عناصر الخطبة
1/ أهمية توثيق العُرى وتقوية العلائق بين المؤمنين 2/ كثرة الفرقة والاختلاف بين المسلمين 3/ فضل إصلاح ذات البين 4/ ضوابط في التفريق بين الهجر الممنوع والهجر المباح 5/ أسباب فساد ذات البيناقتباس
إن مما يُدْمِي القلوب أن تَرى بين المؤمنين فُرقةً واختلافاً، وعَصبيَّة جاهلية وليت الأمر وقف عند هذا، بل جَاوَزه إلى أن أصبح بعض المسلمين لا يرى الأخوة إلاّ في إطار بلدِهِ أو قبيلتِهِ أو عائلته.. إن فساداً في ذات البين قد حلّ بالمسلمين، ففرّق شملهم وشتّت جماعتهم، حتى وقعت فيها الحالِقَةُ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أمرنا بالاعتصام بحبله المتين ونهانا عن الفُرقة والاختلاف في الدين، وذكّرنا نعمة علينا إذ كُنَّا أعداءً فألَّف بين قلوبنا فأصبحنا بنعمته إخواناً، وكنا على شَفَا حُفْرة من النار فأنقذنا منها.
الحمد لله الذي لم يجعل لأحدٍ على أحد فضلاً إلاّ بالتقوى فقال عز شأنه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13].
نحمد الله –سبحانه- على نعمة الإيمان إذ جعلنا بها إخوة فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، ونثني عليه الخير كلَّه، نشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يكفره، نرجو رحمته ونخشى عذابه؛ إنّ عذابه الْجِدّ بالكفار مُلْحِقٌ.
وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، جلّ عن الشبيه وعن المثيل والنَّظير (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 9]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيُّها الإخوة المؤمنون: إن لهذه الشريعة خصائص وسِمَات جليلة، وقواعد كلية لا يمكن أن ترى فيها حُكماً من الأحكام أو مسألة من المسائل تخرج عنها، بل لا يمكن أن تنتقص هذه القواعد في جُزئية من جزئيات الشريعة أو مقاصدها وإن من مقاصد هذه الشريعة وسمات هذا الدين ربط الأُوَاصِر وتوثيق العُرى وتقوية العلائق بين المؤمنين والحضّ على التعاون على البر والتقوى والتَّآلُف والمحبة.
ولكننا جَهلاً منا لديننا وبُعداً عن الإقامة الدقيقة لشَّعائر هذا الدين ضيَّعنا كثيراً من هذه السِمَات والخصائص؛ فلا نكاد نراها إلاّ بين طائفة قليلة من المسلمين، وحَلَّ محلها ضدها.
والأمر جَليٌّ واضح فإن غابت سُنَّة فمكانها بدعة، وإن غاب المعروف ظَهَر المنكر وإن ضَعُف الحق قَوِي الباطل.
معاشر المؤمنين: إن مما يُدْمِي القلوب أن تَرى بين المؤمنين فُرقةً واختلافاً، وعَصبيَّة جاهلية وليت الأمر وقف عند هذا، بل جَاوَزه إلى أن أصبح بعض المسلمين لا يرى الأخوة إلاّ في إطار بلدِهِ أو قبيلتِهِ أو عائلته.
أيها المؤمنون: إن فساداً في ذات البين قد حلّ بالمسلمين، ففرّق شملهم وشتّت جماعتهم، حتى وقعت فيها الحالِقَةُ.
روى الإمام الترمذي -رحمه الله- عن أم الدرداء -رضي الله عنها- عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟" قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ".
وروى الترمذي أيضاً بسنده إلى الزبير بن العوام -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ: الْحَالِقَةُ، حَالِقَةُ الدِّينِ لَا حَالِقَةُ الشَّعَرِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ".
وفي خطبة الوداع قال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يِئسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ" (رواه مسلم).
إن فساد ذات البين سواء كان بين الرجل وامرأته أو أخ وأخيه أو ابن وأبيه، أو قريب وقريبه أو جار وجاره، إن فساد ذات البين حالقة، ولا تحلق الشعر كالمرأة التي تحلق شعرها أو تشق جيبها عند المصيبة، وإنما هي حالقة لأمر أعظم إنها حالقة للدين والعياذ بالله تنتزعه من أصوله..
وكُلُّ كَسْرٍ فإنَّ الدين يَجبُرُهُ *** وما لِكَسرِ قَناةِ الدِّينِ جُبْرانُ
وإن من أعظم القربات إلى الله تعالى: إصْلاح ذات البين.
