عناصر الخطبة
1/ أحق الناس بإحسانك 2/إحسان الوالدين لأبنائهم 3/بين البر والجهاد 4/من صور البر 5/نماذج بِرّ السلف لآبائهم وأمهاتهم 6/بر الوالدين بعد وفاتهما.اهداف الخطبة
اقتباس
اثنان إذا ذكرتهما أسعفتك بالدموع العينان، مضت أيامهما وانقضى شبابهما وبدا لك مشيبهما، وقفا على عتبة الدنيا وهما ينتظران منك قلباً رقيقاً وبِراً عظيماً، وقفا ينتظران منك وفاء وبراً، فالجنة لمن برّهما والنار لمن عقهما، فطوبى لمن أحسن إليهما، وطوبى لمن أضحكهما، وطوبى لمن أعزهما، وطوبى لمن أكرمهما، وطوبى لمن نظر إليهما نظر رحمة وودّ وإحسان...
الخطبة الأولى:
حديثنا اليوم حديث حنان وذِكرى، حديث شوق وعِبْرة، حديث حُبّ واشتياق، حديث عن عبادة من أفضل العبادات، وقربة من خير القربات، تَسَابق إليها الأتقياء من الرسل والأنبياء والأخيار الصلحاء, قرنها الله مع وجوب عبادته، هي من أحب الأعمال إلى الله وأفضلها بعد الصلاة، تتنزّل بها الرحمات وتُكشف بها الكُربات، هي مفتاح كل خير ومِغْلاق كل شرّ، هي من أعظم أسباب دخول الجنان والنجاة من النيران، هي سبب في بسط الرزق وطول العمر، هي سبب في دفع المصائب وسبب في إجابة الدعاء, إنه حديث عن أغلى وأعزّ وأكرم إنسانين لك، إنه بر الوالدين.
إننا في زمن قد عظمت غُربته واشتدّت كُربته، فلم يرحم الأبناء دموع الآباء، ولم يرحم البنات شفقة الأمهات، في هذا الزمان الذي قلّ فيه البِرّ, وازداد فيه العقوق والشرّ، كم نحن بحاجة إلى من يذكّرنا فيه بحقّ الوالدين وعظيم الأجر لمن برّهما.
اثنان إذا ذكرتهما ذكرت البر والإحسان، اثنان إذا ذكرتهما أسعفتك بالدموع العينان، مضت أيامهما وانقضى شبابهما وبدا لك مشيبهما، وقفا على عتبة الدنيا وهما ينتظران منك قلباً رقيقاً وبِراً عظيماً، وقفا ينتظران منك وفاء وبراً، فالجنة لمن برّهما والنار لمن عقهما، فطوبى لمن أحسن إليهما، وطوبى لمن أضحكهما، وطوبى لمن أعزهما، وطوبى لمن أكرمهما، وطوبى لمن نظر إليهما نظر رحمة وودّ وإحسان، وتذكر معها ما كان منهما من برّ وعطف وحنان، طوبى لمن أسهر ليله ونصب في نهاره وأضنى جسده في حبهما، طوبى لمن شمر عن ساعد الجد في برهما، فما خرجا من الدنيا إلاّ وقد كتب الله له رضاهما.
أيها الإخوة: بر الوالدين وصية الله ربّ العالمين للإنسان: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) [لقمان: 14] فلله -سبحانه- نعمة الخلق والإيجاد، وللوالدين بإذنه نعمة التربية والإيلاد، يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ثلاث آيات مقرونات بثلاث: لا تقبل واحدة بغير قرينتها: (وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ) فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه، و(أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه".
أيها المؤمنون: إحسان الوالدين عظيم، وفضلهما سابق، تأملوا حال الصغر، وتذكروا ضعف الطفولة، حملتك أمك في أحشائها، ولا يزيدها نموك إلا ثقلاً وضعفاً. وعند الوضع رأت الموت بعينها، ولكن لما بصرت بك إلى جانبها سرعان ما نسيت آلامها، وعلقت فيك جميع آمالها، رأت فيك بهجة الحياة وزينتها، ثم شَغَلَت بخدمتك ليلها ونهارها، تغذيك بصحتها، طعامك درها، وبيتك حجرها، ومركبك يداها وصدرها وظهرها.
تحيطك وترعاك، تجوع لتشبع أنت، وتسهر لتنام أنت، فهي بك رحيمة، وعليك شفيقة, إذا غابت عنك دعوتها، وإذا أعرضت عنك ناجيتها، وإذا أصابك مكروه استغثت بها, تحسب كل الخير عندها، وتظن أن الشر لا يصل إليك إذا ضمتك إلى صدرها أو لحظتك بعينها.
