إنزال الحوائج

محمد بن عبدالله السحيم

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/الضعف فطرة فطر الله الناس عليه وابتلاهم به 2/أصناف الناس في إنزال الحوائج وشؤم التعلق بالخلق 3/إنزال الحوائج بالله وحده 4/العز في الافتقار إلى الله وإنزال الحاجة به

اقتباس

أعظم ما يكون العبد قدرًا وحرمةً عند الخلق إذا لم يَحتجْ إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم -ولو في شربة ماء- نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته ليكون...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله قاضي الحاجات، جزيل الهبات، سبَّحت له الأرض والسماوات، وخضعت لسلطانه الكائنات، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادةَ موقنٍ يرجو بها الثبات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ذوي الفضل والمكرُمات.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

أيها المؤمنون: الضعف قدَرٌ جِبِلِّيٌّ فطر الله عليه الناس وابتلاهم به؛ لينظر به استشعارهم حقيقةَ هذا الضعف، وتيقنهم عظيمَ فاقتهم إلى ربهم؛ ليستكينوا له، ويكون على ربهم مُعوَّلُهم وأملهم؛ فصار ذلك سبيلًا للترقي في دَرَجِ الإيمان، وعلو النُّزُلِ عند رب العالمين، مع ما يصاحب ذلك من سبل تذليل المعاسر التي لا يحل عِقالَها إلا الله.

 

وكما قد كان ذلك الضعف مِرقاةً لأولئك الموفَّقين فقد غدا بلاءً على آخرين وضِعَةً؛ إذ راموا تخطيه بعلائق المخلوقين مع غياب جانب الاستعانة بالله؛ فازدادوا ضعفًا على ضعفهم، وما أغنى عنهم بيت العنكبوت!

هذا، وإنَّ حالَ الحاجة أعظم ما يُجلِّي ذلك الضعف البشري، فما نبأ إنزالها وطريقُ سدِّها؟ وما مؤدَّى ذلك الإنزال ومنتهى ذلك الطريق؟ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تُسدَّ فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل"(رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح غريب").

إن هذا النبأ النبوي المعصوم قد حوى في ثنايا بيانه أصناف الناس في طلب قضاء حاجتهم أيًّا كانت، وأن تعامُلَهم فيها دائرٌ بين إنزالين لا ثالث لهما: إنزالٍ للحاجة بالله -سبحانه-، وإنزال للحاجة بالخلق، وذلك من خلال ما يقوم في القلب من توجه وركون وتعلق؛ إما بالله رب العالمين، وإما بالخلق المساكين، ولربما تشابهت صور سبل طلب قضاء الحاجة، ولكن البونَ شاسعٌ بين معانيها، وأين يكون التعلق بالخلق من التعلق بالخالق؟

 

أيها المسلمون: إن تعلق القلب بالخلق في قضاء الحاجة مؤذِنٌ بحال نَكَد لا يكون لقضاء الحاجة فيه معنى -هذا إن قُضيتْ- فإن مَن تعلَّق بشيء وَكَلَهُ الله إليه، ومن شؤم التعلق بالخلق: الخِذلان وتعسر الأمر، والتذلل لهم والهوان عليهم، واسترضاؤهم على حساب الدين والقيم، واستثقال الناس لطالب الحاجة منهم وإن خفت، هذا حال البشر مع مَن أنزل حاجته عندهم، وذا مما يبعد معه قضاؤهم حاجته؛ لذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس، لم تسد فاقته"، وإن قضَوها فقد لا يُبارَك له فيها -سيما إن كانت بإلحاح وهم لها كارهون- وقد تكون حسرة عليه، مفتِّحةً أبوابَ حاجاتٍ أخرى لا تُسدُّ فكأن حاجته الأولى لم تُسدَّ، ناهيك عن قدر ما نقص من عبوديته لله، وأعظِمْ به من خَسار! وكفى بحاجة شؤمًا أن تكون مُنقِصة لقدرٍ عند الخالق والخلق! قال ابن القيم: "أعظم الناس خِذلانًا من تعلق بغير الله؛ فإن ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرَّض للزوال والفوات، ومَثَلُ المتعلق بغير الله كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت وأوهن البيوت".

