عناصر الخطبة
1/لكل نبي معجزة 2/أعظم المعجزات وأبقاها 3/الآية الخالدة والمعجزة الباهرة 4/فضائل القرآن الكريم 5/اغتنام هدايات القرآن.اقتباس
(إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ)؛ فكل من أقبل عليه نال منه ما يرغب، وحصل ما يريد، فهو يعطي الخير الكثير، والفضل العميم، فالفقيه يستدل به، والحكيم يستمدّ منه، والأديب يتقوّى به، والوجيه يزداد وجاهة، والضعيف ينال قوة، والفقير يمتلئ غنًى...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
عباد الله: إن كان كل نبي جاء بآية، وصحبته معجزة، تُظهِر صدقه، وتَشهد بنبوته، فإن أعظم هذه الآيات، وأبهر تلك المعجزات، الآية الخالدة والمعجزة الباهرة، والبرهان الساطع، الذي جاء به نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم الرسل؛ وهو القرآن الكريم، ففي الحديث قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما مِنَ الأنْبِياءِ مِن نَبِيٍّ إلَّا قدْ أُعْطِيَ مِنَ الآياتِ ما مِثْلُهُ آمَنَ عليه البَشَرُ، وإنَّما كانَ الذي أُوتِيتُ وحْيًا أوْحَى اللَّهُ إلَيَّ، فأرْجُو أنْ أكُونَ أكْثَرَهُمْ تابِعًا يَومَ القِيامَةِ"(رواه البخاري 4981).
قال ابن حجر: "أي أن معجزتي التي جئت بها، وتحدّيت بها قومي هي الوحي الذي أنزله الله عليَّ، وهو القرآن الكريم؛ وذلك لما اشتمل عليه من الإعجاز الواضح، والبرهان القاطع"(فتح الباري: 9/9).
عباد الله: سمى الله -تعالى- هذه المعجزة بـ"القرآن"؛ كونه جامعاً لثمرة الكتب السَّابقة، مشتملاً على أصول العلوم والمعارف، حاوياً طرق النجاح وسُبل الفلاح الدينية والدنيوية والأخروية، قال -تعالى-: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[النحل:89]، وقال -سبحانه-: (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[يوسف:111]؛ فقد جمع محاسن ما قبله، وزاده الله من الكمالات ما ليس في غيره.
فمن رام هدايةً وصلاحاً وفلاحاً فـ(إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)[الإسراء:9]؛ فهو يهدي البشرية كلها في كل زمان ومكان إلى ما به عزّها وفَخْرها ومجدها وهداياتها.
ومن طلب جاهاً ومجداً وعلواً وعزة؛ فدونه كتاب الله -تعالى- (بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ)[البروج:21]؛ قد تضمَّن المكارم الدنيوية والأخروية، فتاليه وحافظه والعامل به مجزيّ عند الله -تعالى-، وعند الناس (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة:11]، ونال صاحبه عزة وقوة، (إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ)[فصلت:41] وعلواً ورفعة (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)[الزخرف:4]، قال -تعالى-: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)[الزخرف:44]؛ قال ابن عيينة: "ومما رفعني الله به القرآن".
ومن أمل شفاء وبركة (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[الإسراء:82]؛ فهو شفاء للقلوب من أسقامها كالغل والحقد والحسد، وشفاء للأمراض والأسقام القلبية والبدنية، بل وأعم من ذلك فهو شفاء من الأمراض العصرية كأمراض الاقتصاد والاجتماع والحضارة.. فهو بركة على صاحبه، مبارك على أهله، يقول الإمام الرازي المفسر: "وقد جرت سُنّة الله -تعالى- بأن الباحث عنه والمتمسك به، يحصل له عزّ الدنيا وسعادة الآخرة، وأنا قد نقلت أنواعاً من العلوم النقلية والعقلية، فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السعادات في الدين والدنيا مثل ما حصل بسبب خدمة هذا العلم"(التفسير الكبير: 13/66)، وصدق الله (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ)[الأنبياء: 50].
ومن سعى لطمأنينة نفسه، وراحة قلبه، وصفا عقله، (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ)[الأنعام:157]، فبالقرآن تُوهَب رحمة الدنيا من استقامة في الحال، وصلاح للمجتمع وانتظام في الحياة، وتنال رحمة الآخرة.
