اقتباس
الحرص على تلقي العلم على يد أهله وعلمائه والمتخصصين فيه، وترك الاعتماد على النفس في التحصيل والطلب، والتزام حلق العلم ومزاحمة الركب بين يدي الشيوخ والعلماء لسماع العلم من مصادره الأصلية والعارفين به، بهذا يعرف العلم وينشر الخير ويفهم النص، وبدونه يخبط الناس خبط العشواء، ويقتحمون أبواب العلم بخير خطام ولا زمام، وكما...
أخرج الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى قتلى أحد فصلى عليهم بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع إلى المنبر فقال: " أنا بين أيديكم فَرَطٌ، وأنا شهيد عليكم، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، ألا وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها " فقال عقبة - رضي الله عنه - فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فالدنيا مليئة بالفتن والملهيات والعوائق والعقبات التي تعترض طريق السالكين فيها والعابرين فوق قنطرتها، ولقد وُضِعَ الشرُ كله في بيت له مفتاح اسمه حب الدنيا والركون إليها، وكلما توالت الأجيال، وتقارب الزمان صار الناس من سيء إلى أسوأ، وكثرت الفتن باستحداث الجديد منها كل يوم، حتى أصبحت مثل موج البحر العاتي تلطم المؤمنين كل يوم لطمات جديدة، لا تدع بيتا ولا أرضا ولا نفسا إلا نزلت بها وحلت بساحتها، فهي كما وصفها الحبيب صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما الذي قال فيه: أشرف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أُطُم من آطام المدينة، ثم قال: " هل ترون ما أرى ؟ إني أرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر " والمعنى كما قال النووي - رحمه الله - يفيد العموم والكثرة والشيوع، بحيث لا تختص بها طائفة دون طائفة، كما قال الله - عز وجل - ( واتقوا فتنة لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة ) [ الأنفال: 25 ]، حتى صارت الفتن من كثرة شيوعها وانتشارها هي الأصل في هذه الحياة الدنيا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة " أخرجه ابن ماجة.
من أجل ذلك اشتدت عناية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوصف الفتن وأنواعها ومظاهرها وعلاماتها والتحذير منها وبيان كيفية النجاة من حبائلها، وأطال في تحديث أصحابه عنها حتى أفردت دواوين السنة أبوابا منفردة للفتن، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما وكان من أكثر الصحابة راوية لأخبار الفتن: " قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاما ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه. قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته، فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه "، " وإني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة ".
وثمة علاقة وثيقة بين ارتفاع معدلات الفتن وبين زيادة اغتراب المؤمنين والصالحين، فأزمنة الفتن هي بعينها أزمنة الغربة التي قال عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -: " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ "، فالمسلم الصادق المستمسك بدينه يلمس هذه الغربة في حياته كلها، فغربة في العقيدة حيث قل من يتمسك بعقيدة السلف من جميع جوانبها، وغربة في التحاكم إلى شرع الله، حيث أصبح من يدعو الناس لتطبيق الشريعة إما متاجرا بالدين أو متطرفا أو إرهابيا !!، وغربة في الالتزام بسنن الهدي الظاهر، غربة في السلوك والأخلاق الفاضلة، غربة في الدعوة إلى الحق، حتى غربة في أهل العلم العاملين بهذا الداعين الذين لا يخشون أحدا إلا الله، وإن أشد ما يخشى على المسلم في أزمنة الغربة ثلاثة مظاهر من الفتن:
1 ـ فتنة الشبهات، حيث كثر من يتأثر بها وبأهلها، وذلك بسبب شيوع الجهل، وقلة العلم والعلماء، مما يحصل معه السقوط في أفخاخ الشبهات، سواء كانت في العقائد أو الأعمال، وتسويغ الخروج على الشرع ربما بشبهة من نصوص شرعية.
2 ـ فتنة الشهوات التي طمت وعمت على البلاد والعباد، بسبب انفتاح الدنيا واتساعها وكثرة زخارفها، فلا يكاد يستقيم على أمر الله - عز وجل - مع هذه الضغوط الرهيبة للشهوات إلا من رجم ربي، وقليل من هم.
3 ـ فتنة اليأس، والقنوط من ظهور الحق وانتصاره، في زمان تكالب فيه أعداء الأمة عليها وتسلطوا وتمكنوا منها، حتى صار المؤمنون وأهل الحق غرباء أسرى مضطهدين في أوطانهم، مما أدى ببعض الدعاة لترك الدعوة والعمل لله بدعوى أنه لا فائدة، القلب لا يحتمل أن إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين، تهتف لهم الدنيا، وتصفق لهم الجماهير، وتتحطم في طريقهم العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد، وتصفو لهم الحياة، في حين أن الصالحين والمخلصين مهملون منكسرون، لا يشعر بهم أحد، ولا يحامي عنه أحد، ولا يشعر بقيمة ما عنده وعليه من الحق إلا القليلون من أمثاله، عندها تكون الفتنة أشد وأقسى، ولا يثبت إلا من عصمه الله - عز وجل -.
