اقتباس
ومن أكرمه الله فاعتاد على طاعة يبتغى بها وجه الله، ثم تركها، فقد خالف هدي النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، الذي كان "إذا عمل عملًا أثبته"، والذي "كان عمله ديمة"، والذي عاب على كل من اعتاد طاعة ثم فرَّط فيها، فقال لعبد الله بن عمرو: "لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل، فترك قيام الليل"...
رمضان سوق قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر... فربح من صامه وقامه وأخلص فيه لله -عز وجل- أعماله وأقواله، ربح فيه من اتخذ من القرآن والصيام شفيعين له؛ فختم القرآن لله تلاوة وتدبرًا وتجويدًا وعملًا، وصام الشهر لله -تعالى- إيمانًا واحتسابًا، ربح فيه من أخرج الصدقات بعد أن أتم الزكوات، وأطعم الفقراء والمساكين، وفطَّر الصائمين، فاز من أدرك ليلة القدر فأعتق الله رقبته من النار... وخسر فيه من فرَّط وقصَّر، وتكاسل وأدبر، وتغافل وتشاغل، وعمى وغوى وانغمس في الشهوات والنزوات، خسر فيه من اتبع القنوات الفضائية الماجنة وبرامجها التافهة، خسر فيه من ضيَّع أجر الصيام بالمعاصي والذنوب وإطلاق البصر واللسان، خسر فيه من تكاسل وتوانى وقعد وفتر وفتن نفسه وتمنى على الله الأماني، خسر من بخل بما وهبه الله وانتهر المسكين والسائل والمحروم، خسر من فوَّت الفرضة وأضاع الليالي والأيام وعاش في الأوهام والأحلام... وإننا والله لا ندري، وقد ابتلينا في رمضان هذا بما ابتلينا، من منا الفائز فنزف إليه التهاني والتبريكات، ومن منا الخاسر فنوجِّه إليه التعازي والمواساة؟!... لا ندري من هو المقبول، ومن هو المحروم، لكن هناك أمارات وعلامات للقبول، فمن وجدها وأحس بها ولمسها فعسى أن يكون عند الله -تعالى- ممن قَبِلَ صيامهم وقيامهم وقرباتهم -جعلني الله وإياكم منهم-، ومن أبرز تلك العلامات والأمارات: المداومة على الطاعة، وعدم الانقطاع عنها بعد رمضان: وقد قالوا: "ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل"، فقد تعودنا في أيام رمضان ولياليه على عبادات وقربات وطاعات، فمن داوم عليها وأدامها فنسأل الله -تعالى- أن يكون عنده من المقبولين، ومن ضيَّعها وفرَّط فيها فنخاف عليه أن يكون من المخذولين المردودين. فمن اعتاد على الصيام، قلنا له: إن كان صيامك هذا لله، فأول أمارات ذلك أن تصوم ستًا من شوال، فهذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال، كان كصيام الدهر"(مسلم)، ثم الأمارة الثانية أن يحافظ على صيام الاثنين والخميس طوال العام، أو على الأقل أن يصوم الثلاثة البيض من كل شهر هجري، فعن ربيعة بن الغاز أنه سأل عائشة عن صيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "كان يتحرى صيام الاثنين والخميس"(ابن ماجه)، وعن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت: "صوم ثلاثة أيام من كل شهر..."(متفق عليه). ثم قل مثل ذلك في كل طاعة من الطاعات، فقيام الليل مستحب طوال العام، وليس فقط في رمضان، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم يصلي حتى ترم قدماه -أو ساقاه- فيقال له، فيقول: "أفلا أكون عبدًا شكورًا"(متفق عليه)... وكذا الانفاق والإطعام والصلة... دُمْ عليها حتى تلقى مولاك -عز وجل- كما أمرك: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99]. ** ومن أكرمه الله فاعتاد على طاعة يبتغى بها وجه الله، ثم تركها، فقد خالف هدي النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، فهذه أم المؤمنين عائشة تذكر حاله -صلى الله عليه وسلم- فتقول: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا عمل عملًا أثبته"(مسلم)، وتحكي عن شأنه مع عمله -صلى الله عليه وسلم- فتقول: "كان عمله ديمة..."(متفق عليه)، وقد عاب -صلى الله عليه وسلم- كل من اعتاد على طاعة ثم فرَّط فيها، فقال لعبد الله بن عمرو بن العاص: "يا عبد الله، لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل، فترك قيام الليل"(متفق عليه). ولو سألت عن أحب الأعمال إلى الله -تعالى-؟ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يجيب: "أدومها وإن قل"(متفق عليه)، وهي نفسها أحبها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما تشهد بذلك عائشة فتقول: "كان أحب العمل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يدوم عليه صاحبه"(متفق عليه). *** والمؤمن الحق والمقبول بصدق هو من يحمل همَّ القبول، ويخاف ألا يكون عند الله من المقبولين، يقول معلى بن الفضل: "كانوا يدعون الله -تعالى- ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ويدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم"(ينظر: لطائف المعارف، لابن رجب الحنبلي). وقد قال العلماء: "الخوف من عدم القبول، علامة من علامات القبول"، فقد قرأت أم المؤمنين عائشة قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)[المؤمنون: 60] فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم-: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ فقال: "لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا تقبل منهم: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون: 61]"(الترمذي). *** فاليوم ليس يوم ختام طاعة انقضت، بل اليوم يوم مواصلة طاعة لا تنقطع، والمداومة على العبادة، اليوم يوم التقرب من الله، وسؤاله -عز وجل- أن يبلغنا رمضان أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة... واليوم يوم التضرع إلى الله -تعالى- أن يرفع الكرب، ويزيل الغمة، ويُذهِب البلاء، ويحصر الوباء، ويُنزل العافية، ويأتي بالفرج القريب، ويُسلِّم بلاد المسلمين ورجال المسلمين ونساء المسلمين وأطفال المسلمين من كل مكروه وسوء، وأن يُحسِن عاقبتنا في الأمور كلها ويجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، إنه خير المسئولين. *** وفيما يلي طائفة منتقاة من خطب خطبائنا الواعين العارفين، تحث على مواصلة الطاعات وألا نكون كتلك التي: (نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا)[النحل: 92]، ولا كهؤلاء الذين: (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا)[إبراهيم: 28]، ولا كمن عصى بعد الطاعة فأبطل ما قدَّم من طاعة، وخالف أمر الله: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)[محمد: 33]... فإليك خطبهم فلتغتنم:
التعليقات