نعم ينبغي تتبُّع هذه الحالقة لإزالتها وربط القلوب وإزالة ما فيها من شَحناء وتباغُض، قال الله -عز وجل-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات: 10]، وقال (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال: 1]، وقال (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ).
ولنا في رسول الله أُسْوة حسنة؛ أخرج البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلغه أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شَرّ فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُصْلِح بينهم في أُناس معه.
وروى البخاري في موضع آخر عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأُخْبِرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: "اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ".
وأخرج البخاري في الأدب المفرد: عن أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَده لَا تَدْخُلُوا الجَنَّة حَتى تُسلِمُوا، وَلَا تُسْلِموا حَتَّى تَحَابُوا، وأَفْشُوا السَّلام تَحَابُوا، وإِيَّاكُم والبُغْضَةَ، فَإنَّهَا هِي الحَالِقَةُ لَا أَقُولُ لَكُم تَحْلِقُ الشَّعَر، وَلَكِن تَحْلِق الدِّينَ ".
وروى الشيخان من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ صَدَقَةٌ"؛ أي: تصلح بينهما بالعدل.. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الْأُمَمِ", قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا دَاءُ الْأُمَمِ؟ قَالَ: "الْأَشَرُ، وَالْبَطَرُ، وَالتَّكَاثُرُ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّبَاغُضُ، وَالتَّحَاسُدُ، حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ، ثُمَّ يَكُونُ الْهَرْجُ" (أخرجه الحاكم).
وإن من المسلمين من يرى هذه القضية من القضايا الجانبية العرضية التي لا تستحق أن يُفرد لها الكلام ويشخص لها البصر، وهذا تساهل بخطرها فإن هذه القلوب إذا صلحت وسلمت من نيران البغضاء والعداوة والتَّشاحُن أصبحت نفوساً خيِّرة إذا رأت موحِّداً هَشّتْ إليه وبَشّتْ واطمأنت قبل أن تعرف جنسيته أو قبيلته.
ولعظم هذه المسألة قال -صلى الله عليه وسلم- "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ" (رواه مسلم عن جابر).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمُ الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ" (متفق عليه).
وقال: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ" (أخرجه أبو داود).
أما إذا كان الهجر بسبب بَغي أو عُدوان أو كانت الصِّلة تَجر ظلماً وإثماً والقطيعة تدفع هذه الشرور فإن هذا ليس من الهجر الممنوع ما دام أن الهجر كان لما يُرضي الله -عز وجل-.
ولقد هجر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة من خيار الصحابة لما تخلفوا عن ركب الجهاد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ومن الهجر الجائز هجر الزوجة لتأديبها: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) [النساء: 34]، وبوَّب البخاري في صحيحه "باب ما يجوز من الهجران لمن عصى"، قال ابن حجر: "أراد بهذه الترجمة بيان الهجران الجائز؛ لأن عموم النهي مخصوص بمن لم يكن لهجره سبب مشروع".
أيها الأحبة في الله: ولأن الشريعة جاءت لتجعل المسلمين صفاً واحداً أمام أعداء الله، نهت عن كل ما يصدع في جدار هذا الصّف.
فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّهُ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ" (متفق عليه).
ولو بحثنا عن أسباب فساد ذات البين التي أورثت الحقد والقطيعة بين الناس لوجدنا أن من أكبر أسبابها سوء الظن بالمسلمين..
قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات: 12]، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ" (رواه البخاري ومسلم)، وقال عمر: "لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً ".
ولو طبّق المسلم ذلك لما وقع بينه وبين أحد شحناء أو تباغُض ولكن:
إذا ساءَ فِعْلُ المرْءِ ساءَتْ ظُنُونُهُ *** وَصَدَقَ مَا يَعتَادُهُ من تَوَهُّمِ
فالحذر الحذر من سوء الظن بالولد.. أو الزوجة.. أو الجار.. أو المسلمين عامة..
وإن سُوء الظّن يجر إلى التجسس، والتجسس سبب من أسباب فساد ذات البين قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا إِخْوَانًا، وَلاَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ " (متفق عليه).
وإن من أسباب فساد ذات البين: تصديق الشائعات، وعدم التثبت مما يُنقل من الأخبار.
وَهُمْ نَقَلُوا عَنِّي الَّذِي لَمْ أَفُهْ بِهِ *** وَمَا آفَةُ الأَخْبَارِ إِلاَّ رُواتُهَا.
