عناصر الخطبة
1/ منزلة ذكر الله تعالى 2/ من فضائل الذكر والذاكرين 3/ بعض الأذكار المخصوصة وبيان فضلها 4/ يُسر عبادة الذكر 5/ حاجتنا للتذكير بقيمة الذكراقتباس
وثَمَّةَ طريقٌ سهلٌ من طرقِ الآخرة طالما غَفَل عنه نفرٌ من المسلمين، وهناك عبادةٌ ميسَّرة وعظيمةُ الأجرِ طالما زهدَ فيها نفرٌ من المسلمين، إنها عبادةُ "الذِّكرِ لله"؛ يَصِلُ بها الذاكرُ إلى درجاتِ المجاهدين، بل يفوق! وإلى درجاتِ المنفقين والمتصدِّقين، بل تزيد! يقول -عليه الصلاة والسلام-: "ألاَ أنبِّئُكم بخيرِ أعمالِكم وأزكاها عندَ مَلِيكِكم، وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٌ لكم من إنفاقِ الذهب والوَرِقِ، وخيرٌ لكم من أن تَلقَوْا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويَضرِبوا أعناقَكم؟ ذِكرُ اللهِ" رواه الترمذي وابنُ ماجه والحاكم بسند صحيح.
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ العليِّ الأعلى، أحمدُه -تعالى- وأشكرُه وله الأسماءُ الحُسْنى والصفاتُ العُلى، وأشهدُ أن لا إله إلا هو بذِكْرِه تطمئنُّ القلوب، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه خيرُ الذاكرين وخيرُ الشاكرين، وما زال لسانُه رطباً بذِكْرِ الله حتى لحقَ بالرفيقِ الأعلى.
اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين، والتابعين، ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:1-2]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:35].
عبادَ الله: كم نُفرِّط في ثواب الآخرة وهو عظيم، والآخرة خيرٌ وأبقى! (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64]، وكم نُجهِدُ أنفسَنا في سبيلِ حُطابِ الدنيا! واللهُ يقول: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20].
والفرقُ كبيرٌ بين مُريدِ العاجلةِ ومُريدِ الآخرة، وعنهما قال ربُّنا: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء:18-19].
أيها المسلمون: وثَمَّةَ طريقٌ سهلٌ من طرقِ الآخرة طالما غَفَل عنه نفرٌ من المسلمين، وهناك عبادةٌ ميسَّرة وعظيمةُ الأجرِ طالما زهدَ فيها نفرٌ من المسلمين، إنها عبادةُ "الذِّكرِ لله"؛ يَصِلُ بها الذاكرُ إلى درجاتِ المجاهدين، بل يفوق! وإلى درجاتِ المنفقين والمتصدِّقين، بل تزيد! يقول -عليه الصلاة والسلام-: "ألاَ أنبِّئُكم بخيرِ أعمالِكم وأزكاها عندَ مَلِيكِكم، وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٌ لكم من إنفاقِ الذهب والوَرِقِ، وخيرٌ لكم من أن تَلقَوْا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويَضرِبوا أعناقَكم؟ ذِكرُ اللهِ" رواه الترمذي وابنُ ماجه والحاكم بسند صحيح.
أجل، إن الذِّكرَ بشهادةِ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- خيرُ الأعمالِ وأزكاها عند الملِك العلاَّم، وأعظمُها في رِفْعةِ الدرجات.
هل يُعجِزُك -يا أخا الإسلامِ- أن تقولَ: سبحانَ اللهِ وبحمدِه؟ وهل تدري أنَّ هؤلاء الكلماتِ المعدوداتِ طريقٌ لمغفرةِ الذنوبِ والخطايا مهما عَظُمَت؟ وفي صحيح البخاري وغيره: "مَن قال: سبحانَ الله وبحمدِه، في يومٍ مائةَ مرةٍ حُطَّت خطاياه وإنْ كانت مثلَ زَبَدِ البحرِ".