 

عباد الله: إن إنزال الحاجة بالله -عز وجل- بتيقن الافتقار إليه، وكمال كفايته، وأنه لا قاضيَ للحوائج إلا هو سبحانه، وقيام التوكل الصحيح في القلب، وتفويض الأمر للمولى، وحسن الظن به، والثقة بحسن اختياره، والاطمئنان لحكمه، وانتظار الفرج وعدم الاستعجال، وملازمة الدعاء مع بذل الأسباب المشروعة دون تعلق بها أو ركون إليها - إن ذلك هو الطريق الأقوم في نجاح المطالب، كما أنه هو السبيل الوحيد في دَرْكِ الحاجات وقضائها وحلول البركة فيها، وتبديلها بخير منها إن كانت الخيرة في غيرها؛ لذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من نزلت به فاقة فأنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل".

وتأملوا -رحمكم الله- التعبير النبوي الجامع: "فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل" فلم يحصر العطاء الرباني بقضاء تلك الحاجة المنزلة، بل هو رزق مطلق نافع للعبد بحسن اختيار الله له في نوعه ووقته، فقد يكون ذلك الرزق قضاءً لتلك الحاجة بعينها، وقد يكون بالاستغناء عنها، والاستغناء عن الشيء خير من الاستغناء به، وقد تكون تلك الحاجة سبيلًا لبابٍ من الخيرات عظيم؛ يقول شيخ الإسلام: "فمن تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن يُنزِلَ بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده، فيدعونه مخلصين له الدين، ويرجونه لا يرجون أحدًا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه، وحلاوة الإيمان وذَوْقِ طعمه، والبراءة من الشرك - ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف أو الجدب، أو حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة؛ فإن ذلك لذات بدنية ونِعَم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل للمؤمن، وأما ما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين فأعظم من أن يُعبَّر عن كُنْهِهِ مقالٌ، أو يستحضر تفصيله بال، ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه؛ ولهذا قال بعض السلف: يا ابن آدم، لقد بُورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك، وقال بعض الشيوخ: إنه ليكون لي إلى الله حاجة فأدعوه، فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي؛ خشية أن تنصرف نفسي"، وقال سفيان بن عيينة: "مرَّ محمد بن علي بمحمد بن المنكدر، فقال: ما لي أراك مغمومًا؟ فقال أبو حازم: ذلك لَدَيْنٌ قد فدحه، قال محمد بن علي: أفتح له في الدعاء؟ قال: نعم، فقال: لقد بورك لعبد من حاجة أَكَثَرَ فيها دعاء ربه كائنةً ما كانت".

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله...

أما بعد: فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...

 

أيها المؤمنون: إن إنزال الحاجة بالله -سبحانه- وقَصْرَ طلبها منه توحيدٌ خالص وإيمان رفيع، يرفع منزلة العبد عند ربه وعند خلقه؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فأعظم ما يكون العبد قدرًا وحرمةً عند الخلق إذا لم يَحتجْ إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم، كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم - ولو في شربة ماء - نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته؛ ليكون الدين كله لله، ولا يُشرَك به شيء"، فالعز معقود بالافتقار إلى الله وإنزال الحاجة به والاستغناء عن خلقه، وتُحَفُ الخير مسوقة لكل من أنزل حاجته بالله؛ ثباتًا على المبادئ، واطرادًا في المنهج السوي، وتفاؤلًا يملأ قلب ذلك الموفَّق وإن ادلهمَّت في وجهه الخطوب، وعزيمةً لا تنثني قناتها أمام مطارق الصعاب في درب بذل الأسباب، وإعذارًا للخلق حين لا يُقدِّر الله قضاء الحاجة على أيديهم؛ إذ لا مانع لما أعطى، ولا معطيَ لما منع؛ قال محمد بن واسع لقتيبة بن مسلم: "إني أتيتك في حاجة رفعتها إلى الله قبلك، فإن أذِن الله فيها قضيتَها وحمدناك، وإن لم يأذن الله فيها لم تقضِها وعذرناك".

 

أنزلت بالحرِّ إبراهيمَ مسألةً *** أنزلتُها قبل إبراهيم باللهِ

فإن قضى حاجتي فالله يسرها *** هو المقدرها والآمر الناهي

إذا أبى الله شيئًا ضاق مذهبه *** عن الكبير العريض القَدْر والجاهِ

 

المرفقات
auHaX4OctCKgJRDTPLpKD1PaU10RNiQiBygCnOVK.pdf
PsByu6zF702IjtRYXB7MXSOyATCGgYoa9mgMWC29.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life