في هذه الأزمنة ؛ أزمنة الغربة وغلبة وشيوع الفتن لابد أن يكون للخطاب الدعوي أولويات ومرتكزات ينطلق منها، تكون بمثابة القواعد الأساسية واللبنات الأولى في بناء الدعوة التي يجب البدء بها والحفاظ عليها، من أهم هذه الأولويات والمرتكزات:
أولا: تزكية النفوس وتطهير القلوب:
فالعناية بالقلب، ومراقبة أحواله، والحذر من تقلباته، والوقوف على آفاته ومزالقه لهو من آكد أولويات الخطاب الدعوي للدعاة في هذه الأوقات، فالقلب هو الملك، والأعضاء جنده المؤتمرون بأمره وطوع إشارته، فمنه تكتسب الاستقامة أو الزيغ والضلالة، فصلاح العبد وفساده موقوف على قلبه، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب "، ولخطورة أمر القلب ذكره الله - عز وجل - في أكثر من مائة وثلاثين موضعا في كتابه العزيز، فالمدار والاعتماد على القلب في الثواب والعقاب، والفلاح والهوان، العزة والذلة، والرفعة والدونية، والتفاضل بين العباد إنما يكون بحسب ما وقر في قلوبهم من التقوى التي محلها ومستودعها القلب. وقد بيّن لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يتعرض هذا القلب للابتلاء والاختبار المستمر بتعرضه للفتن والشدائد، ففي الحديث: " تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت في قلبه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت في قلبه نكتة بيضاء ..... " والتعبير النبوي بصيغة المضارع يفيد استمرار تعرض القلب لغزوات الفتن، وهذا يعني أن مسألة تطهير القلب ومراقبة أحواله ومداومة تزكيته مسألة دائمة لا حد لها تنتهي عنده، من ثم فأي أحد يدعي أنه قد استكمل نقاوة قلبه وأتم تطهير نفسه، فدعواه مردودة مرفوضة بنص الحديث وبمشاهدات الحياة، فكثير منا يعايش الوسائل التي تحكم الإيمان في عمله، في دراسته، في طريقه ومع من يخالطهم، ثم هو لا يلتفت إلى قلبه ولا يراعيه بأوراد الطاعة والإيمان وترياق التوبة، لذلك كان على متعين على كل داعية أن يبدأ خطابه الدعوي في أوقات الفتن وأزمنة الغربة بالتركيز على تزكية النفوس وتطهير القلوب، فهي حجر الأساس وعمود الخيمة التي يقام عليه بناء الإيمان الذي يحمل الإنسان ويقوي دفاعاته أمام هذا الغزو الذي لا ينقطع من صنوف الفتن من الشبهات والشهوات.
فإذا رأي العبد يوما تكاسلا عن الطاعات فليفتش عن قلبه، وإذا رأي تلبسا بالمعاصي ومطارحة لها ليل نهار فليفتش عن قلبه، وإذا رأي شقاقا وخلافا مع أحبائه وأصدقائه ورفاقه من الصالحين فليفتش عن قلبه، وإذا رأي إقبالا على الدنيا وتكالبا عليها وركونا إليها فليفتش عن قلبه، وإذا رأي تخاذلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليفتش عن قلبه. بالجملة ليكن شعار الدعاة في هذه الأزمنة وأولى أولوياتهم " فتش عن القلب وتعاهده على الدوام ".
ثانيا: نشر العلم الشرعي:
في أزمنة الغربة وشيوع الفتن، يصبح العلم الشرعي بضاعة عزيزة المنال، غالية الجناب، قلّ بائعوها، وندر طالبوها. فمن أهم سمات أزمنة الغربة، ومن أبرز علامات شيوع الفتن؛ رفع العلم ونزول الجهل، كما ثبت ذلك في حديثه صلى الله عليه وسلم: " إن بين يدي الساعة أياما ينزل فيها الجهل ويرفع العلم ويكثر الهرج "، حتى أصبح الناس يبحثون عن العلماء الربانيين العاملين فلا يجدون من هذا الصنف الغالي إلا القلة النادرة، بعد أن نزع الله - عز وجل - العلم انتزاعا من الناس بقبض العلماء العاملين، وبقاء السفهاء الجهال المضلين الذين يضلون الناس بغير علم، وإن ضرر علماء السوء على الأمة أشد من ضرر أعدائها الأصليين و خصومهم الشانئين، لذلك يجب على الدعاة إلى دين الله - عز وجل - في هذه الأوقات الحرجة والأزمان العصيبة أن يدعوا الناس لتعلم العلم الشرعي النافع الذي ينفع العبد ويقيه من الوقوع في شرك فتن الشبهات والشهوات، والذي يتمكن به من معرفة الحق من الباطل، ويستبين به الطريق وسط ظلمات الشبهات وطبقات الشهوات، ولكن يجب على الدعاة مراعاة عدة أمور في مسألة نشر العلم الشرعي:
1 ـ الإخلاص في طلب العلم، وتنقية القلب من عوارض الحبوط التي تعتري طريق السالكين لهذا الدرب الهام، مثل الرياء والسمعة والبحث عن الشهرة وطلب الدنيا بهذا العلم إلى آخر هذه الآفات المعروفة والتي يقع فيها كثير من السالكين، وعندما يتخلف الإخلاص عن قلب العالم فإن مصيره يكون مروعا حتى أنه يكون من أول ثلاثة تسعر بهم النار يوم القيامة، وفي الحديث: " من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله - عز وجل - لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة "
2 ـ التدرج في طلب العلم الشرعي، فيبدأ بصغاره قبل كباره، وأصوله قبل فروعه، وما يحتاج إليه يوميا على ما يحتاج إليه موسميا، وما يتعبد به قبل ما يتعامل به، قال الله - عز وجل - ( ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) [ آل عمران 79] قال المفسرون: الربانيون هم الذين يعلمون بصغار العلم قبل كباره. هذا التدرج في تعليم الناس ودعوتهم يضمن سلامة البناء واستقامة السير، فمن استعجل شيئا قبل أوانه وعوقب بحرمانه، وكما قالت العرب قديما: طعام الكبار سم الصغار.
