عناصر الخطبة
1/الدنيا مزرعة الآخرة 2/تعريف الوقف وأهميته 3/صور للأعمال التي يجري أجرها 4/هل يلزم مال كثير للوقف؟ 5/الفرق بن الوقف والسبالة.اقتباس
والمسلم يحرص على إخراج صدقته ووقفه في حياته, ولا يوصي بإخراجها بعد وفاته؛ فما يدريه, فقد يتنازع الورثة بينهم, فلا تنفذ الوصية, والمحاكم مليئة بمثل هذه الوصايا في كثير من الصور التي تعرفون...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب70-71].
فيا أيها الناس: الناس في هذه الدار يروحون ويغدون؛ فمنهم الغارق في دنياه, ومنهم المنشغل بأمور غيره, ومنهم المجتهد لأمر آخرته, والناس يعلمون أنهم إنما خلقوا لعبادة الله, ولقد سخر الله الدنيا كلها للإنسان؛ ليتمكن من عبادة ربه؛ كما قال -سبحانه-: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)[البقرة: 29], وقال: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)[الجاثية: 13], فالدنيا مزرعة الآخرة, ما يزرعه العبد في الدنيا يحصده في الآخرة, وكلما عظم الزرع عظمت الثمرة!.
وإن من نعم الله على العبد أن يسر له طرق الخير, وبين له أجورها, ورغَّبه في فعلها, وضاعف عليها المثوبة, ومايز بينها؛ لينوع المسلم بين الأعمال, بل وجعل له ما يكون أجره مستمرا, ما بقي هذا العمل؛ ألا وهو الوقف, الصدقة الجارية, فهي مما يجري على العبد بعد موته؛ كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات ابن آدم, انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية, أو علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له".
فالمسلم في هذه الحياة, يجتهد في الأعمال الصالحة؛ من صلاة وصيام وحج, وغيرها من أمور البر, فإذا مات انقطع عمله, إلا من هذه الأعمال الثلاثة, وهذا حث من النبي -صلى الله عليه وسلم- للأمة جمعاء أن يبادروا إلى هذه الأعمال الثلاثة, فيتزوج وينجب ويحسن التربية؛ ليرزق ولدا صالحا ذكرا أو أنثى, فيدعو له بعد موته, أو يطلب العلم ويتعلم؛ ليعلم الناس, فينتشر بينهم, ويبقى أجره ما عمل بعلمه, أو يؤلف كتبا, أو يشتريها ويوقفها, فيستمر أجره ما بقيت, أو صدقة يبقى أصلها ويستفاد من نفعها, وهي الصدقة الجارية, سميت جارية؛ لأن أجرها يجري على العبد بعد موته ولا ينقطع, وهذه من نعم الله على العبد, أن يجعل له من الأعمال ما يبقى بعد موته, ولا ينقطع بالكلية.
ولقدْ أدرك المسلمون الأوّلون هذه المعاني العظيمة، لمثل هذه التوجيهات الربانية الحكيمة، فراحوا يُسارعون في الخيرات، ويستبقون في النفقات، ويتخيرون أفضلَ التكافلات، وأنفع الصدقات، فتعاونوا في بناء المساجد، وسائر المرافق، وسألوا عن أفضل التكافل.
فهذا عمر -رضي الله عنه- لما أصاب أرضاً بخيبر، أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يستأمره فيها, فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها"؛ يعني يجعلها وقفا.
وهذا أبو طلحة كان أكثر الأنصار بالمدينة مالا, وكان أحبّ ماله إليه بيرحاء, فلما نزلت: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران: 92]، قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله! إن الله يقول: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران: 92]، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله؛ أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله، فقال -صلى الله عليه وسلم- : "بخ! ذلك مال رابح أو رايح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين"، قال أبو طلحة: أفعل ذلك يا رسول الله!؛ فقسمها أبو طلحة في أقاربه"، وفي لفظ له قال: "إني جعلت حائطي لله، ولو استطعت أن أخفيه فما أظهر به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اجعله في فقراء أهلك".
قال زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: "لم نر خيراً للميت ولا للحي من هذه الحُبُس الموقوفة؛ أما الميت فيجري أجرها عليه, وأما الحي فتحتبس عليه ولا توهب ولا تورث ولا يقدر على استهلاكه", وقال جابر -رضي الله عنه-: "لم يكن أحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ذو مقدرة إلا وقف".
اللهم أعنا على تدارك ما فات, والعمل لما هو آت؛ إنك سميع مجيب الدعوات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ غنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، الهادي إلى إحسانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأعوانه وسلم تسليما كثيرا, وبعد:
فيا أيها الناس: بعد أن سمعنا فضل الوقف, يتبين لنا جميعا أن من مات ولم يوقف شيئا أنه محروم من خير عظيم, فكان لزاما علينا المبادرة بالوقف قبل الموت, فمن مات انتقل ماله إلى ورثته, ولربما يتساءل البعض: كيف أوقف وليس لدي مال يكفي؟؛ والجواب: أن الوقف لا يحتاج إلى مال كثير؛ فكل يوقف على حسب مقدرته.
فمن وجوه الوقف بناء المساجد, والمستشفيات, والمدارس, ودور الأيتام, وإيقاف المساكن والمحلات, واستغلال إيراداتها في وجوه البر المختلفة, وتعبيد الطرق, وحفر الآبار, ونشر العلم, وإيقاف الكتب والمصاحف, وهلم جرا من الصدقات التي يبقى أصلها, ولو لمدة يسيرة.
ومن لم يكن عنده مال يكفي؛ فالمشاركة في هذه الأعمال يعد وقفا, فمن لا يستطيع بناء مسجد فليشارك في بنائه ولو بالقليل, ولو أن تضع كيس اسمنت, أو مصحفا, فالقليل عند الله كثير, والقليل خير من العدم.
عباد الله: إن الوقف يختلف عن ما يسميه العامة بالسبالة؛ فالوقف منجّز في الحياة, ولو شاء أوقف ماله كله, وأما السبالة فتكون بعد الموت, وصية وتكون من ثلث المال.
والمسلم يحرص على إخراج صدقته ووقفه في حياته, ولا يوصي بإخراجها بعد وفاته؛ فما يدريه, فقد يتنازع الورثة بينهم, فلا تنفذ الوصية, والمحاكم مليئة بمثل هذه الوصايا في كثير من الصور التي تعرفون.
اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علما يا كريم, وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ, اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ, اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ, رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
التعليقات