اقتباس
يا خطيب مسجدي: لما استمعت إليك في خطبك ومواعظك ظننتك الصورة النموذجية للمسلم الحق في عباداته وسلوكه ومعاملاته، فأحببتك واتخذتك قدوة ومَثلًا أعلى، فحاولت جاهدًا أن أتقرب منك مُحبًا معجبًا أنهل من سمتك كما...
"أسأل الله أن ينتقم منك يا خطيب مسجدنا"!، "جنيت علينا أيها الشيخ، ضيَّعتنا وغيَّبتنا"! "حسابنا معك أمام الله ليأخذ حقنا منك"!، "لقد كدنا نكره الجمعة وخطبتها بسببك"!، "نسأل الله أن يصرفك عنا ويجيرنا منك"!، "حسبنا الله ونعم الوكيل فيك"!...
أتُصدِّق -أخي الخطيب- أن بعض الناس يخاطبون خطباءهم بمثل هذه العبارات التي لا تليق ويصفونهم بها في غيبتهم؟! وقد تعففت عن ذكر ألفاظ أخرى أشد وأشنع، وليت الأمر يقتصر على مجرد الكلمات والشتائم، بل قد يتعدى إلى ما هو أكثر من ذلك؛ فقد حدث بالفعل أن صعد بعض الناس بسكين على المنبر أثناء خطبة الجمعة وأنزل الخطيب من فوقه؛ اعتراضًا منهم على الموضوعات التي يتناولها لأنها لا تمس واقع حياتهم!
وقد حدث بالفعل أثناء خطبة الجمعة أيضًا أن جثا أحد المستمعين على ركبتيه وصرخ بالخطيب: "أنت لا تجيد حتى تلاوة القرآن فانزل"، وصار يلح عليه -بأسلوب غير مهذب- في النزول، فلما رفض الخطيب النزول قام الرجل سابًا ساخطًا وانصرف من المسجد!
وبينما كان أحد الخطباء يتكلم عن حقوق العباد ووجوب أدائها... فإذا بصوت يتعالى من آخر المسجد، وإذا هي امرأة تصيح من خلف ستار داخل المسجد قائلة: "أيها الناس: لا تصدقوه؛ فإن هذا الخطيب كان زوجي فأساء معاملتي، ثم طلقني وهو يأبى إلى الآن أن يعطيني نفقتي وحقوقي، بل ويرفض أن يسمح لي برؤية أولادي منه، فحسبي الله ونعم الوكيل فيه"، وصارت تصرخ وتنتحب حتى سمع المسجد كله صوت نحيبها، ورقت قلوبهم لها!
وقصَّ عليَّ ثقة أنه قد وقع شجار بين عائلتين كبيرتين في إحدى القرى، وكان خطيب تلك القرية من أحد هاتين العائلتين، وفي يوم الجمعة صعد ذلك الخطيب المنبر منددًا -من وراء حجاب- بخطأ العائلة الأخرى، ومصوِّبًا موقف عائلته، ومتوعدًا خصوم عائلته بنار جهنم! وما أن فهِم الجالسون مقصده ومراده حتى قام بعضهم على بعض متضاربين ومتسابين ومتصارعين!
والمواقف كثيرة، أكثر من أن تُحصر في هذا المقام، ومع التحفظ الشديد على ما فعل هؤلاء الناس وعلى ما قال أولئك، فإن سؤالًا ملحًا يطل برأسه هنا، وهو ما يهمنا نحن معاشر الخطباء، سؤال يقول: لماذا قال هؤلاء ما قالوا؟ ولماذا صنعوا ما صنعوا؟ وكيف تجرؤوا على خطيب الجمعة المبلِّغ عن الله وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟!
ونجيب: إن من هؤلاء المتجرئين المعترضين من هو معتد آثم من الهمج الرعاع الذين لا يفقهون، لكن ليس جميعهم كذلك؛ فإن منهم من له بعض الحق في اعتراضه وشكواه، وإن منهم من استثاره الخطيب بأفعاله وأقواله وآذاه، وإن منهم من جاء ينكر على الخطيب منكرًا -بحق- فأخطأ في أسلوب الإنكار، وإن منهم من قصَّر الخطيب في تعليمهم؛ لقصوره هو في العلم والفهم... ولو أتيحت لبعض هؤلاء المعترضين الفرصة لانطلقت ألسنتهم بـمُرِ الشكوى وشديد البلوى بخطيب من المنفرين!