3 ـ الحرص على تلقي العلم على يد أهله وعلمائه والمتخصصين فيه، وترك الاعتماد على النفس في التحصيل والطلب، والتزام حلق العلم ومزاحمة الركب بين يدي الشيوخ والعلماء لسماع العلم من مصادره الأصلية والعارفين به، بهذا يعرف العلم وينشر الخير ويفهم النص، وبدونه يخبط الناس خبط العشواء، ويقتحمون أبواب العلم بخير خطام ولا زمام، وكما قيل من قبل: " لا تأخذوا العلم من صحفيي، ولا القرآن من مصحفيي ".
4 ـ دعوة الناس عند تعليمهم الناس لتطبيقه والعمل به في شئون حياتهم، والتحرك بهذا العلم من أجل إصلاح الحياة وعمارة الكون، حتى لا يتحول العلم إلى حجة على صاحبه يوم القيامة، وحامل العلم كحامل الماء إذا لم يحركه دائما وواظب على تجديده أسن هذا الماء ولم ينفع صاحبه ولا غيره.
ثالثا: مصاحبة الأخيار والصالحين:
من أولويات الخطاب الدعوي في أزمنة الغربة، تدعيم مفهوم الالتزام بالجماعة والحرص عليها، ولكن ليست أي جماعة، ولا أي صحبة، ولكن جماعة الخير وصحبة الصلاح، فمن طبيعة الإنسان أنه يحب الاجتماع والمدنية والائتلاف مع غيره، كما أنه يكره الوحدة والعزلة والانفراد، لذلك كان حري بالدعاة أن يركزوا على معاني الصحبة الصالحة والرفقة الخيرة التي تدعم موقف المسلم أمام الفتن والأزمات، فالعبد لا يقوم بمفرده، وهو بحاجة دائمة لمن يناصره ويأخذ بيديه في وحشة المسير، يحتاج لمن يشعر بأحلامه وآماله وأفكاره، بحاجة لمن يتفهم مراده ونظرته إلى الحياة، بحاجة لمن يكون له مثل المرأة التي تكشف العيوب وترفأ الخروق. فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، وإن إخوان الصدق زينة في الرخاء وعصمة البلاء، رؤيتهم تفرح القلب وتريح النفس وتزيل الهم والغم، وصدق عمر - رضي الله عنه - عندما قال: " لقاء الإخوان جلاء الأحزان "، وقال الخليفة ابن المعتز: " من اتخذ إخوانا كانوا له أعوانا ".
والعجيب أن المسلم لا يستطيع تزكية نفسه وتطهير قلبه أو حتى يتعلم العلم الشرعي إلا من خلال إطار جماعي، ومع مجموعة من الشباب الصالحين الذين هم أمل الأمم وعمادها ومستقبلها، وفي الحديث: " من أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد " أخرجه الترمذي بسند صحيح، وفي الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي وصححاه: " فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية " وأخرج البخاري: " لو أن الناس يعلمون من الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده "، وقد يأتي الشيطان للإنسان فيخادعه ويوهمه بأنه يستطيع أن يقوم بمفرده، ويتعلم بمفرده، ويزكي نفسه بمفرده، وأن عنده من الكفاءة والموهبة ما يجعله يستغني عن مصاحبة الناس ورفقة الصالحين، وعندها يفترسه الشيطان، قال تعالى ضاربا لهذا مثلا بليغا في كتابه العزيز ( قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشيطان في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا ) [ الأنعام 71]، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: " هذا مثل ضربه الله - عز وجل - لممن كان له أصحاب خير يدعونه إلى للهداية وهو حائر في الأرض وحيدا بني داعية الخير وداعية الشيطان، حيران لا يدري إلى أيهم يصير"
التعليقات