يا أخا الإيمان، ويا مَن تبحثُ عن الحمايةِ والتحرُّزِ من الشيطان: أنت واجدُه في ذِكرْ الله، وواجدٌ معه مزايا ومِنَحاً ربانيةً أُخرى، وفي الحديث المتفق على صحته، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن قال: لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، في يومٍ مائةَ مرةٍ، كانت له عَدْلَ عشرِ رقابٍ، وكُتِبتْ له مائةُ حسنةٍ، ومُحِيَتْ عنه مائةُ سيئة، وكانت له حِرزاً من الشيطانِ يومَه ذلك حتى يُمسيَ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاء به إلا أحدٌ عَمِلَ أكثرَ من ذلك".
أيها المسلمون: إن الذِّكرَ حِرزٌ وأمانٌ، وحِصن وسِيَاج. وهل يخفى أن للسفرِ أذكاراً، وللمنزلِ دخولاً أو خروجاً أذكاراً، وللأكلِ والشربِ والنوم والاستيقاظ أذكاراً، وعند نزولِ المنزل، وعند قضاءِ الحاجة وعند إتيانِ الرجلِ أهلَه؟ كلّ ذلك وسواه من الأحوالِ له أذكارٌ تَحفَظُ وتُبارِك، والموفَّق من عَلِمَ فعَمِل، وما زال لسانُه رَطْباً بذِكْر الله بُكْرةً وعشيًّا، ذلك نداءُ الرحمن لأَهلِ الإيمان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الأحزاب:41-42].
أيها المسلمون: كم تَضِيقُ الصدورُ أحياناً وكم تمرضُ قلوبُنا أحياناً، ثم نظلُّ نبحثُ عن العلاجِ المكافحِ للضِّيقِ والقلقِ هنا وهناك، وأعظمُ علاجٍ للقلوبِ ذِكرُ الله، وتلك شهادةُ الذي خَلَقَ وهو أعلمُ بمن خلق: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].
نعم، إنَّ المكروبَ يجدُ في ذِكْر الله ما يفرِّجُ عنه كُربتَه، وفي ذِكْر الله إنقاذٌ حين يغيبُ المنقذون: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:87-88].
والمريضُ يجدُ في ذِكْر الله ما يُسرِّي عنه ويخفِّف آلامَه، والغريبُ يجدُ في الذِّكر إيناساً له وتخفيفاً لآلام غُرْبته، إن الذِّكْر يجعلُ من القليلِ كثيراً ومن الضعيفِ قوياً، ييسِّر العسير ويخفِّفُ المَشَاقَّ، ومن شكَّ فليُجرِّبْ مع استحضارِ عَظَمةِ الله حالَ الذِّكر، والثقةِ بعونِه وتفريجِه.
والمرأةُ تجدُ في ذِكْر الله عوناً لها على مسؤولياتِها، وهذه فاطمةُ بنت محمد -صلى الله عليه وسلم- شَكَتْ ما تلقى من أثرِ الرَّحا، فانطلقتْ حين علمتْ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أتاه سَبْيٌ لتأخذَ منه خادماً لها، فلم تجدْ أباها ووجدتْ أمَّ المؤمنين عائشةَ -رضي الله عنها- فأخبرتها بحاجَتِها، فلما جاء النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أخبرته عائشةُ بمجيءِ فاطمةَ، فجاء النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى بيتِ عليٍّ وفاطمة وقد أخذا مضجعَهما، فقعدَ بينهما ثم قال: "ألا أعلِّمُكما خيراً مما سألتُماني؟ إذا أخذتُما مضاجعَكما فكَبِّرا أربعاً وثلاثين، وسبِّحا ثلاثاً وثلاثين، وتَحمَّدا ثلاثاً وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادمٍ".
يا أخا الإسلامِ: وحين تضيقُ عليك الدنيا، وتَقِلُّ ذاتُ يدِك، فلا مالَ عندَك ولا عَقَار، فاعلمْ أن بإمكانك أن تعوِّضَ بالذِّكْر ما فاتك من الدنيا؛ لتزرعَ ما شئتَ للآخرة.
