عناصر الخطبة
1/أصول الحياة الدنيوية الهانئة 2/أهمية نعمة الأمن للأفراد والمجتمعات 3/للأمن مصدران أساسيان 4/التعليق على حادثة الزلفي والمستفاد منها 5/الواجب علينا نحو مثل هذه الجرائم.اقتباس
وما لذةُ حياةٍ يتوجسُ فيها الفردُ ويخافُ من أنْ يكونَ عُرضةً لنهبِ الناهبين وجشعِ الطامعين، يتوجسُ في الصباح الدوائرَ، ويبيتُ الليلَ مشغولَ الخاطر، إذا أصبح حمل همّ المساء، وإذا أمسى حمل همّ الصباح، خائف يترقب الدوائر ويخشى القوارع؟!
الخطبة الأولى:
الحمد لله القائل: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أيها الأحبة: إن وقفات التأملِ والمراجعةِ للواقعِ الذي نعيشُهُ من النعمِ المتعددةِ مقروناً بالتأملِ بما صَحَّ من السنةِ المُطهرةِ يجعلُ المسلمَ يعرفُ أسرارَها، ويستضيءُ بأنوارِها، فتنشرحُ النفسُ، وتحلو الحياةُ، ويتفتقُ البيانُ بآياتِ الحمدِ والثناءِ على المنعمِ المنانِ بما أعطى من نعمٍ لا حُدُودَ لها.
ومن عَظِيمِ ما رُويَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا". وفي رواية: "فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا"(رواه الترمذي وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني).
الله أكبر أيها الإخوة: إنَّها كلماتٌ يسيرات، حوتْ معنى الحياةِ الحَقةِ والاستقرارِ الدائمِ، بل إنها كلماتٌ ترسمُ للمرءِ صورةَ الحياةِ بكلِ تفاصيلِها؛ حُلوِها ومرِها، وسهلِها وصعبِها، على أَنَّها لا تتجاوزُ هذه المعاييرَ الثلاثة، والتي لا يمكنُ لأيِّ كائنٍ بشريٍ عاقلٍ أن يتصوَّرَ الحياةَ الدنيوية الهانئةَ بدونِ توافرِها، وماذا في الدنيا أكثرَ من هذا؟ عافيةُ البدن، وتوفرُ القوت الذي يشبعه، والمأوى الآمنُ له. ولو بحث الإنسانُ عن شيءٍ وراءَ ذلك لم يجدْ بعد ذلك شيئاً، فالدنيا كلُها بين يديه بمتعِها.
إنها عباراتٌ سهلةٌ على كلِ لسانٍ، غيرَ أنَّ وصفَ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لها بكونها تعادل حيازة الدنيا بحذافيرها يجعل ُكل واحدٍ منا يتأمّلُ ويدققُ النظرَ في أبعادِ هذه المعاني، وتنْزيلِها على واقعِ حياتنا جميعاً، ومدى تأثيرها فينا وجوداً وعدماً، إيجاباً وسلباً.
أمنُ المرءِ في سِرْبِهِ -أيها الأحبة- مطلبُ الأفرادِ والمجتمعات على حدٍّ سواء، وهو الهدفُ المرتقبُ لكلِ المجتمعاتِ بلا استثناءٍ على اختلافِ مشارِبِها، ثم إن إطراءَ الحياةِ الآمنةِ هو ديدنُ كافةِ المنابر؛ وذلك للصلةِ الوثيقةِ بينه وبين إمكانيةِ استقرارِ المجتمعات، وإلا فما قيمةُ لقمةٍ يأكلُها المرءُ وهو خائفٌ، أو شربةٍ يشربُها الظمآنُ وهو متوجِّسٌ قلِق، أو غفوةٍ من نومٍ يتخللُها يقظةُ وسْنَانٍ هلع، أو علمٍ وتعليمٍ وسطَ أجواءٍ محفوفةٍ بالمخاطر؟!
وما لذةُ حياةٍ يتوجسُ فيها الفردُ ويخافُ من أنْ يكونَ عُرضةً لنهبِ الناهبين وجشعِ الطامعين، يتوجسُ في الصباح الدوائرَ، ويبيتُ الليلَ مشغولَ الخاطر، إذا أصبح حمل همّ المساء، وإذا أمسى حمل همّ الصباح، خائف يترقب الدوائر ويخشى القوارع؟!
