عناصر الخطبة
1/أحوال طول ثوب الرجل أو إزاره 2/مناقشة حديث أبي بكر: "لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلاَءَ" 3/توجيه لمن يذهب للخياط لتفصيل ثوبه 4/حكم الإسبال للمرأةاقتباس
وفي حديثٍ آخَرَ عن ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما مرفوعاً: "بَيْنَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ؛ إِذْ خُسِفَ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ"(رواه البخاري) "يَتَجَلْجَلُ"، أي: يغوص في الأرض حتَّى يُخْسَفَ به، وقيل: يسيخ في الأرض مع اضطرابٍ شديد، وتدافعٍ من شقٍّ إلى شِقٍّ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: ما حكم إسبال ثوب الرَّجل أو إزاره؟
طول ثوب الرجل أو إزاره له خمس حالات:
الحال الأولى: نصف السَّاقين، وحكمها: الاستحباب؛ لأنَّه الموافق للسُّنَّة، ودليلها:
أولاً: ما جاء عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "إِزْرَةُ المُسْلِمِ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ"(صحيح، رواه أبو داود)، وفي لفظٍ آخَرَ من حديث أبي سعيدٍ -رضي الله عنه- مرفوعاً: "إِزْرَةُ المُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ"(صحيح، رواه ابن ماجه).
ثانياً: ما جاء عن حُذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَوْضِعُ الإِزَارِ إِلَى أَنْصَافِ السَّاقَيْنِ وَالعَضَلَةِ"(صحيح، رواه النسائي)، "العَضَلَة": المقصود به عضلة الساق، وهو المحل الضَّخم منه.
الحال الثَّانية: ما دون نصف السَّاق إلى الكعبين، وحكمها: الجواز، ودليلها:
أولاً: ما تقدَّم من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي الله عنه- مرفوعاً: "إزْرَةُ المُسْلِمِ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، ولاَ حَرَجَ -أوْ لاَ جُنَاحَ- فِيما بَيْنَهُ وَبَيْنَ الكَعْبَيْنِ"(صحيح، رواه أبو داود)، الكعب: هو العظم النَّاتئ عند ملتقى السَّاق والقَدَم.، وفي لفظ آخَرَ من حديث أبي سعيدٍ -رضي الله عنه- مرفوعاً: "إِزْرةُ المُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ مَا بيْنهُ وَبَيْنَ الكَعْبَيْنِ"(صحيح، رواه ابن ماجه).
ثانياً: ما تقدَّم من حديث حُذَيفَةَ -رضي الله عنه- مرفوعاً: "مَوْضِعُ الإِزَارِ إِلَى أَنْصَافِ السَّاقَيْنِ وَالعَضَلَةِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَأسْفَلَ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَمِنْ وَرَاءِ السَّاقِ"(صحيح، رواه النسائي)، المراد: قبل وصول الثوب إلى الكعب آخر الساق.
الحال الثَّالثة: وَضْعُ الإزارِ على الكعبين، وحُكمها: التَّحريم، ودليلها:
عن حُذَيْفَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- بِعَضَلَةِ سَاقِي -أَوْ سَاقِهِ- فقال: "هَذَا مَوْضِعُ الإِزَارِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَأَسْفَلَ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَلاَ حَقَّ لِلإِزَارِ في الكَعْبَيْنِ"(صحيح، رواه الترمذي)، والمراد: النهي عن ستر الكعبين بالإزار.
الحال الرَّابعة: ما أسفل من الكعبين، وحكمها: أنَّه أشدُّ حرمة من الكعبين، وفيه وعيد شديد، ودليلها:
أولاً: ما جاء عن أبي هُريرة -رضي الله عنه-، عن النَّبيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "مَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ"(البخاري)، قال ابن حجر - في شرحه للحديث: "أي: ما دون الكعبين من قَدَمِ صاحب الإزار المُسبل، فهو في النَّار؛ عقوبةً له على فِعله".
وهذا الحديث يُشبه ما جاء عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- لمَّا كَانَ يَمُرُّ بالنَّاسُ، وهم يَتَوَضَّؤونَ مِنَ الْمِطْهَرَةِ، فيقول لهم: أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ؛ فَإِنَّ أَبَا الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ"(رواه البخاري).