وفي وصيةِ إبراهيمَ لمحمدٍ -عليهما الصلاة والسلام- ليلةَ الإسراءِ والمعراجِ، قال إبراهيمُ: "يا محمدُ، أَقْرِئ أُمتَك مني السلامَ، وأخبِرْهم أنَّ الجنةَ قيعانٌ، وأنها طيِّبةُ التربةِ عَذْبةُ الماء، وأن غِراسَها: سبحانَ اللهِ، والحمدُ لله، ولا إله إلا اللهُ، واللهُ أكبر" رواه الترمذيُّ وحسَّنَه.
فأينَ الذين يَغرِسون بالذِّكْر اليومَ ما يغتبطون له غداً في الجنةِ؟ وغرسُ الآخرةِ لا مُنازعَ له ولا مانعَ منه، بل هو فضلُ الله يؤتيهِ مَن يشاء.
يا عبدَ الله: وإذا وفَّقكَ اللهُ للذِّكْر في سحابةِ النهار، وحين تكونُ يقظانَ، فلا تفرِّط في الذِّكر حين يَجِنُّ الليلُ وتستيقظُ من النوم، وإليك هذا الحديث النبويّ فاعقِلْه واعملْ به، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَن تَعارَّ من الليلِ -يعني استيقظ- فقال: لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له المُلْكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، الحمدُ لله، وسبحانَ الله، ولا إله إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، ثم قال: اللهمَّ اغفِرْ لي، أو دعا استُجيِب له، فإن توضَّأَ وصَلَّى قُبِلَت صلاتُه" رواه البخاري.
يا أخا الإسلام: وبشكلٍ عامٍّ فالذِّكرُ عبادةٌ ميسَّرة، وهي ذاتُ مكارمَ وفضائلَ، والمغبونُ من كان نصيبُه من الذِّكر قليلاً، لا سيَّما والذكرُ لا يحتاجُ إلى تفرُّغٍ، بل يمكنُ للعامل أن يذكرَ الله وهو يزاول مهنتَه، والموظف بإمكانه أن يذكرَ الله دون أن يؤثِّر على وظيفتِه، وهكذا وهو يقودُ سيارتَه أو بين أهلِه وأولاده، بل تستطيعُه المرأةُ وهي تزاولُ عملَ بيتِها، لا يحتاجُ الذِّكرُ إلى طهارةٍ، ولا وقتَ يُنهَى فيه عن الذِّكر، بل يُمارَسُ في كلِّ حينٍ، حتى وهو مستلقٍ على فراشِه. وما أجملَ المرءَ يغيبُ عن الحياةِ ويودِّعُ الدنيا بالنوم وهو ذاكرٌ لله، ثم يستقبلُ الحياةَ بالاستيقاظ بذِكْر الله!.
وهل علمتَ أن الذِّكرَ من أحبِّ الأعمالِ إلى الله وأكبرِها عندَ الله؟ قال -تعالى-: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت:45]، وقد سأل معاذُ بن جبلٍ -رضي الله عنه- رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله -عز وجل-؟ قال: "أن تموتَ ولسانُكَ رطبٌ من ذِكْرِ الله -عز وجل-" أخرجه ابن حبان والبزار.
وفي الذِّكر تعويضٌ عما يَفُوتُ المرءَ من صدقةٍ وحجٍّ وعمرةٍ وجهاد، كما في حديثِ فقراءِ المهاجرين الذين جاؤوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقولون: ذهبَ أهلُ الدُّثورِ بالدرجاتِ العُلى والنعيمِ المقيم. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "وما ذاكَ؟"، قالوا: يُصلُّون كما نصلّي، ويصومون كما نصومُ، ولهم فضلُ أموالِهم يحجّون بها ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدَّقون! فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أُعلِّمُكم شيئاً تُدرِكون به من سَبَقَكم وتَسبِقُون به مَن بعدَكم، ولا أحدَ يكون أفضلَ منكم إلا من صَنَع ما صنعتُم؟". قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "تُسبِّحون وتَحمَدُون وتكبِّرون خلفَ كلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين" متفق عليه.