حينما نجد مسلماً من شدة شغفه بالكلام يتلقاه بلسانه قبل أذنه (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور: 15]، وبعض الناس قد ينقل إليك شيئاً أصله صحيح، ولكن الزيادات والحواشي والتحليلات التي يذكرها غير صحيحة، وما أكثر الذين فسدت بينهم ذات البين بسبب مثل النقولات والأخبار، يأتيه رجل فيقول: قال فيك فلان كذا وكذا؛ فيزرع في قلبه حِقْداً وضَغينة.
ولو أنه قال له: بِئس ما قلت ولا أظُن بأخي إلاّ خيراً، ثم استقبل القبلة وقال اللهم اغفر لي ولأخي وتجاوز عني وعنه.. هذا خُلق الصالحين ذوي المروءات..
قال -صلى الله عليه وسلم-: "تَجِدُونَ مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ، الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ" (رواه البخاري ومسلم).
وقد قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [المدثر: 10-11]. وإنّ من أسباب هذه الحالقة.. فساد ذات البين.. المِنَّةُ بالعطايا فإنها من أسباب الفساد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) [البقرة: 264]، والمقصود أصلاً من العطية هو توثيق القلوب وتصفية النفوس، فإذا وقع ذلك من العَطيّة والامتنان وقعت الحالقة..
وعن أبي ذر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَ مِرَارًا، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ" (رواه مسلم).
وفقني الله وإياكم لكم خير وجمع قلوبنا جميعاً على طاعته وجعلنا إخوة في الله متحابين مُتَألفين.. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر على توفيقه وامتنانه...
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: وإن من أسباب الحالقة: التَّنَاجِيَ؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ حَتَّى تَخْلِطُوا بِحَدِيثِهِ كَيْ لَا يُحْزِنَهُ " (متفق عليه).
ومن أسبابها: تساهُل بعض الناس بالتّفحُش في كلامه سَباً ولعناً وتَحقيراً لإخوانه في المجالس وعلى رؤوس الناس. وتأملوا قول الله -عز وجل-: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ…) [الأنفال: 1].
وانظروا إلى هذا الإعجاز والجلال.. الصحابة يسألون بعد اختلاف وشجار بينهم عن الأنفال وهو ما يحصل عليه من الغنيمة ونحوها فجاء الخطاب (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ).. ولم يجئ تفصيل الأنفال إلاّ في آخر السورة (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ..) [الأنفال: 41].
وأخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: "سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلتْ، حين اختلفنا في النّفْل، فساءت أخلاقنا فانتزعه الله من بين أيدينا وجعله إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- فقسمه بين المسلمين"..
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-، لما التقى الصفان قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صنع كذا وكذا فله من لنَّفَل كذا وكذا"، قال: فتقدم الفِتْيان ولزم المشيخة الرايات فلم يبرحوها فلما ختم الله عليهم قال الكبار المشيخة: كُنّا ردءاً لكم، وقال الفتيان: جعله رسول الله لنا فأنزل الله تعالى (يَسْأَلُونَكَ) ولم يرد تقسيم الأنفال في صدر السورة وإنما وردت القضية الأعظم وجاء النهي عن الحالقة: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)" (رواه أبو داود).
وفي سبيل إصلاح ذات البين جَاز الكذب.. "لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا، أَوْ يَقُولُ خَيْرًا "(متفق عليه).
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) والواجب علينا جميعاً.. امتثال قول الله عز وجل: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ …) [النساء: 114].
ألا فليعلم المُصِرّون على الحالقة والتدابر والتَّشاحُن أنهم يفوتهم مغفرة وفضل عظيم..
" تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا " (رواه مسلم).
وإن مما يزُيل هذه الحالقة التَّبسُم في وجه المسلم والهش والبش في وجه المسلم..
اللهم أصلح ذات بيننا واهدنا سبل الرشاد، ووفقنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير.
نسأل الله -جل جلاله- أن يغفر لنا خطأنا وزللنا، وأن يُعيننا على بر والدينا،
اللهمّ اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتِّعه بالصحة والعافية على طاعتك حتى يلقاك، ومن كان منهم ميتاً فضاعِف له حسناته وتجاوز عن سيئاته واجمعنا بهم في جنتك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه ومالم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه ومالم نعلم.
اللهم وارض عن صحابة نبيك أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، عباد الله (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)؛ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
التعليقات