***
وإني قد تطوعت -نيابة على إخواني الخطباء- بخوض هذه التجربة؛ فتخليت اليوم عن منبري وخطبتي، وتقمصت دور المستمع الناقد -وإن كثيرًا من المستمعين الصامتين في دواخلهم ناقدين، ينظرون بعين النقد لا بقصد التعلم والعظة-، وقد اعتبرت نفسي اليوم واحدًا من هؤلاء، فتخيلت أنني أجلس في أحد المساجد قبل خطبة الجمعة منتظرًا الخطيب أن يخرج من غرفته متجهًا إلى المنبر كي أحيطه بنظراتي وأسجل في عقلي ملاحظاتي عليه وانتقاداتي...
فها هي الساعة تشير إلى اقتراب موعد صلاة الجمعة، وها هم الخطباء يخطون خطواتهم الأولى خارج غرفهم، وها هم يمشون إلى منابرهم، وها هم يعتلونه، وها هم يبدؤون خطبتهم... كل هذا وهم تحت المنظار الثاقب لمستمعيهم، يراقبونهم ويتابعونهم، لا هدف ولا شغل لهم إلا خطباؤهم... فترى ما كانت ملاحظاتهم عليهم؟ وما كانت شكواهم منهم؟... هذه هي مهمتي التي تطوعت من أجلها؛ أن أنقل إلى الخطباء شكاوى أو قل: صرخات المستمعين لهم، فإني لا أخاطبك اليوم بلسان زميل لك؛ بل أخاطبك بلسان مستمع ناقد قد هاله ما يصنع بعض الخطباء فهو يبث شكاوى الناس منهم، وإليك بعض تلك الشكاوى:
الشكوى الأولى: صرفتني بسوء مظهرك عن الاستفادة بالحق الذي تحمله:
يا خطيب مسجدي: تُرى ما لي أرى قميصك غير مكوي، وشعرك غير مرجل، وألوان ثيابك غير متناسقة، وما لي أشم منك رائحة لا تُحب!... ألست أنت من قرأت علينا مرارًا قول الله -عز وجل-: (يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[الأعراف: 31]، فما لك لم تأخذ بزينتك قبل مجيئك إلى المسجد؟! قال المفسرون: "(خُذُواْ زِينَتَكُمْ): لباس زينتكم (عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ): كلما صليتم، وقيل: الزينة: المشط والطيب، والسنة أن يأخذ الرجل أحسن هيآته للصلاة؛ لأن الصلاة مناجاة الرب فيستحب لها التزين والتعطر كما يجب التستر والتطهر"([1])، وهذا لعامة من قصد المسجد من المسلمين، فما بالك بإمامهم وخطيبهم؟!
أيها الخطيب: إن أول ما تقع عيني منك تقع على هندامك ومظهرك، فإن كان مناسبًا ومنظمًا ومتناسقًا جذبني إليك وشوقني إلى استماع كلامك بل ومَّهد الطريق لقبوله، وإن كان مظهرك متنافرًا منفرًا أثار ذلك في نفسي الازدراء والإدبار والزهد فيما ستقول... فعليك بالأولى وإياك والثانية.
وأَعلمُ أن أحدهم سيخرج علينا بحديث: "من ترك اللباس تواضعًا لله، وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها"([2])، ونقول له: لقد احتججت بالحديث في غير موضعه؛ فهو يحث الغني الذي يستطيع شراء النفيس والغالي والفاخر من الثياب التي تلفت النظر وتكسر قلب الفقراء، أن يترك مثل تلك الثياب تواضعًا ويلبس الملابس العادية التي "لا يزدريك فيها السفهاء، ولا يعيبك بها الحكماء، ولا تجر قلبك إلى الخيلاء"، وإنما مقصدنا هنا أن يكون الخطيب مهندمًا متناسق الملابس ونظيفها ولو كانت رخيصة زهيدة الثمن، وخذها الآن نصيحة من علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إذ يقول:
أجـد الـثـيـاب إذا اكتسيت فإنـها *** زيـن الـرجـال بـهـا تـعـز وتـكـرم
ودع الـتـواضــع في الثيـاب تحوبا *** فالله يـعــلـم مــا تـجــن وتـكـتـم
فـرثــاث ثوبك لا يـزيـدك زلـفـة *** عـنــد الإلــه وأنـت عـبد مـجـرم
وبـهـاء ثـوبك لا يضـرك بعد أن *** تـخـشى الإله وتتقي ما يـحرم([3]).