ثانياً: ما جاء عن المُغيرَة بن شُعْبَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "يَا سُفْيَانَ بْنَ سَهْلٍ، لاَ تُسْبِلْ؛ فَإِنَّ اللهُ لاَ يُحِبُّ المُسْبِلينَ"(حسن، رواه ابن ماجه).
ثالثاً: ما جاء عن أبِي جُرَيٍّ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ النَّبيَّ -صلّى الله عليه وسلّم- أَوْصَاهُ بِقوله: "إِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الإِزَارِ -أي: احذر إسبالَ الإزار، وإرخاءَه من الكعبين-؛ فَإِنَّهَا مِنَ المَخِيلةِ -أي: من الخيلاء والتَّكبُّر-، وَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ"(صحيح، رواه أبو داود).
الحال الخامسة: أن يجُرَّه خيلاء، وحُكمها: أنَّه الأشدُّ تحريماً، وفيه الوعيد الأعظم، ودليلها:
أولاً: ما جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أنَّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "لاَ يَنْظُرُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَراً"(رواه البخاري)، "لاَ يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِ"، أي: لا يرحمه، ولا ينظر إليه نَظَرَ رحمةٍ، "بَطَراً"، أي: جَرَّه تكبُّراً وطغياناً.
ثانياً: ما جاء عن ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما-، أنَّ رسولَ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "لاَ يَنْظُرُ اللهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ"(متفق عليه).
ثالثاً: وفي حديثٍ آخَرَ عن ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما مرفوعاً: "بَيْنَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ؛ إِذْ خُسِفَ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ"(رواه البخاري) "يَتَجَلْجَلُ"، أي: يغوص في الأرض حتَّى يُخْسَفَ به، وقيل: يسيخ في الأرض مع اضطرابٍ شديد، وتدافعٍ من شقٍّ إلى شِقٍّ.
عباد الله: وخلاصة ما دلَّت عليه هذه الأحاديث ما يلي:
أولاً: يُستحبُّ للرَّجل أن يكون إزاره إلى نصف السَّاق، وهو الموافق للسُّنَّة.
ثانياً: ما دون نصف السَّاق إلى الكعبين، جائز بلا كراهة.
ثالثاً: ما كان على الكعبين، فهو مُحرَّم.
رابعاً: ما كان أسفل من الكعبين، فهو شديد الحرمة، وفيه وعيد شديد.
خامساً: إذا جُرَّ الإزارُ خُيلاءَ، فهو التَّحريم الأشدُّ، وفيه الوعيدُ الأعظم.
وهذا الحُكم يشمل كلَّ لباس، سواء كان ثوباً، أو إزاراً، أو مشلحاً، أو سروالاً، أو بنطالاً.
معشر الفضلاء: ولنستمع الآن لحديث عظيم فيه عظة وعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلاَثَ مِرَارٍ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ"(رواه مسلم)، ففي الحديث دلالة واضحة بأن الإسبال من كبائر الذنوب؛ للوعيد الشديد.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أيها الإخوة الكرام: إن بعض الناس اليوم يحاول الاستدلال على جواز إطالة الثوب إلى ما دون الكعبين بقول أبي بكر لما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، فقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي، إِلاَّ أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلاَءَ"(أخرجه البخاري). وفي لفظ آخر: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ إِزَارِي يَسْتَرْخِي أَحْيَاناً، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "لَسْتَ مِنْهُمْ يَا أَبَا بَكْرٍ"(رواه البيهقي)، وواضح من سياق القصة بأن الإزار يُلبس من وسط البطن، فهو مُعرَّض للارتخاء، بخلاف لبس الثوب، فإنه لا مجال لذلك.
والحديث صريح بأن أبا بكرٍ -رضي الله عنه- لم يكن يطيل ثوبه، بل فيه أن إزاره كان يسترخي بغير قصد منه، وأنه كان مع ذلك يتعاهده، فيسترخي على الرغم من ذلك أحياناً، فأين هذا ممن يوصي الخياط عند تفصيل الثوب بإطالته قصداً وتعمداً؛ من أجل الموضة، زعموا!، قال ابن حجر -رحمه الله-: "فكأن شده كان ينحل إذا تحرك بمشي أو غيره بغير اختياره، فإذا كان محافظاً عليه لا يسترخي؛ لأنه كلما كاد يسترخي شده"(فتح الباري).