ومن طلب زيادة، ورام خيراً كثيراً (إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ)[الواقعة:77]؛ فكل من أقبل عليه نال منه ما يرغب، وحصل ما يريد، فهو يعطي الخير الكثير، والفضل العميم، فالفقيه يستدل به، والحكيم يستمدّ منه، والأديب يتقوّى به، والوجيه يزداد وجاهة، والضعيف ينال قوة، والفقير يمتلئ غنًى، قال الحسن البصري : "والله ما دون القرآن من غنًى، ولا بعده من فاقة فقر".
ومن سلك طريق المعرفة، والتمس علماً، فالقرآن هو العلم حقاً، الذي يهدي البشرية الضالة إلى ما به خيرها وسعادتها (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)[آل عمران:61]، (بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)[العنكبوت:49]، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إذا أردتم العلم فاقرءوا القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين".
وحين تدلهمّ الأمور، وتختلط الأحوال، ويخفى الحق، ويعلو الباطل، فطريق النجاء، وطوق النجاة (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)[الفرقان:1]؛ فهو فرقان بين المحق والمبطل، وفرقانه بينهما بنصرة المحق، وتخذيله المبطل. (ينظر: ابن جرير 1/95).
وإن تاقت نفسك لسماع كلام بليغ، وأسلوب رفيع، وحديث يسر خاطرك، ويجلو همك، ويعود عليك بالعلم والمعرفة؛ فـ(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[الزمر:23].
وعند تبيان الحقائق، واختلاف الآراء، وتنازع الفهوم، فالحق الأبلج كامن فيه (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ)[الحاقة:51]، (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)[يونس:32].
عباد الله: كل ما في القرآن قد حاز أكمل الأقوال، وأتم الأحكام، وأصدق الأخبار (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)[الأنعام:115]، كل ذلك بأفصح عبارة، وأبلغ معنى، وأتم سياق (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[يوسف:2]؛ فهو في أعلى درجات البيان، وأرفع مراتب الإفصاح عما تحمله الألفاظ من معان، وما تشتمل عليه من أخبار وأحكام، قال ابن كثير: "وذلك أن لغة العرب أفصح اللغات، وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، لذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ نزوله في أشرف شهور السنة وهو رمضان، فكمُل من كل الوجوه"(تفسير ابن كثير: 2/613).
أعوذ بالله من الشيطان (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس:58]؛ اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن العظيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: لما نزل القرآن بلغة العرب، وأخلاقُهم آنَ ذاك أخلاطٌ بين محاسنٍ ومساوئ، كانت الإشارة إلى اللسان (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)[الشعراء:195]؛ للدلالة على أن المراد بعربيته عربية ألفاظه، لا عربية أخلاقه؛ إذ الإسلام والقرآن نفى عن العرب المساوئ، وطهّرهم من الأرجاس والأنجاس؛ إن هم أسلموا وآمنوا بالكتاب، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنما بُعِثْتُ لأتمم صالح الأخلاق"(رواه أحمد: 8729، وصححه الألباني) (مستفاد من تفسير ابن عاشور: 8/980).
فالقرآن الكريم قيّم في ذاته، مقوِّم لغيره، ومكمِّل أخلاق ومعارف أتباعه، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا)[الكهف:1-2]، وهو مع ذلك كله سالِم من الزيادة والنقصان، محفوظ عن التحريف والبهتان (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر:9].
فهنيئاً للأمة الإسلامية بهذا الكتاب أفراداً وشعوباً، ويا سعدهم بالعلم والمعرفة والصلاح والهداية، والعزة والرفعة، إن قاموا به آناء الليل وأطراف النهار تلاوة واتباعاً، وعملاً وتطبيقاً، وهداية واسترشاداً، قال قتادة: "اعمروا به قلوبكم، واعمروا به بيوتكم؛ يعني القرآن".
وحمداً لك اللهم أن فرضت قراءته وأعظمت أجراً على تلاوته، ويسَّرت حفظه وفهمه والعلم به (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)[القمر:17].
هذا وصلوا وسلموا....
التعليقات