ودعونا الآن نرى حال من قال هذا الحديث الذي تحتجون به، نرى حال سيد الدعاة والخطباء محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو أزهد الخلق بالدنيا، يقول البراء بن عازب: "ما رأيت أجمل من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مترجلًا في حلة حمراء"([4])، ويقول أنس: "ما شممت عنبرًا قط ولا مسكًا ولا شيئًا أطيب من ريح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا مسست شيئًا قط ديباجًا، ولا حريرًا ألين مسًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"([5]).
ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- يغضب حين يرى من أهمل مظهره من عموم المسلمين، فعن جابر بن عبد الله قال: أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرأى رجلًا شعثًا قد تفرق شعره فقال: "أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره"، ورأى رجلًا آخر وعليه ثياب وسخة، فقال: "أما كان هذا يجد ماءً يغسل به ثوبه"([6])، وعن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان له شعر فليكرمه"([7])، ونكرر إن الدعاة والخطباء هم أولى الناس بلزوم ذلك.
فكن -أيها الخطيب- رائع المظهر طيب الرائحة مرجل الشعر، متبعًا لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كلوا، وتصدقوا، والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة"([8])، ولا تصد الناس بقبيح مظهرك عن جميل كلامك ومخبرك، وإلا انطلقت ألسنتهم بالشكوى منك.
الشكوى الثانية: صدمتني حين تعاملت معك عن قرب:
يا خطيب مسجدي: لما استمعت إليك في خطبك ومواعظك ظننتك الصورة النموذجية للمسلم الحق في عباداته وسلوكه ومعاملاته، فأحببتك واتخذتك قدوة ومَثلًا أعلى، فحاولت جاهدًا أن أتقرب منك مُحبًا معجبًا أنهل من سمتك كما نهلت من علمك، وليتني ما فعلت! فإنني لما رأيت أفعالك رفضت أقوالك، لما راقبتك تُخْلِف الوعد وتنقض العهد تساقطتْ أمامي كلُ كلماتك عن الوفاء واحترام الوعود، ولما عاينتك تبخل وتكنز وتحرص أصبحت كل دعواتك إلى الإنفاق في حسي سمجة سخيفة لا قيمة لها، ولما أدهشتني ثورتك وشدة غضبك وعلو صوتك لأتفه الأمور، تساءلت متعجبًا: أين مواعظك عن الحلم والصفح وكظم الغيظ؟!... ألا تدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع"([9]).
سيدي الخطيب: دعني أقولها لك في أسف: لقد آذيتني وفتنتني، لقد أحدثت لدي انفصالًا بين الفعل والقول، فإنك وإن دعوتني إلى الفضائل بأقوالك فقد علمتني النفاق بأفعالك! فصرتُ كلما وقعت عيني عليك أتذكر قول الله -عز وجل-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)[الصف: 2-3]، بل ويتجسد أمامي قول الشاعر:
يـــــــا أيـــــــهــــا الــــــرجــــــل الــمــــعـــــلـــم غـــــــــيــره *** هــلا لــنــفــسـك كــان ذا الـتـعـلـيم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى *** كيــمـا يـصــح بــه وأنــت ســـقــيـــم
ونـــراك تصـــلــح بالــرشـــــــــاد عـــــــــــقــــــــــــولـنــا *** أبــدًا وأنـت مــن الــرشــــــاد عــديـــم
فــابــدأ بـنـــــــفـــــســـــــك فـانـهـهـا عـن غـيـهـا *** فــإذا انـتـهت عـنــه فـأنـت حـكيـــم
فـهــنــاك يـقـــــــبــــــل مــا تــــــــــــقـول ويـهـتـدى *** بـالقــول مـــــــنـك ويـنـــفــع الــتـعــــليـــم
لا تـنــــــــــــه عــــــن خــــــلــق و تــأتــي مـــثـــلـــه *** عـار عـلـيــك إذا فـعـلـت عـظـيـــم([10]).
