عناصر الخطبة
1/وصية الله للمؤمنين 2/سلاح المؤمن مع زحمة الحياة وكثرة فِتَنها 3/حاجة العبد إلى تجديد إيمانه 4/هيا بنا نؤمن ساعة 5/من وسائل تجديد الإيمان في القلوب.اقتباس
ساعة نراجع فيها ديننا، ونؤدي فيها حقّ ربنا، وحق النفس، والناس. ساعة لا تحتمل التأخير، فقد جرت منا الدنيا مجرى الدم من العروق، ووصل حبُّها إلى شغاف القلوب، إن بعض المجالس تحيي القلوب الميتة، وتبعث...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أما بعد فيا أيها الناس: إنَّ المسلم في هذه الحياة يتقلّب في أرجائها، ويتقلّب بين جنبات الحياة، فترفعه طورًا وتخفضه طورًا، والمسلم يجاهد في هذه الحياة، ويصبر ويصابر حتى يلقى ربه، هذه وصية الله للمؤمنين؛ حيث يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمران:200]، ولقد جعل الله لنا سلفًا نقتفي آثارهم، ونستضيء بنورهم، حتى ننجو من مهلكات الفتن، هذا كله مع اعتصام العبد بربه أن يثبته ويعينه، ويحسن خاتمته.
عباد الله: مع زحمة الحياة وكثرة فِتَنها وشهواتها، يضعف إيمان العبد، ويفقد كثيرًا من عباداته وحسناته، ولربما سقط في أوحال الذنوب والفتن، والعياذ بالله، ولقد كان نبي الأمة -عليه صلوات الله وسلامه- يُعلّم الأُمَّة كثرة الاستغفار ليستنير القلب، ويُقْبِل على الطاعة.
أخرج مسلم في صحيحه من حديث الأغر المزني قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنه ليُغَان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة"، والمراد بالحديث في جانب النبي -صلى الله عليه وسلم- يعني: أَنَّه يَتَغَشَّى القَلْبُ ما يَلْبَسُه، والمُرادُ: الفَتَراتُ والغَفَلاتُ عَنِ الذِّكْرِ الَّذي كان شَأنُه الدَّوامَ عليه، فإذا فَتَرَ عنه أو غَفَلَ عَدَّ ذلك ذَنبًا، واستَغْفَرَ منه الِاستِغْفارَ مِنَ التَّقصيرِ في أداءِ الحقِّ الَّذي يَجِبُ لِلهِ -تعالى-، وغيرِ ذلك ممَّا يَحجُبُه عن الاشْتِغالِ بِذِكْرِ اللهِ والتَّضَرُّعِ إليهِ ومُشاهدَتِه ومُراقبَتِه، فيَرى ذلك ذنبًا بالنِّسبَةِ إلى المَقَامِ العَليِّ.
وبالنسبة لبقية الخلق: الحثّ على الاستغفار دائمًا؛ لأن المسلم لا ينفكُّ عن ذنبٍ وتقصيرٍ، والاستغفار يطهّر ذلك كله.
عباد الله: لقد كان سلفنا الصالح يُذكِّر بعضهم بعضًا، ليتقوى إيمانهم، وهكذا نحن يجب علينا أن نُقوِّي إيماننا بما نستطيع من المقوِّيات، وهي كثر، فلقد كان الصحابة مع ما هم فيه من المجالس النبوية، يقول بعضهم لبعض: "تعال نؤمن ساعة"، يعني نُقوِّي إيماننا بذِكْر الله، قالها عبد الله بن رواحة لأبي الدرداء، وقالها معاذ بن جبل لصاحبه وهو يذكره: "اجلس بنا نؤمن ساعة".
كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَأْخُذُ بِيَدِ النَّفَرِ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ: "تَعَالَوْا نُؤْمِنُ سَاعَةً; تَعَالَوْا فَلْنَذْكُرِ اللَّهَ وَنَزْدَدْ إِيمَانًا, تَعَالَوْا نَذْكُرهُ بِطَاعَتِهِ لَعَلَّهُ يَذْكُرُنَا بِمَغْفِرَتِهِ".
وروى البيهقي في "شُعب الإيمان" من طريق عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ قَالَ لِصَاحِبٍ لَهُ: "تَعَالَ حَتَّى نُؤْمِنَ سَاعَةً. قَالَ: أَوَلَسْنَا بِمُؤْمِنَيْنِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّا نَذْكُرُ اللهَ فَنَزْدَادُ إِيمَانًا".
قال ابن رجب: وقد رُوي مثله عن طائفة مِن الصحابة، فَرَوى زبيد، عن زر بن حبيش قال: كان عمر بن الخطاب يقول لأصحابه: "هَلمّوا نَزداد إيمانًا، فيذكرون الله".
وقال ابن حجر عن رواية البخاري الْمُعلَّقَة -وَالتَّعْلِيقُ الْمَذْكُورُ وَصَلَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو بَكْرٍ أَيْضًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ- إِلَى الأَسْوَدِ بْنِ هِلالٍ قَالَ: قَالَ لِي مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: "اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً". وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: كَانَ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ يَقُولُ لِلرَّجُلِ مِنْ إِخْوَانِهِ: "اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً"، فَيَجْلِسَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ -تَعَالَى- وَيَحْمَدَانِهِ.
وأحرى بنا أن نقولها لبعض، ساعة نراجع فيها ديننا، ونؤدي فيها حقّ ربنا، وحق النفس، والناس. ساعة لا تحتمل التأخير، فقد جرت منا الدنيا مجرى الدم من العروق، ووصل حبُّها إلى شغاف القلوب، إن بعض المجالس تحيي القلوب الميتة، وتبعث الإيمان في النفوس، وتقوّي النفس على الطاعة بعد ضعفها وخورها، بل إن مجرد زيارة الصالحين لتزيد في الإيمان، وكذلك دروس أهل العلم، ومحاضرات طلبة العلم، وكذلك كثير من الكتب تصنع بالنفس العجائب إذا وَفَّق الله العبد لذلك.
اللهم قوِّ إيماننا، وحَسِّن أخلاقنا، وتوفنا مسلمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
أما بعد فيا أيها الناس: إن عبارة "تعال بنا نؤمن ساعة"، تعطي العبد درسًا في الحياة أن النفس تحتاج مراجعة، وأن الإيمان يحتاج لتقوية، وأن المسلم يتقوى بإخوانه، قال -سبحانه-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[الأنفال: 2-4].
لقد كان الصحابة يجلسون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى إنهم ليضعون رؤوسهم على رُكَبهم يبكون، يُذكّرهم الجنة والنار كأنهم يرونها، فتمتلئ قلوبهم إيمانًا، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي ربعي حنظلة بن الربيع الأسيدي الكاتب أحد كُتّاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لقيني أبو بكر -رضي الله عنه- فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله ما تقول؟! قلت: نكون عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُذكِّرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا.
قال أبو بكر -رضي الله عنه-: فوالله إنَّا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما ذاك؟"، قلت: يا رسول الله، نكون عندك تُذكّرنا بالنار والجنة كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذِّكر، لصافحتكم الملائكة على فُرشكم وفي طرقكم، لكن يا حنظلة ساعة وساعة" ثلاث مرات.
عباد الله: لئن فاتكم الجلوس مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فها هي سُنّته بين أيديكم، وأحاديثه موجودة في الكتب، فاجلسوا مع نبيكم، وقوّوا إيمانكم، فما أحوجنا لذلك هذه الأيام.
اللهم وفقنا لهداك .......
التعليقات