أما أبوك فأنت له مجبنة مبخلة، يكد ويسعى، ويدفع عنك صنوف الأذى، ينتقل في الأسفار، يجوب الفيافي والقفار، ويتحمل الأخطار بحثاً عن لقمة العيش، ينفق عليك ويصلحك ويربيك، إذا دخلت عليه هش وإذا أقبلت إليه بش، وإذا خرج تعلقت به، وإذا حضر احتضنت حجره وصدره، هذان هما والداك، وتلك هي طفولتك وصباك، فلماذا التنكر للجميل؟ وعلام الفظاظة والغلظة، وكأنك أنت المنعم المتفضل؟!.
أخرج الشيخان وغيرهما واللفظ لمسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: أقبل رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أبايعك على الجهاد والهجرة أبتغي الأجر. قال: "فهل من والديك أحد حي"؟ قال: نعم بل كلاهما. قال: "فتبتغي الأجر من الله؟". قال: نعم. قال: "فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما". وسئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها"، قيل: ثم أي؟ قال: "بِرّ الوالدين"، قيل: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" [رواه البخاري ومسلم].
فبر الوالدين مُقدّم حتى على الجهاد في سبيل الله، وجاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأذنه في الجهاد فقال: "أحيٌّ والداك؟" قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهد" [متفق عليه]. وعن معاوية بن جاهمة السلمي قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: "ويحك، أحيّة أمك؟" قلت: نعم، قال: "ارجع فبرّها"، قال: ثم أتيته من الجانب الآخر فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: "ويحك، أحية أمك؟" قلت: نعم يا رسول الله، قال: "فارجع إليها فبرها"، ثم أتيته من أمامه فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: "ويحك، أحية أمك؟" قلت: نعم يا رسول الله، قال: "ويحك، الزم رجلَها فثَمَّ الجنة" [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
أيها المؤمنون: إن وجود والدينا أو أحدهما على قيد الحياة نعمة من الله يجب اغتنامها وانتهازها؛ لكي لا نتحسّر حين لا تفيد الحسرة، فمن صور البر: المحبة والتقدير، والطاعة والتوقير، والتأدب أمامهما، وصدق الحديث معهما، وتحقيق رغبتهما في المعروف، والنفقة عليهما ما استطعت.
أن لا نرفع أصواتنا عليهما، وأن نلين لهم القول ونرفق بهما، لا نحدثهما بغلظة أو خشونة أو رفع صوت، نجنبهما كل ما يورث الضجر: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) [الإسراء: 23] نتخير الكلمات اللطيفة، والعبارات الجميلة والقول الكريم.
وأن نطيعهما بما يأمران به، وأن لا نحدّ النظر إليهما، وأن نستأذن منهما عندما ننوي السفر، وأن نقوم لهما، ونقبل الرأس واليد، وأن ندعو لهما، وأن نسعى في رضاهما، ونجتهد ونتحمل المشقّة في ذلك.
ندفع عنهما الأذى، نتواضع لهما، نخفض لهما جناح الذل رحمة وعطفاً وطاعة وحسن أدب، لقد أقبلا على الشيخوخة والكبر، وتقدما نحو العجز والهرم بعد أن صرفا طاقتهما وصحتهما وأموالهما في تربيتك وإصلاحك، فلقد أنهيا مهمتهما، وانقضى دورهما، وابتدأ دورك، وها هي مهمتك: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) [الإسراء: 23].
قال رجل لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إن لي أماً بلغ منها الكبر أنها لا تقضي حوائجها إلا وظهري لها مطية، فهل أديت حقها؟ قال: "لا؛ لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه وأنت تتمنى فراقها، ولكنك محسن، والله يثيب الكثير على القليل".
نعم؛ إن حقهما عظيم ولكن الجأ إلى الدعاء لهما في حال الحياة وبعد الممات اعترافاً بالتقصير، وأملاً فيما عند الله (قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 24].
أيها الإخوة المؤمنون: لقد فقه الصالحون هذا الأمر فضربوا أروع الأمثلة في بر الوالدين، فهذا محمد بن سيرين إذا كلم أمه كأنه يتضرع، وقال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه فقال: ما شأن محمد؟! أيشتكي شيئًا؟! قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه. وهذا أبو الحسن علي بن الحسين زين العابدين -رضي الله عنهم- كان من سادات التابعين، وكان كثير البرّ بأمّه حتى قيل له: إنك من أبرّ الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صَحْفَةٍ!! فقال: "أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها".