وحَسْبُ الذاكرين اللهَ كثيراً والذاكراتِ أنَّ الله وعدَهم مغفرةً وأجراً عظيماً، كما قال -تعالى- في آخرِ آيِة الأحزاب: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب:35].
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، هو الحيُّ لا إله إلا هو فاعبدُوه مُخلِصين له الدِّين، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ولو أنَّ السماواتِ السبعَ وعامرَهنَّ غير الله والأرَضِينَ السبعَ وُضِعتْ في كِفّة، ولا إله إلا الله في كفةٍ، لرجحتْ بهنَّ لا إله إلا الله.
وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسوله، مَن صلَّى عليه صلاةً صلَّى اللهُ عليه بها عشراً، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
إخوةَ الإسلام: هنيئاً للذين لا تزالُ شفاهُهم تتحرَّك بذِكْرِ الله في حالِ خَلْوتِهم أو في حال اجتماعِهم مع الناس، وهنيئاً للذين يَعقِدون أناملَهم بالتسبيحِ والتحميدِ والتكبير والتهليل في حالِ إقامتِهم أو سفرِهم.
إن أُولي الألبابِ هم الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبِهم، والمؤمنون حقاً هم الذين إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قلوُبهم، والذين آمنوا هم الذين تطمئنُّ قلوبُهم بذِكْر الله، وفَرْقٌ بين هؤلاء وبين مَنْ إذا ذُكِرَ اللهُ وحدَه اشمأزَّت قلوبُهم وإذا ذُكِر الذين من دونِه إذا هم يستبشرون.
أجل يا عبادَ الله، إن المصلِّين أكثرُ الناس ذِكراً لله وتلاوةً واستغفاراً، كيف لا وفي الصلاة ذِكرٌ ودعاءٌ وتسبيحٌ وتهليل وتكبير وتحميدٌ؟ بل لقد سمَّى اللهُ الصلاةَ ذِكراً، كما في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الجمعة:9].
أمّا المنافقون فهم أضعفُ الناسِ وأقلُّهم للهِ ذِكراً، (وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء:142]؛ لأنهم إذا قاموا إلى الصلاةِ قاموا كُسالى.
عبادَ الله: كم هو عظيمٌ عندَ الله أن يتذكَّرَ المرءُ عَظَمةَ الله، ويذكرَ آلاءَه ونعمَه؛ فيخشع قلبُه لذِكْر الله، وتفيض عيناهُ بالدموع حيث لا يراهُ إلا الله، وأحدُ السبعةِ الذين يُظلُّهم الله في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه رجلٌ ذكرَ الله خالياً ففاضتْ عيناه، وربُّنا في محكم التنزيل يقول: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) [الأعراف:205].
وكم هو عظيمٌ كذلك أن يُذكِّر المرءُ بذكر الله فيَذكرَ اللهَ في حالِ اجتماع الناس ليذكِّرَهم بالله، وكفى أولئك فخراً أن الله يَذكُرهم في ملأٍ خيرٍ من الملأ الذين ذكروا اللهَ عندهم، ذلك وعدٌ غيرُ مكذوب: "مَن ذَكَرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خيرٍ منهم"، (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152].
وما أعظمَ الأمرَ حين يشاهِدُ المرءُ خَلقاً عظيماً أو صُنعاً عجيباً في الكون فيذكِّرُه ذلك بمَن خلقَ العظيم ومن صنَع العجيب! ومِن عجبٍ أن نعجبَ أحياناً من الطائرة في جوِّ السماء وننسى عظمةَ مَن خلقَ السماء وأمسك السماواتِ والأرضَ أن تزولا! وهل من قادرٍ على إمساكِهما لو زالتا؟ كلاَّ بل هو اللهُ العزيزُ الحكيم.
يا أخا الإيمان: وإذا أثقلتْكَ الخطايا وتلبَّستَ بالمعاصي وأحسستَ بالذنْبِ فعليك بالذِّكر فهو كفَّارةٌ للخطايا، وفي صحيحِ الأدب المفرَد للبخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ غصناً فنفضَه فلم ينتفضْ، ثم نفضَه أخرى فلم ينتفضْ، ثم نفضَه فتحاتَّتْ ورقُها، ثم قال: "إنَّ سبحانَ الله والحمد لله ولا إله إلا الله تَنفُضُ الخطايا كما تنفضُ الشجرةُ ورقَها" صحيح الأدب المفرد.