وأخشى أن ينطبق عليك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان"([11])، فقد جعلتني الآن أتمنى أن لم أكن قد رأيتك أو عاملتك حتى يتسنى لي أن أنتفع بكلامك ولا تفتنني أفعالك! فإنه إن لم ينفعك علمك فلا أظنه ينفع مَنْ خبرك وتعامل معك، بل لعلك تقطع على من رآك الطريق إلى الله، ورحم الله ابن القيم حين قال: "علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم؛ فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم فلو كان ما دعوا إليه حقًا كانوا أول المستجيبين له! فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع الطرق"([12]).
فأنشدك الله أن تستقيم على ما تقول، كي نستقيم معك، وحتى لا تكون من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، فإن لم تفعل: فاستتر عن عيون سامعيك، أوما سمعت قول من قال: "إذا بليتم فاستتروا"، فإن أبيت هذا وذاك فاعلمْ أنني سأشكوك إلى الله يوم القيامة.
الشكوى الثالثة: أكثرت من الخلافيات حتى تخيلت أن العلماء لم يتفقوا على شيء:
فرأيتك -يا خطيب مسجدي- تكثر من قول: "اختلف العلماء فقال مالك وقال أحمد وقال غيرهما..."، حتى ترسخ لدي انطباع أن الخلاف هو الأصل في ديننا وشريعتنا، مع أن الواقع عكس ذلك!
فما يفيدني -وأنا المسلم الأمي البسيط- من سرد الخلافات على المنبر، إنها تضرني ولا تنفعني، وسأخرج من أمامك وأنا لا أدري بأي الآراء التي سردتها أعمل! وما أدراني -ومجالي الطب أو الهندسة أو التجارة- بخلافات الأصوليين التي تكثر من ترديدها! لقد جلست بين يديك مقتنعًا برأي فقهي واحد أحيا عليه، فقمت وقد شككتني فيه وما اقنعتني بسواه!
أخي الخطيب: إن المنبر أداة تجميع وتوحيد لصف المسلمين وليس معول هدم وتمزيق وبث للتناحر بينهم، أبرز المتفق عليه وجنبنا الخلافات التي لا تنفع بل تضر، وخاطبنا بما يفيدنا في ديننا ودنيانا، وإذا كنت ولا بد متكلمًا عن الخلاف فاعرض علينا أسبابه التي تسوغه، ونبهنا أن العقول والأفهام تتفاوت، وأكد على حقيقة أنه لا خلاف في الأصول وإنما هو في الفروع... كي لا يتصور السامع البسيط أو غير المتخصص أن ديننا دين الخلاف.
الشكوى الرابعة: أهنت منبرك وعلمك لما طلبت الدنيا:
وأقصد بطلبك للدنيا هنا عدة معان، أهمها معنيان:
المعنى الأول -وهو قبيح-: تطلعك إلى ما في أيدي الأغنياء وإذلالك علمك لتنال منه، فإن الغني إذا رآك طالبًا لما في يده زهد فيما تحمل من علم؛ قائلًا في نفسه: "لولا أن ما أحمل من مال أفضل مما يحمل من علم لما ترك ما معه وجاءني متضعضعًا طالبًا لما معي"! ورحم الله ابن مسعود -رضي الله عنه- حين قال: "لو أن أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله لسادوا أهل زمانهم، ولكنهم وضعوه عند أهل الدنيا لينالوا من دنياهم فهانوا عليهم"([13]).
نقول: صدق ابن مسعود -والله-، وهذي واقعة يحكيها إمام دار الهجرة تؤكد كلامه، يقول الإمام مالك: "وجه إليَّ الرشيد أن أحدثه، فقلت: يا أمير المؤمنين إن العلم يؤتى ولا يأتي، فصار إلى منزلي فاستند معي على الجدار، فقلت له: يا أمير المؤمنين إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم، فقام فجلس بين يدي، قال: فقال بعد مدة: يا أبا عبد الله تواضعنا لعلمك فانتفعنا به، وتواضع لنا علم سفيان بن عيينة فلم ننتفع به"([14]).
وكيف لك -أيها الخطيب- وأنت تُعلِّم الناس قدْر الدنيا وتنقل إليهم حديث سهل بن سعد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بشاة ميتة شائلة برجلها، فقال: "أترون هذه هينة على صاحبها؟ فوالذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه على صاحبها، ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرًا منها قطرة أبدًا"([15])، فكيف لك بعد ذلك أن تلهث وراء لعاعة منها! إنك إذًا تحمل لمدعويك الداء لا الدواء، يقول سفيان الثوري: "العالم طبيب هذه الأمة، والمال الداء، فإذا كان الطبيب يجر الداء إلى نفسه كيف يعالج غيره؟!"([16]).