ومن أجلِ الأمنِ –أحبتي- جاءتْ الشريعةُ الغراءُ بالعقوباتِ الصارمةِ، والحدودِ الرادعةِ تجاه كلِ مُخلٍّ بالأمن كائناً من كان، بل وأغلقت أبواب التهاون في تطبيقها، أيّاً كان هذا التهاون، سواء كان في تنشيط الوسطاء في إلغائها، أو في الاستحياء من الوقوع في وصمةِ نقدِ المجتمعاتِ التي تدعي الحضارةَ، ومعرّةَ وصفهم للغير بالتخلف بسبب تطبيقها.
وحين يدبُّ في الأمةِ داءُ التوجسِ الأمني؛ فإن المتسببين في ذلك يهيلون التراب على أمتهم، ويقطعون شرايين الحياة الآمنة على الأجيال الحاضرة والآمال المرتقبة.
أيها الإخوة: إن إصباح المرءِ المسلم آمناً في سربه لَهُو من أوائل بشائر يومه وغده، وما صحّة البدن وقُوت اليوم إلا مرحلة تالية لأمنه في نفسه ومجتمعه، إذ كيف يصحّ بدنُ الخائف؟! وكيف يكتسبُ من لا يأمنُ على نفسه وبيته؟!
ولأجل هذا كان لزاماً علينا أن نقدر حقيقة الأمن الذي نعيشه، وأن نستحضره نُصب أعيننا بين الحين والآخر، حتى لا نكون مع كثرة الإمساس له فاقدي الإحساس به، ولا سيما حينما نطالع يمنةً ويسرة لنرى بعض الأقطار الملتهبة بالصراع.. والتي يطحن بعضها بعضاً من داخلها، أو بما هو أدهى وأمر من خلال سطوة البغاة عليها واجتياح العدوان المسلّح لها، استباحةً لأرضها، وانتهاكاً لحرماتها.
أيها الأحبة: في نظري أن للأمن مصدران أساسيان، الأول: القوة القضائية والسلطة التنفيذية، ولن تتمكن أي دولة مهما أوتيت من الإمكانات البشرية والمادية والتقنية أن تحفظ الأمن على التمام بهذا المصدر وحده، إذا لم يصاحب هذه السلطة المصدر الثاني: وهو الوعي الشعبي بأهمية الأمن بصورته الكاملة، والانتماء إلى الأمة والوطن، وطاعة أولي الأمر بالمعروف، والصدور بالأفعال عن أهل العلم والفتوى، واعتبار ذلك من الدين، واستجابة لرب العالمين القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)[النساء:59]، وأن أي خرق لهذا الأمن، وأي انتماء لجهة مشبوهة يعد خروجاً على ولي الأمر..
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا…
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: لقد راعنا وأقض مضاجعنا ما حدث صباح الأحد الماضي السادس عشر من هذا الشهر من هجومٍ إرهابي استهدف مركز مباحث محافظة الزلفي الذي تم –بحمد الله- إحباطه، فسلم الله رجال الأمن من القتل، ولله الحمد، وباء الباغون بسوء عملهم فقتلوا جميعاً وهذا الاعتداء جريمة شنيعة لما فيها من الإفسادِ في الأرض وزعزعةِ الأمن في هذا البلد الطاهر، ولما فيها من سفكٍ للدم الحرام وبثٍّ للفزع بين المواطنين، ثم ما ينطوي عليه من استهانة بالمؤسسات الأمنية التي ترعى الأمن وتسهر على حفظه، وما فيه من إشاعةٍ للفتنة التي قال الله عنها: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)[البقرة:191]، وهذا الاعتداء جرم بين في باعثه وغايته وتنفيذه وأثره.
أيها الإخوة: نعم هذا الاعتداء جرم في باعثه وغايته.. فما الباعث لمثل هذه الجريمة وما الغاية منها؟ باعثُها ضلالُ الفكرِ وفسادُ المنهجِ والفهمِ الخاطئ للدين وتنزيلُ الأدلة على الوقائع. وأما غايته فزعزعة الأمن وبث الفوضى والخروج على ولي الأمر.
