عناصر الخطبة
1/أهمية كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم 2/خصائص رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم 3/وجوب الاتباع والاقتداء برسول الله 4/علاقة السنة النبوية بالقرآن الكريم 5/خدمة السنة النبوية والعناية بها 6/وجوب العمل بالسنة النبوية وتحكيمها.اقتباس
السنة النبوية هي الأصل الثاني من أصول الأحكام الشرعية التي أجمع المسلمون على اعتبارها أصلاً قائمًا بذاته، فهي والقرآن متلازمان لا ينفكّ أحدهما عن الآخر، فالقرآن كليُّ هذه الشريعة، والرسول -صلى الله عليه وسلم- مُبيِّن بسُنته لجزئياتها، فما...
الخطبةُ الأولَى:
الحمد لله الذي امتنَّ على عباده المؤمنين ببعثة الرسول الصادق الأمين، فأخرَجهم به من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم واليقين، وأخبرهم على لسانه بما كان وما يكون إلى يوم الدين، وأخبرهم عن الدار الآخرة بأكمل إيضاح وأعظم تبيين، فمن آمن به وبما جاء به فهو من المفلحين، ومن كان في ريب مما صح عنه فهو من الخاسرين.
أحمده -سبحانه- حمد أوليائه المتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي ترك أمته على المنهج الواضح المستبين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون: فليس بعد كلام الله أصدق ولا أنفع ولا أجمع لخير الدنيا والآخرة من كلام رسوله وخليله محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ هو أعلم الخلق وأعظمهم نصحًا وإرشادًا وهداية، وأبلغهم بيانًا وتفصيلاً، وأحسنهم تعليمًا، وقد أُوتِيَ جوامع الكلم، واختُصِرَ له الكلام اختصارًا، فقد كان يتكلم بالكلام القليل لفظه، الكثير معانيه.
في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بُعثت بجوامع الكلم، ونُصرت بالرعب، وبينما أنا نائم رأيتني أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي"؛ قال أبو هريرة: "فقد ذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنتم تنتشلونها"؛ قال البخاري: "بلغني أن جوامع الكلام: أن الله -عز وجل- يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تُكتب في الكتب قبله، من الأمر الواحد أو الاثنين".
أيها المسلمون: ولعظم شأن نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وما بُعِثَ به، فقد ذكره -تعالى- في معرض التفضل والامتنان؛ قال -تعالى-: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[سورة آل عمران:164]، وقال -تعالى-: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[سورة التوبة:128].
وقال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[سورة الجمعة:2]؛ قال ابن كثير -رحمه الله- "فبعث الله محمدًا -صلوات الله وسلامه عليه- بشرعٍ عظيمٍ كاملٍ لجميع الخلق، فيه هدايتهم والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم، والدعوة لهم إلى ما يُقرّبهم إلى الجنة ورضا الله عنهم، والنهي عما يُقرّبهم إلى النار وسخط الله -تعالى-، حاكمٌ فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب في الأصول والفروع، وجمع له -تعالى، وله الحمد والمنة-، جميع المحاسن ممن كان قبله، وأعطاه ما لم يعطِ أحدًا من الأولين ولا يعطيه أحدًا من الآخرين؛ فصلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين".
وإذا كان الأمر كذلك -يا عباد الله-؛ فعلينا أن نتَّبع شريعته ونتمسك بها، وندعو إليها ونصبر على الإيذاء فيها، امتثالًا لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)[سورة الأنفال:24]، وقوله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[سورة الأحزاب:21]، فالتأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وأحواله مطلوب منا -رحمكم الله-.
فعلينا أن نمتثل لأوامره وأن نجتنب نواهيه، وأن نعظّمها ونحترمها؛ فطاعته -صلى الله عليه وسلم- من طاعة الله؛ قال -تعالى-: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)[سورة النساء:80]، وقد أقسم -تعالى- على عصمته -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)[النجم: 1-2]، فشهد -تعالى- لرسوله بأنه راشد تابع للحق ليس بضالٍّ ولا غاوٍ.