وهذا حَيوة بن شُريح، وهو أحد أئمة المسلمين والعلماء المشهورين، يقعد في حلقته يعلم الناس، ويأتيه الطلاب من كلّ مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: "قم يا حَيوة، فاعلف الدجاج"، فيقوم ويترك التعليم. وكان طلق بن حبيب لا يمشي فوق ظهر بيت وأمه تحته إجلالاً لها وتوقيرًا. وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: لما مات أبي عبد الله ما سألت الله حولاً كاملاً إلا العفو عنه.
وهذا ابن عون نادته أمه فأجابها فَعَلا صوته صوتَها فأعتق رقبتين يرى أنهما كفارة لما فعل. وبكى إياس بن معاوية حين ماتت أمه بكاء شديدًا، فقيل له في ذلك فقال: "كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأغلق أحدهما". وهذا الإمام أبو حنيفة إمام الفقهاء كانت تأمره أمه أن يذهب بها إلى حلقة عمر بن ذر؛ حتى تسأله عما أشكل عليها، مع أن ابنها فقيه زمانه، وكان يذهب بها -رحمه الله-.
وقال محمد بن المنكدر: بات أخي عمر يصلي، وبِتُّ أغمز رجلَ أمي، وما أحبّ أن ليلتي بليلَته. وهذا محمد بن بشار المشهور بِبُنْدَار, الإمام الحافظ راوية الإسلام جمع حديث البصرة كان يقول: "أردت الخروج - يعني: الرحلة لطلب العلم- فمنعتني أمي، فأطعتها فبورك لي فيه".
رحم الله هؤلاء الأئمة الكبار البَرَرَة الأبرار، ما أعظم شأنهم مع والديهم، هذه بعض نماذج بِرّ السلف لآبائهم وأمهاتهم، فماذا نقول نحن اليوم؟! وماذا نفعل نحن اليوم؟!.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 23، 24].
الخطبة الثانية:
أيها الابن البار: تذكَّر أنَّك مهْما بلغتَ من البرِّ بأبويْك، فإنَّه يوجد مَن هو خير منك في البر، فلا يقع في نفسِك أنَّك بلغتَ الكمال في البرِّ، تذكَّر برَّ إسماعيل بأبيه الخليلِ -صلَّوات الله وسلامه عليهِما- حيثُ بلغ به البرُّ منتهاه، فجاد بنفسِه برًّا بأبيه لتنفيذ وحْي الله في المنام: (قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102].
وعن أبى بردة أنَّه شهِد ابنَ عُمر ورجُلٌ يَماني يطوف بالبيت، حَمل أمَّه وراء ظهْرِه، يقول:
إِنِّي لَهَا بَعِيرُهَا المُذَلَّل ** إِنْ أُذْعِرَتْ رِكَابُهَا لَمْ أُذْعَر
ثم قال: "يا ابن عمر، أتراني جزيتُها؟ قال: لا، ولا بزفْرة واحدة" [رواه البخاري في الأدب المفرد وهو صحيح الإسناد].
أيها الابن: ليستْ إساءة الأب وتقْصيره في حقِّك مسوِّغًا لعدم البِرِّ ومبيحًا لعقوقِه، فعلى أبيك ما حمل وعليْك ما حملت من الواجبات، ولا أظنُّك تَرى أنَّ حقك أعظم من حقِّ الله، ومع ذلك فقد أمر الله ببِرِّ الأبوَيْن وإن كانا كافرَيْن (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) [لقمان: 15] وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالتْ: قدِمت عليَّ أمِّي وهي مُشْرِكة في عهْد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستفْتيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت: إنَّ أمِّي قدمتْ وهي راغبة، أفأصل أُمِّي؟ قال: "نعم، صلي أمك" [رواه البخاري ومسلم].
أيها المؤمنون: من فقد والديه أو أحدهما وقد قصر ببرهما في حياتهما وندم على ما فرط تجاههما، فليعلم أن باب الإحسان مفتوح، وليتدارك العمر قبل فوات الروح، وعليه بالدعاء لهما والصدقة عنهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما وإنفاذ عهدهما، فإن هذه الأعمال مما ينتفع به الوالدان بعد موتهما.
أيها الابن: إن والديك هناك في قبرهما يتشوقان إلى دعوة صالحة من ولد صالح في جوف الليل، وإنهما يتطلعان إلى صدقة جارية من كسب طيب تدفع عنهما البلاء ويرضى عنهما رب الأرض والسماء.
التعليقات