أما تنفيذه فهو تنفيذ لجريمة قتل عمد لأنفس معصومة من رجال الأمن الذين يحرسون أمن هذا البلد ويقومون عليه، قتل لأنفس حرم الله إزهاقها وتوعد القاتل بأعظم وعيد فقال: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النساء:93]، وتوعد عليه رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَقَالَ "لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا"، وَقَالَ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ"(رواه البخاري)
"فِي فُسْحَةٍ" أي: سعة من دينه يرتجى رحمة الله ولطفه، ولو باشر الكبائر سوى القتل، فإذا قتل ضاقت عليه ودخل في زمرة الآيسين من رحمة الله -تعالى-، ومعنى "وَرَطَاتِ" جمع ورطة وهي الشيء الذي قلما ينجو منه، أو هي الهلاك. "لاَ مَخْرَجَ" لا سبيل للخلاص منها. "سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ" قتل النفس المعصومة. "بِغَيْرِ حِلِّهِ" بغير حق يبيح القتل.
وقَالَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا فَاعْتَبَطَ بِقَتْلِهِ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً"(رواه أبو داود عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ وصححه الألباني). ثم إن محاولة القتل افتئاتٌ على ولي الأمر وانتهاك لسلطانه؛ ذلك أن حفظ دماء الرعية والأمر بالقتل هي من اختصاصه حسب الشرع، ولا يجوز لكائن من كان أن ينتهك هذه الولاية.
أما أثر هذا الجرم فكبير في الحاضر والمستقبل لما ينطوي عليه من استهانة بالولاية وبث للخوف والذعر والفرقة بين المواطنين، ويسر كلَ عدوٍ ويُفْرِحُهُ..
والواجب علينا استنكارُ هذا الحادث الآثم، وتجريم فاعليه، وحشانا أن نفرح بمثله. والحمد لله أن طهر أيدينا منه، ونسأله أن يطهر ألسنتنا وقلوبنا من الاغتباط به.
أيها الإخوة: وبفضل الله وتوفيقه تلا هذا الحادث بيومين تنفيذ حكم القتل تعزيراً وإقامة حد الحرابة في سبعٍ وثلاثين رجلاً من الجناة لتبنيهم الفكر الإرهابي المتطرف، وتشكيل خلايا إرهابية للإفساد والإخلال بالأمن، وإشاعة الفوضى وإثارة الفتنة الطائفية، والإضرار بالسلم والأمن الاجتماعي، ومهاجمة المقار الأمنية باستخدام القنابل المتفجرة، وقتل عدد من رجال الأمن غيلة، وخيانة الأمانة بالتعاون مع جهات معادية بما يضر بالمصالح العليا للبلاد.
أحبتي: وعلينا أن ننتبه ونحذر كل الحذر من الأطروحات الشاذة ونعرض كل ما يعنّ لنا أو يطرح علينا على أهل العلم الثقات الذين يصدرون من الفهم الصحيح للكتاب والسنة.
وأن نترحم على من قضى من رجال أمننا البواسل الذين فدوا بأرواحهم أمن بلادنا واستقرارها؛ فها نحن ننعم بوارف الأمن بفضل الله ثم بما يقومون عليه من حراسة لهذا الوطن.
فأمن هذا البلد ليس أمناً لنا نحن المواطنين والمقيمين فحسب بل هو أمن لأمة الإسلام التي تؤمه لما يحويه من الحرمين والمشاعر المقدسة.
اللهم احم بلادنا وأهلها والمقيمين فيها من كل شر، وارزقهم التقوى ظاهراً وباطناً وادفع عنا الشرور والفرقة بحولك وقوتك، اللهم أعنا ولا تعن علينا وانصرنا ولا تنصر علينا.
اللهم اغفر لمن قضى من رجال أمننا واجعلهم من الشهداء يا رب العالمين، واحفظ الأحياء وسددهم واشف جرحاهم..
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين..
اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك واكلاءه برعايتك وهيئ لها بطانة الخير وابعد عنه بطانة السوء يا رب العالمين..
وصلوا وسلموا...
التعليقات