بل إنه -صلاة الله وسلامه عليه- بعثه الله بشرع عظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد، ولهذا قال -تعالى-: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)[سورة النجم:3]، أي: ما يقول قولاً عن هوى وغرض؛ (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[سورة النجم:4]، إنما يقول ما أُمِرَ به، يُبلّغه إلى الناس كاملًا موفورًا من غير زيادة ولا نقصان.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا أقول إلا حقًّا"؛ قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال: "إني لا أقول إلا حقًّا".
عباد الله: إن السنة النبوية هي الأصل الثاني من أصول الأحكام الشرعية التي أجمع المسلمون على اعتبارها أصلاً قائمًا بذاته، فهي والقرآن متلازمان لا ينفكّ أحدهما عن الآخر، فالقرآن كليُّ هذه الشريعة، والرسول -صلى الله عليه وسلم- مُبيِّن بسُنته لجزئياتها؛ قال -تعالى-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[سورة النحل:44].
فما ورد في القرآن من الآيات مجملاً أو مطلقًا أو عامًّا؛ فإن السنة النبوية القولية منها أو الفعلية تقوم ببيانها، فتُبَيِّن مطلقها، أو تُخصِّص عامّها، أو تُفسِّر مجملها، ولذا كان أثرها عظيمًا في إظهار المراد من الكتاب وفي إزالة ما قد يقع في فهمه من خلاف أو شبهة؛ قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "وإن الله -جلَّ ثناؤه وتقدست أسماؤه-، بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، وأنزل عليه كتابه فيه الهدى والنور لمن اتبعه، وجعل رسوله الدالّ على ما أراد من ظاهره وباطنه، وخاصّه وعامّه، وناسخه ومنسوخه، وما قصد له الكتاب، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المُعبِّر عن كتاب الله، الدالّ على معانيه".
أيها المسلمون: وبعد أن تجلَّى لنا فضل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأهمية سُنته، وتواصينا بالامتثال لها والتمسك بها، فلا يخفى أن الله أنعم على هذه الأمة الإسلامية بأن قيَّض لها من القرون الأولى المشهود لها بالفضل نُخبة ممتازة وصفوةً مختارة، ندبت أنفسها لخدمة السنة النبوية المطهرة ولمِّ شتاتها؛ امتثالًا لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "بلِّغوا عني ولو آية".
ورغبةً في استمرار العمل الصالح الذي أخبر عنه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو عمل ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، ولا تزال هذه السُّنة بفضل الله وكرمه يتلقاها الخلف عن السلف، محمولة وصحيحة وفق ما أخبر عنها -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "يحمل هذا الدين من كل خلف عُدُوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين".
فما أعظم هذه السُّنة -يا عباد الله-! وما أشرفها! فكيف نزهد فيها ونعتني بغيرها كالصحف والمجلات، والقصص الخيالية؟! قارنوا -رحمكم الله- بين هدي رسول الله وغيره من البشر، ومَيِّزوا الصالح من الطالح، وما فيه الفائدة من قليلها، وما نفع فيه ولا مضرة، كونوا على المحجة البيضاء التي تركنا عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا)[سورة الأحزاب:45-47]، بارك الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله مكرم من شاء من عباده بالهداية والنور، فسبحانه من إله عظيم، قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكريم ذو الطول، الذي يتفضل على المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، القائل: "مَن يُرد الله به خيرًا يُفقّهه في الدين"، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون: فقد تظاهرت الآيات في وجوب العمل بالسنة النبوية، والاعتماد عليها، والإذعان لها، وتحكيمها في كل شأن من شؤون حياتنا؛ قال -تعالى-: (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[سورة الحشر:7].
وقد ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثلًا لما بعثه الله به مِن الهدى والعلم يبين فيه حالة المستفيد بها وغيره، ففي الصحيحين عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا، وزرعوا، وأصاب طائفةً أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
اللهم ارزقنا الفقه في الدين، وانفعنا بما بعث به محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
التعليقات