عناصر الخطبة
1/ مفهوم التخصص 2/ حرص الإسلام على التخصص 3/ أضرار الاعتداء على التخصص 4/ أهمية مراعاة التخصصاهداف الخطبة
اقتباس
إنه لا نجاح لأيِّ مجتمعٍ مسلمٍ دون تكامل، ولا تكامل دون معرفة كل فرد ماله وما عليه، وما هو من شأنه وما هو ليس من شأنه، وما هو مهمٌ وما هو أهم، كما أنه لا استقرار ولا توازن للمجتمع دون إدراكٍ لقائمة الأولويات ومعرفة ما يجب تحصيله من المصالح، وما يجب درءُه من المفاسد، وما هو من الاختصاص وما ليس من الاختصاص, ذلك كله كي لا تختلط الأمور، ولا تتبعثر المصالح، ولئلا يصبح الناس ..
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، أعطى كل شيءٍ خلقَه ثم هدى، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه والتابعين ومن سار على طريقهم واتبع هداهم إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرا.
أما بعد: فأوصيكم –أيها الناس- بتقوى الله والاستقامة على دينة، والدعوة إليه، والعمل به، فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه، واشكروا له، إليه ترجعون.
أيها الناس: إنه لا نجاح لأيِّ مجتمعٍ مسلمٍ دون تكامل، ولا تكامل دون معرفة كل فرد ماله وما عليه، وما هو من شأنه وما هو ليس من شأنه، وما هو مهمٌ وما هو أهم، كما أنه لا استقرار ولا توازن للمجتمع دون إدراكٍ لقائمة الأولويات ومعرفة ما يجب تحصيله من المصالح، وما يجب درءه من المفاسد، وما هو من الاختصاص وما ليس من الاختصاص, ذلك كله كي لا تختلط الأمور، ولا تتبعثر المصالح، ولئلا يصبح الناس فوضى لا سراةَ لهم.
وإن مما يعنينا من هذا كله ما يسمى بمبدأ (التخصص)، نعم التخصص الذي يعني اقتصار عضوٍ أو فردٍ أو جماعةٍ على فنٍ معين، أو عملٍ معين، وهو من الضرورات للمجتمع المتكامل، حيث يفرّق الأعمال والعلوم بين الأفراد، كل فرد بما وهبه الله من قدرة ومعرفة في مجاله، أو بما أوكل إليه من مصالح المسلمين.
وهو بلا شك، يزيد في الإتقان ويؤدِّي إلى المهارة والجودة والاكتشاف والاختراع، ويحد من الفوضى بتنازع الاختصاص أو تدافعه، لاسيما إذا كان تنازع تضاد لا تنازع تنوع.
ومن تتبع أمثلة من الخلاف والفرقة والتنازع عبر التاريخ والإخفاق في مصالح المسلمين لوجد لإهمال جانب التخصص دورًا كبيرًا في هذا الإذكاء، وبما أن الشريعة الإسلامية هي شريعة التكامل التي لا يعتريها النقص بوجه من الوجوه، فإن الباري –جل شأنه- ذكر في كتابه المبين ما يؤكِّد هذا الأمر تأكيدًا لا مجال للتنازع فيه.
فقد قال سبحانه وتعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة:122].
فقد دلّت هذه الآية على أنه لا يمكن أن يكون كل الناس علماء، ولا أن يكون كل الناس حكّامًا ولا أن يكون كلهم مجاهدين، ولا أن يكونوا كلهم فلّاحين أو دارسين أو غير ذلك.
وقد جاء في آية أخرى ما يدل على هذا المعنى وعلى أنه يجب أن يُرد الاختصاص إلى أهله وأن لا يفتات عليهم فيه، فقد قال سبحانه: (لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء:83].
ولم يقف التوجيه للتخصّص عند هذا الحد -عباد الله-، بل إنه قد جاء في السنة ما يدل على أن الاختصاص ينبغي أن يرد إلى أهله وأن لا يتطفّل عليهم فيه، أو ينتزع منهم، وليس ذلك مختصًا بأمور الدين فحسب، بل حتى في أمور الدنيا كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسألة تأبير النخل: " أنتم أعلم بأمور دنياكم", وكقوله -صلى الله عليه وسلم- في حق الطب: "من تتطبّب ولم يُعلم منه طب فهو ضامن"، فها هو صلى الله عليه وسلم هنا يعيد الاختصاص إلى أهله وهو في الوقت نفسه يحذِّر من التطفُّل عليه, بل إنه يتوعَّد المتطفلين عليه بالمسائلة والمحاسبة، فكيف بالمقصرين فيه من ذويه وأهله.
