اقتباس
أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها
الشيخ صلاح نجيب الدق
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
أما بعد:
فإن زينب بنت جحش هي إحدى أمهات المؤمنين اللاتي قال الله تعالى عنهن: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: 6]؛ فأحببتُ أن أذكر نفسي وإخواني الكرام بشيء من سيرتها العطرة، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
الاسم والنسب:
هي زينب بنت جحش بن رياب بن أسد بن خزيمة، وهي ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم.
أمُّها أميمة بنت عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قصي؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 8، ص: 80].
كنية زينب:أم الحكم؛ [البداية والنهاية لابن كثير، ج: 7، ص: 106].
زواجها من زيد بن حارثة:
زوَّج النبي صلى الله عليه وسلم زينبَ بنت جحش لمولاه زيد بن حارثة، فعاشت معه مدةً من الزمن، ولكنها لم تستمر معه طويلًا رضي الله عنه.
زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها:
قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [الأحزاب: 37].
روى البخاري عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اتقِ الله، وأمسك عليك زوجك، قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا لكتم هذه، قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات))، وعن ثابت: ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ ﴾ [الأحزاب: 37]، نزلت في شأن زينب وزيد بن حارثة.
روى مسلم عن أنس قال: ((لما انقضت عدة زينب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: فاذكرها عليَّ، قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فولَّيتُها ظهري، ونكصت - أي: رجعت - على عَقِبي، فقلت: يا زينب، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أُوامِرَ- أي: أستخير - ربي، فقامت إلى مسجدها - أي: موضع صلاتها من بيتها - ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليها بغير إذن))؛ [مسلم، كتاب النكاح، حديث: 89].
قال الإمام النووي رحمه الله: "قول زيد: ((فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري)) معناه: أنه هابها واستجلها من أجل إرادة النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها، فعاملها معاملة من تزوجها صلى الله عليه وسلم في الإعظام والإجلال والمهابة؛ [مسلم بشرح النووي، ج: 5، ص: 247].
الحكمة من زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش:
تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش لأسباب؛ منها: القضاء على عادة التبني التي كانت منتشرة بين العرب في الجاهلية قبل الإسلام؛ فقد كانت دينًا متوارثًا عندهم، يتبنى أحدهم ولدًا ليس من صلبه، ويجعله في حكم الولد الأصلي، ويتخذه ابنًا حقيقيًّا، له حكم الأبناء من النسب، وفي جميع الأحوال: في الميراث، والطلاق، والزواج، ومحرمات المصاهرة، ومحرمات النكاح، إلى غير ما هنالك مما تعارفوا عليه، وكان دينًا تقليديًّا متبعًا في الجاهلية، كان الواحد منهم يتبنى ولدَ غيره فيقول له: "أنت ابني، أرثك وترثني"، وما كان الإسلام ليقرهم على باطل، ولا ليتركهم يتخبطون في ظلمات الجهالة، فمهَّد لذلك بأن ألهم رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتبنى أحد الأبناء - وكان ذلك قبل البعثة النبوية - فتبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، وأصبح الناس يدعونه بعد ذلك اليوم: زيد بن محمد.
روى الشيخان عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: ((أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن؛ ﴿ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب: 5])) [البخاري حديث: 4782، مسلم حديث: 2425].
زوَّج النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة بابنة عمته زينب بنت جحش، وقد عاشت معه مدةً من الزمن، ولكنها لم تطل، ولحكمة سامية أرادها الله تعالى طلق زيد بن حارثة زينب، ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها ليُبطِلَ بدعة التبني، ويقيم أسس الإسلام، ويأتي على الجاهلية من قواعدها، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يخشى من ألسنة المنافقين والفجار أن يتكلموا فيه ويقولوا: تزوج محمد صلى الله عليه وسلم امرأة ابنه، حتى أنزل الله تعالى: ﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [الأحزاب: 37]، وهكذا انتهى حكم التبني، وبطلت تلك العادات التي كانت متبعة في الجاهلية، وكانت دينًا تقليديًّا لا محيد عنه، ونزل قوله تعالى مