اقتباس
ولا تزال خطبة الجمعة تحتل موقعًا مهمًا متميزًا في تبليغ الدين، ونشر الدعوة وبث الإصلاح؛ فهي أكثر الوسائل فعالية في بيان الحق، وعرض الفكر الصحيح، ومخاطبة مختلف الفئات والطبقات والمستويات؛ فإذا وُجِدَ الخطيب المؤهل الموفق...
ليست الخطابة ظاهرة كلامية حديثة العهد في عالم البشر؛ بل كانت الخُطبة - ولا تزال وستبقى - أفقًا واسعًا للتأثير، مارسها رسل الله وأنبياؤه للبلاغ ونشر الدعوة ودحض الفِرَى؛ واستخدمها الساسة لتحقيق أهدافهم، وكانت وسيلة القادة والفاتحين لرفع معنويات جنودهم توطئة لفتوحاتهم، وهي أحد الأسباب الهامة لنجاح المدير ينفي إداراتهم المختلفة.
وتعد الخطابة - كما يقول أبو زهرة -: "إحدى وسائل الدعوة إلى الله، وهي من أهم وسائل التربية والتوجيه والتأثير، ولها ثمرات كثيرة فهي التي تفض المشاكل، وتقطع الخصومات، وهي التي تهدئ النفوس الثائرة، وهي التي تثير حماسة ذوي النفوس الفاترة، وهي التي ترفع الحق، وتخفض الباطل، وتقيم العدل، وترد المظالم، وهي صوت المظلومين، وهي لسان الهداية؛ والخطابة تثير حمية الجيوش، وتدفعهم إلى لقاء الموت، وتزيد قواهم المعنوية، ولذلك كان قواد الجيوش المظفرين خطباء مصاقع؛ فعلي بن أبي طالب وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وطارق بن زياد. . خطباء مصاقع"([1]).
لذا كانت الخطبة جزءًا من مهمة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في دعوة أقوامهم إلى توحيد الله -عز وجل- وطاعته، وتحذيرهم من غضبه وبطشه وأليم عقابه، ليقلعوا عما هم فيه من ضلال وفساد عقدي وخلقي واجتماعي.
وما زالت الخطابة وستظل وسيلة ناجحة من الوسائل التي يلجأ إليها المصلحون والعلماء والدعاة والقادة في كل العصور لتحريك العقول، وبعث الثقة في النفوس للدفاع عن فكرة معينة، أو النهوض بمهمة معينة؛ أو التحذير من أعمال معينة.
وكم من خطبة أحدثت تحولًا في عادات الناس وتصوراتهم، وكم من خطبة فتحت باب الأمل والتوبة لدى بعض المخاطبين؛ وكم من خطبة أطفأت ثائرة فتنة، وكم من خطبة أثرت في تثبيت قلوب جيوش فكان النصر حليفهم.
ولئن كانت الخُطبة بمفهومها الشامل أداة مهمة للتأثير في الإعلام والتعليم والدعوة والتربية، في السلم والحرب، وفي حال السراء والضراء والضعف والقوة؛ فإن خطبة الجمعة تتميز عن جميع الخطب بميزات وخصائص تجعلها ذات أهمية لا يمكن أن تساويها أو تقاربها أي خطبة أخرى.
فلخطبة الجمعة -من بين الخطب- مكانة خاصة، فهي عبادة أسبوعية تُهز بها أعواد المنابر، ويلتقي المسلمون في مساجدهم لسماعها، ويصدرون متأثرين بكلماتها ومعانيها، قد أخذوا حظهم من الدعوة للخير والتحذير من الآثام والشر.
فخطبة الجمعة شعيرة من شعائر الإسلام لها دورها الفعال في صياغة سلوك الناس والتأثير عليهم في شتى المجالات، ولها دورها البارز في خدمة الدعوة إلى الله، فقد خصَّ الله المسلمين بيوم الجمعة، وجعله عيدهم الأسبوعي، وفرض عليهم فيه صلاة الجمعة وخطبتها، وأمر المسلمين بالسعي إليها جمعًا لقلوبهم، وتوحيدًا لكلمتهم، وتعليمًا لجاهلهم، وتنبيهًا لغافلهم، وردًّا لشاردهم، وإيقاظا للهمم، وشحذًا للعزائم، وتبصيرًا للمسلمين بحقائق دينهم وعقيدتهم، ومكايد عدوهم، ومما يجب عليهم، وما لا يسعهم جهله؛ وتثبيتًا لهم جميعًا على تعظيم حرمات الله.
لهذا وغيره كان لخطبة الجمعة مكانة سامية وأهمية بالغة، ويمكن إيجاز أهم الأمور التي اكتسبت بها خطبة الجمعة مكانتها وأهميتها في الآتي:
1 – الأمر بالسعي لها، والإنصات للخطيب، والنهي عن اللغو والإمام يخطب؛ والندب إلى التبكير وبيان فضله، ذلك كله يبين أهمية خطبة الجمعة ومكانتها، ولعل من الحكم الجليلة للندب إلى التبكير: ألا يفوت المسلم سماع شيء من الخطبة.
فجميع المسلمين يحضرونها، ولا يتخلف عنها إلا من له عذر، ويجلسون بآذان صاغية لاستماعها، قد أتوا طواعية استجابة لأمر الله -عز وجل- : )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[الجمعة: 9]؛ خائفين مما حذر منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ"([1]).
2 - أنها من أهم وسائل نشر الدعوة العامة، حيث إنها لا تختص بأحد دون أحد، ولا طبقة دون طبقة، ولا فئة دون فئة، فجميع الحضور يستمعون خطبة الجمعة؛ على تباين بينهم في مستوياتهم وطبقاتهم العلمية والاجتماعية؛ فمنهم قوي الإيمان ومنهم ضعيفه، ومنهم المتعلم ومنهم الأميُّ، وفيهم الشاب والشيخ، وفيهم الغنيُّ والفقيرُ، والأمير والخفير؛ فهي فرصة عظيمة يمكن بعون الله تعالى -مع حسن الإعداد والتحضير للخطبة- التأثير على هؤلاء الذين يحضرون باختيارهم راغبين.
أضف إلى ذلك أن هذا التنوع في الحضور يعني تذليل العقبات التي تحول دون تنفيذ طرائق الإصلاح الاجتماعية، فإن العامل وصاحب العمل، والطالب والمعلم، والموظف والرئيس كلهم يخاطبون في آن واحد، ويوضعون أمام مسؤولياتهم، فلا تخاطب فئة منهم في غياب الفئة الأخرى، ولا تحمل المسئولية على فئة منهم دون الأخرى. ومن جانب آخر فحضورها ليس مقصورًا على الأخيار وحدهم، فكثير ممن لا يشهد صلاة الجماعة يحضر الجمعة، وهذا يتيح للخطيب أن يخاطب الجميع، وأن يتحدث للكثير ممن لا يحضرون المحاضرات والندوات ودروس المساجد؛ إنها باختصار هي المجال الوحيد المتاح للدعاة والذي من خلاله يخاطبون الجميع.
3 - أن هؤلاء الحضور قد هيئوا أنفسهم لسماع الذكر؛ فترى أكثرهم قد اغتسلوا وتطيبوا ولبسوا أحسن ثيابهم، وأتوا إلى المساجد بقلوب قابلة للاستجابة؛ فيتهيأ لخطبة الجمعة جو مهيب خاشع تكون فيه النفوس مهيئة للتلقي والاستماع، ويشعر الْحُضُورُ فيه أنهم في عبادة وطاعة لله -عز وجل-.
4 - ويدل على مكانتها وأهميتها -أيضًا- تكرارها في كل أسبوع؛ مما يعني أن عدد الخطب في العام الواحد يربو على خمسين خطبة؛ وهذا يمثل منهجًا دراسيًّا متكاملًا، فإذا أُحسن إعداده كانت آثاره جليلة، وثمراته عظيمة؛ فلو أن كل خطيب في كل سنة يتناول خمسين موضوعًا مما يحتاجه الحضور، ما بقي بين المسلمين جاهل في الأحكام الضرورية، ولا غاب عن مسلم حدَثٌ وما يجب عليه تجاهه.
5 - أن خطبة الجمعة مستمرة ثابتة في كافة الأحوال: في السلم والحرب، والأمن والخوف، والخصب والجدب، مما يجعل لها أهمية خاصة في التأثير والتربية والدعوة.
من هنا تكمن أهمية هذه الخطبة في النهوض بالأمة؛ ولذا اهتم بها رسول منها -صلى الله عليه وسلم- لإعلاء ذكر الله والدعوة إلى سبيله، وإرشاد الأمة وتوجيهها إلى أقوم الطرق وتحذيرها من مغبة اتباع الهوى؛ وقد تحدث الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) عن هديه -صلى الله عليه وسلم- في خطبة الجمعة فقال: "وَكَانَ يُعَلّمُ أَصْحَابَهُ فِي خُطْبَتِهِ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعَهُ، وَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ فِي خُطْبَتِهِ إذَا عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ، كَمَا أَمَرَ الدّاخِلَ وَهُوَ يَخْطُبُ أَنْ يُصَلّيَ رَكْعَتَيْنِ؛ وَنَهَى الْمُتَخَطّيَ رِقَابَ النّاسِ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ" ([2]).
وذكر من خصائص الجمعة: "الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده، والشهادة له بالوحدانية، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة، وتذكير العباد بأيام الله، وتحذيرهم من بأسه ونقمته، ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جنانه، ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره؛ فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها"([3]).
وقال في موضع آخر: "وَكَانَ مَدَارُ خُطَبِهِ عَلَى حَمْدِ اللّهِ وَالثّنَاءِ عَلَيْهِ بِآلَائِهِ وَأَوْصَافِ كَمَالِهِ وَمَحَامِدِهِ، وَتَعْلِيمِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَذِكْرِ الْجَنّةِ وَالنّارِ وَالْمَعَادِ، وَالْأَمْرِ بِتَقْوَى اللّهِ، وَتَبْيِينِ مَوَارِدِ غَضَبِهِ وَمَوَاقِعِ رِضَاهُ؛ فَعَلَى هَذَا كَانَ مَدَارَ خُطَبِهِ. ... وَكَانَ يَخْطُبُ فِي كُلّ وَقْتٍ بِمَا تَقْتَضِيهِ حَاجَةُ الْمُخَاطَبِينَ وَمَصْلَحَتُهُمْ"([4]).
وهذه الجملة الأخيرة تعد قاعدة مهمة في خطبة الجمعة، وهو أن يختار الخطيب ما يحتاجه الناس، وما تقوم به مصالحهم في الدارين؛ وهذا أمر جامع للدين كله.
ولا تزال خطبة الجمعة تحتل موقعًا مهمًا متميزًا في تبليغ الدين، ونشر الدعوة وبث الإصلاح؛ فهي أكثر الوسائل فعالية في بيان الحق، وعرض الفكر الصحيح، ومخاطبة مختلف الفئات والطبقات والمستويات؛ فإذا وُجِدَ الخطيب المؤهل الموفق كان أسرع إلى فهم حاجات ومشاكل المجتمع الذي يخطب فيه، مما يكون له الأثر الطيب في الإصلاح؛ فمما لا شك فيه أن للخطبة الجيدة من الخطيب الجيد أثرًا مباشرًا في توجيه الرأي العام الإسلامي , في إطار كتاب الله وهدي نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وفق منهج يجمع بين التأصيل والمعاصرة، بين الفهم التام الواعي للكتاب والسنة، وفقه الواقع الذي نعيشه في عصرنا.
إن الخطيب الواعي الحامل همَّ الدعوة يقتلع بكلامه جذور الشر من نفس المجرم، ويبعث في نفسه خشية الله وحب الحق وقبول العدل ومعاونة الناس، إنه يعي أن عمله إصلاح الضمائر وإيقاظ العواطف النبيلة في نفوس الأمة، وتربية هذه النفوس على الالتزام بشرع الله تعالى الذي هو أنفع شيء للبشرية.
والخطيب الواعي هو الذي يولي هموم مجتمعه وقضايا أمته اهتمامًا كبيرًا، وتحتل هذه الهموم والقضايا موقعًا في نفسه، فيشعر بأهمية الإسهام في حركة المجتمع والتجاوب معه بالدعوة إلى الحق وتدعيم كل خير، والتحذير من كل شر والتنفير منه.
ومن شأن الخطيب الواعي العارف بمقاصد الشريعة والمطلع على أسرارها أن يستمد من هذا المفهوم العام الشامل للإصلاح الاجتماعي في الإسلام، ويعمل على نشر وتقوية معناه في النفوس، ويجعل ذلك دعوته التي يعلنها من منبره إلى الناس كل أسبوع تطبيقًا لقول الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33].
ولا يفوت الخطيب الواعي أن يربط مستمعيه بقضايا الأمة ربطًا إيمانيًا، وينبههم إلى كيفية فهم الحدث ومعايشته في ضوء الإيمان؛ فالعالم الإسلامي اليوم يموج بأحداث ساخنة، ومضطربة، والعقل المسلم يعاني من تحليلات الإعلام المضلل الذي يصور القضايا وفق منهج يرتئيه، أو وفق ما يريد فلان، أو غيره ! ولذا فإن المصلي ينتظر أن يسمع الكلمة الصادقة، وعرض القضية من الخطيب الذي يثق فيما يقول، لأنه يعرف أنه يدرك أمانة الكلمة، ومسؤوليتها.
وثمة طائفة من المسلمين لا تتفاعل مع قضايا الساحة، ولا تُعيرها أي اهتمام، فلها شأن آخر مع شهوات النفس ورغباتها؛ وهذه الفئة تحتاج لمن يغرس فيها التفاعل مع قضايا المسلمين، والاهتمام بها، وأقرب الناس وأقدرهم على ذلك هو خطيب الجمعة.
وحين يتحدث الخطيب عن هذه القضايا، لا ينبغي أن يفرط في التحليلات السياسية، والاجتهادات الخاصة، والتي هي عرضة للخطأ والصواب، إنما يركز على بيان وجه القضية، والأخبار الصادقة عنها، والمنهج الشرعي في التعامل معها.
إن الخطيب الصادق أشد فاعلية وأكثر تأثيرًا في نفوس الجماهير، من أي وسيلة أخرى يمكن أن تؤثر في المجتمع؛ فالخطيب الصادق كالعين العذبة نفعها دائم، وكالغيث حيث وقع نفع، وكل عالم مصباح زمانه يستضيء به أهل زمانه وعصره، وكالسراج من مر به اقتبس.
____
المراجع:
[1] - رواه أحمد: 3 / 424، وأبو داود (1054)، والترمذي (500) وحسنه، والنسائي (1369)، والحاكم (1034) وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
[2] - انظر (زاد المعاد): 1 / 413.
[3] - المصدر السابق: 1 / 386.
[4] - المصدر السابق: 1 / 179.
[1] - انظر (الخطابة) لأبي زهرة ص 21، 22 باختصار وتصرف
التعليقات