وأن تعجبوا -عباد الله- فعجب فعل بعض المتطفلين على جميع التخصصات, والذين نصبوا أنفسهم من ذوي الإحاطة بجميع الأمور، دينية كانت أو دنيوية، وجعلوا من أنفسهم حكامًا ومفتين وأطباء واقتصاديين ومفكرين، وهم لا يعدون كونهم كتبة على ورق مبتذل، لا رائد لهم فيه إلا التطفّل وحب الشهرة، وطلب الرياسة والثناء بالجرأة، والاقتدار الزائف بإجادة كل فنٍّ, وإحسان كل طُرح زعموا، ولو أدَّى ذلك إلى إحداث جذام في حال تطبب الزكام، وفقأ العين في حال إزالة القذى، حتى أصبح عامة الناس لا يميزون في بعض الأحايين بين الطبيب والعالم والصحفي والمفكر والداعي، وبالأخص فيما يتعلّق بأمور الفتوى والسياسة الشرعية ومصالح المسلمين العامّة، ناسين أو جاهلين تربية النبي -صلى الله عليه وسلم- أمّته على احترام التخصص وعدم إهماله أو التطفّل عليه، فقد أمر صلوات الله وسلامه عليه عبدالله بن زيد -صاحب رؤيا الأذان- أن يلقي ذلك على بلال لأنه أندى منه صوتًا.
كما أنه صلوات الله وسلامه عليه قد روي عنه أنه قال: "أفرضكم زيد" أي: أعلمكم بالفرائض وقال صلوات الله وسلامة عليه: "أقرأكم أبُي"، أي: أحسنكم قراءة للقرآن، وقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أشاد بحسّان بن ثابت على أنه أشعر الصحابة، وعلى أن عليًا أقرأهم، ومعاذًا أعلمُهم بالحلال والحرام، وعلى أن عليًا أقضاهم ومعاذاً أعلمهم بالحلال والحرام وأن خالدَ بن الوليد سيف الله المسلول، وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يؤمٌّ القوم أقرأهم لكتاب الله", الحديث.
والنصوص في ذلك من سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أكثر من أن تحصى في مثل هذه اللحظات، وقد ذكر أهل العلم أن القضاة لابدّ لهم من أعوان في أمور قد تكون خارج اختصاصهم كالطبيب والمهندس والمترجم وغير ذلك،كلاً في تخصصه ومجاله الذي يتقنه, وأنه متى عَسَفَ المرء نفسه إلى غير تخصصها أو طبيعتها التي تحسنها فإن العاقبة هي الزلل لا محالة، كما قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه (تحفة المولود): "لا تعسف الشاب بعد أن يكبر عن ما ينافي طبعه –أي: تخصصه- وميوله التي يجيدها ويتقنها لأنه سيقصّر فيها أكثر مما يحسن".
وبعد -يا رعاكم الله-: فإن تطفل المرء على تخصصٍ ليس منه ولا هو من بابته في ورد ولا صدر لهو عين الافتيات والتدخّل فيما لا يعني، وكفى بهذا سوءً ووقوعًا في مخالفة هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "من حسن اسلام المرء تركه ما لايعنيه".
إلا أنه من المؤسف -عباد الله- أن نشاهد في عصر المعرفة والتقدم المعلوماتي ما يسيء إلى آدابها ويعكر صفو موردها, حيث كثر الخلط واللغط وضعف مفهوم التخصص في أوساط الناس وأصبح يشاهد في العيان التطفل على الحاكم والتطفل على العالم والتطفل على المصلح والتطفل على الناصح كُلاً يلتّ ويعجن، ويهرف بما لا يعرف، دون هيبة للمرجعية ولا احترام للتخصص، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أعطوا كلَّ ذي حق حقة".
وكم من عبقريةٍ -عباد الله- مرّغها في الوحل تنازع دنيٍّ في الاختصاص، فلربما رأى الدنيء أن كل جمال تحدٍ له، والغبي يرى في الذكاء عدوانًا عليه، والفاشل يرى في النجاح ازراءً به.
الا فاتقوا الله عباد الله. وحذار حذار من الفوضى، فحذاري يا طالب العلم أن تتحدث فيما ليس عندك من الله برهان، وحذاري أيها الطبيب أن تتطبب فيما لا تعرف، وحذار أيها الكاتب أن تتطفل على موائد العلماء والمصالح العامة وأن تنصب نفسك وصيًا في الطقطقة عليهم ونهش لحومهم فتتنطع في القذاة وتتعامى عن الورم.