إذاً هناك فرق كبير بين الإسبال العارِض كقصة أبي بكر مع إزاره، وبين الإسبال المُقنَّن والمُبيَّت والمُتعمَّد، كما هو عليه عامة الناس اليوم، ولا حول وقوة إلاَّ بالله العلي العظيم!.
وقد ذكر ابن حجر -رحمه الله- في بعض الروايات أن أبا بكرٍ -رضي الله عنه- كان نحيفاً، قال الألباني -رحمه الله-: "فهل يجوز الاستدلال بهذا، والفرق ظاهر كالشمس بين ما كان يقع من أبي بكر بغير قصد، وبين من يجعل ثوبه مسبلاً دائما قصداً"(سلسلة الأحاديث الصحيحة).
وخلاصة القول: بأنَّ ما حدث لأبي بكر -رضي الله عنه- في شأن الإزار واقِعَة عَينٍ لا عموم لها.
أيها الناس: وهذا موقف آخَرَ فيه عظة وعبرة، فقد "رأى ابن عمر -رضي الله عنهما- شاباً عليه حُلَّةٌ صنعانيةٌ يجرها مسبلاً، فقال له: "يَا فَتَى، هَلُمَّ"، قَالَ لَهُ الْفَتَى: مَا حَاجَتُكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: "وَيْحَكَ أَتُحِبُّ أَنْ يَنْظُرَ اللهُ إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ لاَ أُحِبَّ ذَلِكَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- يَقُولُ: "لا يَنْظُرُ اللهُ إِلَى عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجُرُّ إِزَارَهُ خُيَلاَءَ"، فَلَمْ يُرَ ذَلِكَ الشَّابُّ إِلاَّ مُشَمِّراً حَتَّى مَاتَ"(رواه البيهقي بسند صحيح).
فوصيتي لنفسي ولإخوتي الكرام - كباراً وصغاراً - حال الذهاب للخياط أن نُوصِيه بألاَّ يُلامس الثوبُ الكعبَ، فضلاً أن ينزل أسفل منه، وتذكَّر يا عبد الله -وأنت تُخيط ثوبَك- بأنَّ ما أسفل من الكعبين من الثوب ففي النار، فمن يُطيق النار؟!.
أيها الأحبة الكرام: والسؤال هنا: هل المرأة كالرجل في مسألة إسبال الثياب؟.
يجوز للمرأة الإسبالُ بعكس الرَّجل؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلّى الله عليه وسلّم- أَذِنَ لهنَّ في إرخاء أثوابهن ذراعاً من أجل تغطية القدمين، وهي بذلك تُخالف الرَّجل، عن ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ؛ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعْنَ النِّساءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ: "يُرْخِينَ شِبْراً"، فَقَالتْ: إِذاً تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ؟ قَالَ: "فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعاً لاَ يَزِدْنَ عَلَيْهِ"(صحيح، رواه الترمذي).
وجه الدَّلالة: فيه جواز الإسبال للنِّساء، وفيه استثناءٌ لهنَّ من الوعيد الوارد في حقِّ المُسبل، قال ابن حجر -رحمه الله-: "سَأَلَتْ -أمُّ سلمة -رضي الله عنها- عن حُكْمِ النِّساء في ذلك؛ لاحتياجهنَّ إلى الإسبال من أجل ستر العورة لأنَّ جميع قدمها عورة، فبيَّن لها أنَّ حُكْمَهنَّ في ذلك خارجٌ عن حُكم الرِّجال"(فتح الباري).
إذاً الإسبال في حقِّ المرأة فيه صيانة لها من أن تنكشف أقدامُها، وفيه مبالغة في السَّتر الذي أراده الله -تعالى- لها، ثم قارن الآن بين موقف أم سلمة -رضي الله عنه- وحرصها على التستر الكامل، وبين نساء اليوم!، فقد انعكس الحال فأصبحت النساء يُقصِّرن الثياب إلى ما دون الركبة، والرجال يُطيلوا الثياب إلى أسفل الكعبين!.
قال ابن حجر -رحمه الله-: "والحاصل أنَّ للرِّجال حالين: حال استحباب، وهو أن يقتصر بالإزار على نصف السَّاق، وحال جواز وهو إلى الكعبين، وكذلك للنِّساء حالان: حال استحباب، وهو ما يزيد على ما هو جائز للرِّجال بقدر الشِّبر، وحال جواز، بقدر ذراع".
التعليقات