المعنى الثاني -وقد يكون لك فيه عذر-: طلبك الرزق بالعمل في مهنة لا تليق بخطيب الجمعة، فمع أننا لا نحقر من مهنة حلال، إلا أنه لا ينبغي لمن أراه فوق رءوس الناس يوم الجمعة يأمرهم وينهاهم أن أراه بعدها يخصف أحذيتهم في محل لتصليح الأحذية! أو يحمل متاعهم وحاجياتهم في متجر للبضائع! أو يصلح سياراتهم في مكان لصيانة السيارات!...
أَعلمُ أن هذه المهن ضرورية للمجتمع وأن الجميع سيقع في العسر إن لم يقم بها أحد، ولكن -يا خطيبنا- ليقم بها غيرك، أما أنت فمقامك مقام النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونحسبك من ورثته من العلماء، ولا نقول لك: لا تعمل، بل اعمل -إن شئت- ولكن فيما يناسب قدرك وقدر المنبر الذي تعتليه.
وقد تكون مضطرًا لذلك العمل لزيادة دخلك وكفالة عيالك وإعفاف نفسك عن ذل السؤال، ولكن ألا تحسن غيره؟! وإن لم تكن تحسن سواه، ألا تتعلم مهنة أو تجارة غيرها من أجل دعوتك! هب أن حرفتك قد بارت وكسدت أما كنت لتقتحم مجالًا آخر من أجل الحصول على المال، فلما لا تفعلها من أجل نجاح دعوتك!
ولمعترض أن يحتج بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم"، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: "نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة"([17])، ودعني أجيبه فأقول: أولًا: لم يكن رعي الغنم من المهن المحتقرة من عموم الناس في مكة في زمان النبي -صلى الله عليه وسلم-... ثانيًا: وهل رعى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد نبوته! بل ما رعاها إلا في طفولته ومقتبل شبابه ثم اشتغل -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك بالتجارة... ثالثًا: لقد كان رعيه -صلى الله عليه وسلم- إرهاصًا لنبوته؛ بدليل الحديث الذي سقتموه: "ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم" وهو -صلى الله عليه وسلم- من الأنبياء، رابعًا: لما قدَّر الله -عز وجل- لنبينا -صلى الله عليه وسلم- أن يسوس البشر، فقد علَّمه -تعالى- ودرَّبه على ذلك بسياسة الغنم التي من طبعها أن تشرد، فكانت المصلحة تقتضي اشتغاله -صلى الله عليه وسلم- بهذه المهنة...
([1]) تفسير النسفي (1/564)، الناشر: دار الكلم الطيب، بيروت، الطبعة: الأولى، 1419 هـ.
([2]) الترمذي (2481)، والحاكم (206) واللفظ له، وصححه الألباني (الصحيحة: 718).
([3]) الجامع لأخلاق الراوي، للخطيب البغدادي (1/382)، الناشر: مكتبة المعارف - الرياض.
([4]) ابن ماجه واللفظ له (3599)، والحديث في الصحيحين: البخاري (3551)، ومسلم (2337).
([5]) البخاري (3561)، ومسلم (2330).
([6]) أبو داود (4062)، وابن حبان (5483)، وصححه الألباني (الصحيحة: 493).
([7]) أبو داود (4163)، والطبراني في الأوسط (8485)، وصححه الألباني (الصحيحة: 500).
([8]) النسائي (2559)، وذكره البخاري في صحيحه بدون سند، وحسنه الألباني (صحيح وضعيف سنن النسائي).
([10]) انظر: أدب الدنيا والدين، للماوردي (1/34)، الناشر: دار مكتبة الحياة، تاريخ النشر: 1986م.
([11]) أحمد (143)، والبزار (3514)، وصححه الألباني (الصحيحة: 1013).
([12]) الفوائد، لابن القيم (61)، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الثانية، 1393هـ.
([13]) الآداب الشرعية، لابن مفلح المقدسي (2/48)، الناشر: عالم الكتب.
([15]) ابن ماجه (4110)، والحاكم (7847)، وصححه الألباني (الصحيحة: 686).
التعليقات