وهل سمعتُم بحديثِ البطاقة وما فيه من عَظَمةِ الذِّكر وعدلِ ربِّ العالمين؟ فقد روى الترمذيُّ وحسَّنه والنَّسَائيُّ والحاكمُ وصححه ووافقه الذهبيُّ مرفوعاً: "يُصَاحُ برجلٍ من أمتي على رؤوسِ الخلائقِ يومَ القيامة فيُنشَرُ له تسعةٌ وتسعون سجلاً، كلّ سِجِلٍّ فيها مدَّ البصرِ، ثم يقال: أتُنكِر من هذا شيئاً؟ أظلمَك كَتَبَتي الحافظون؟ فيقول: لا يا ربِّ، فيقال: أفَلكَ عُذرٌ أو حسنةٌ؟ فيهابُ الرجلُ فيقول: لا، فيقال: بلى، إنَّ لكَ عندنا حسنةً، وإنه لا ظلمَ عليك اليومَ فيُخرَجُ له بطاقةٌ فيها: أشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدُه ورسولُه، فيقول: يا ربِّ، ما هذه البطاقةُ مع هذِه السِّجِلاّتِ؟ فيقال: إنك لا تُظلَمُ، فتوضَعُ السجلاتُ في كفَّةٍ والبطاقة في كفةٍ فطاشت السجلاتُ وثَقُلَت البطاقةُ".
قال ابنُ القيِّم -رحمه الله-: فالأعمالُ لا تتفاضلُ بصُوَرِها وعددِها، وإنما تتفاضلُ بتفاضلِ ما في القلوب، فتكون صورةُ العملينِ واحدةً وبينهما من التفاضل كما بينَ السماءِ والأرض. اهـ.
ألا فاستحضِروا عظَمَة الله حين تذكرونه، وأحْيُوا قلوبَكم بذِكْره، وإياكم وترانيمَ الأَذكارِ البِدْعيةَ، دون وعيٍ لما يقال، ولا تأثُّرٍ بالأذكار، كما يفعلُ المتصوِّفة.
يا أخا الإسلام: عوِّد نفسَك على ذِكْر الله ذكراً كثيراً، وذكِّرْ به مَن حولَك، فالذِّكرى تنفعُ المؤمنين، وإياكَ أن تكونَ في عِدادِ الموتى وأنت بَعدُ على قيدِ الحياة! فالفرقُ بينَ من يَذكُرُ اللهَ ومن لا يذكرُ الله كالفرقِ بين الحيِّ والميتِ، والناصحون يقولون لك: عُدْ إلى حديثِ الأذكارِ وتأمَّلْ فضلَها واحفظْ واعملْ بما تيسَّرَ لك منها، وستجدُ الطمأنينةَ والسعادةَ والحفظَ والعونَ في الدنيا، وستجدُ الجزاءَ الأكبرَ يومَ تلقى الله، ولا تكنْ حصيلتُك من الموعظةِ مجرَّدَ سماعها.
وما أعظمَ البيوتَ حين تُعمَر بذِكْر الله! بل وما أعظمَ الأماكنَ العامةَ والمؤسساتِ حين يعلو بها ذِكرُ الله!.
كم نحتاجُ للتذكير بقيمة الذِّكر في وسائل الإعلام ومناهجِ التعليم، وفي المحاضراتِ والنَّدَوات، وفي الخُطَب والمناسبات، في البرِّ والبحرِ وفي جوِّ السماء، بل هناك مَن يرى أنَّ ثوابَ الذِّكر يصلُ الموتى.
تلك ذكرى والذِّكرى تنفعُ المؤمنين، ومن تزكَّى فإنما يتزكَّى لنفسِه، لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قدير.
سبحانَ الله وبحمدِه، عددَ خلقِه، ورضاءَ نفسِه، وزِنَةَ عرشِه، ومِدادَ كلماتِه.
التعليقات