ألا فليعرف كل امرىءٍ قدره، وليتقي الله فيما يأخذ وما يذر، فرحم الله امرءًا عرفَ قدرَ نفسه، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، أو علم أو رأى، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمى يوشك أن يرتع فيه.
ولقد أحسن من قال:
إذا كنت ذا لبٍّ فحاذِرْ تطفُّلاً * ولا تقفُ شيئا غير ما أنت عارفُ
لكي لا ترى من يزدريكَ زلةً * فللناس فيما تتدعيه معارفُ
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء:59].
ألا رحم الله امرءًا سمعَ فاعتبر، وأدرك فانتهى، وعلم العاقبة فتفطّن، وحذر الآخرة ورجا رحمة ربه، واستمع القول فاتبع أحسنه، والله جل وعلا يقول: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الاسراء:36]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله وإن خطًأ فمن نفسي والشيطان، فاستغفروا الله إنه كان غفارا.
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن مراعاة التخصص من أهمّ مقومات النجاح والتوازن والاستقرار، حيث لا يبغي بعضٌ على بعض، ولا يموج بعض في بعض، فنقدر للحاكم حكمه، وللفقيه فقهه، وللطبيب طِبّه، وللاقتصادي اقتصاده، ويجمعنا في ذلكم كله مظلة الشريعة الإسلامية، التي تحض على التناصح والتواصي، إاذ لا يعني التخصص ألا يقصر أحد في تخصصه أو لا يعتريه النقص بوجه من الوجوه, كلا, فالكمال لله والعصمة لرسوله -صلى الله عليه وسلم- غير أن من الغلط أن يقصِّر المتخصص فلا يحاسب على تقصيره، لا سيما إذا كان يتعلق بمصالح المسلمين العامة دينيةً كانت أو دنيوية ومنها ما رأيناه قبل يومين لإخواننا المتضررين من السيول الجارفة والذين أضحوا ضحية المقصِّرين والمستهترين بالأمانة التي أوكلها اليهم وليُّ الأمر وحذَّرهم من التقصير فيها أكثر من مره, وبيّن أن المقصِّر سيحاسب كما أن من الغلط تتدافع التخصص لأنه خذلان وإسلام إلى الفوضى, فإذا تنصَّل كلُّ أحد عن مسؤوليته فمن المسؤول إذًا.
ولله ما أحسن مالك بن دينار وقد كان يعضُ في درسه والناس يبكون من حوله فالتفت إلى مصحفه فلم يجده فقال لمن حوله ويحكم كلكم يبكي فمن سرق المصحف؟ فمن سرق المصحف؟ ويحكم كلكم يبكي فمن سرق المصحف؟
وإن من الغلط –أيضًا- تنازع التخصص لأنه تطفّل وافتيات ودخول فيما لا يعني ونشر لفوضى النقد دون محاسبة أو رقابة, كما أننا ينبغي أن نعيَ جميعًا أن مردنا عند التنازع كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فهما المهيمنان علينا وهما اللذان أُمرنا بالرجوع إليهما عند الخلاف, ولا يعني التسليم بالتخصص –أيضًا- ولو كان دنيويا أن لا يتدخل أهل العلم والفقه بالنصح فيه إذا كان لتدخلهم برهان من كتاب الله وسنة رسوله؛ فهذا النبي وهو لا يقول الشعر، لم يصده ذلك عن بيان الحق وعدم تأخيره عن وقت الحاجة حيث قال صلوات الله وسلامه عليه: "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل " رواه مسلم.
وقد أغفل النبي عجز البيت الذي يقول فيه لبيد "وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ"؛ لأن نعيم الجنة لا يزول ولا يحول, وهذا يدل على عدم موافقة النبي لعجز البيت بدلالة الإيماء والتنبيه.
ثم اعلموا -يا رعاكم الله- أن زج المسلم فيما لا يحسن وما ليس من تخصصه لهو مضنة حدوث الزلل واستهداف الناس عليه والوقوع في هوة الافتيات.
ورحم الله أبا المضفر السمعاني حيث رد على أحدهم في كتابه (قواطع الأدلة) قائلاً:
"فكان الأولى به -عفي الله عنه- أن يترك الخوض في هذا الفن ويحيله على أهله؛ فإن من خاض فيما ليس من شأنه فأقلُّ ما يصيبه افتضاحه عند أهله", ورحم الله الحافظ ابن حجر حيث قال: "ومن تكلَّم في غير فنه أتى بالعجائب".
هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه وثنىَّ بملائكته المسبّحة بقدسه وثلّث بكم -أيها المؤمنون- فقال جل وعلا: (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر, وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
التعليقات