، ويتبعون السبل الضالة المضللة فتضلهم وتنحرف بهم عن السبِيلِ المستقيم.
وللحديث بقية إلى جمعة قادمة بحول الله؛ لأنه ما يزال في النفس شوق للحديث عن هذا الموضوع، فإلى ذلك الحين نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
التعليقات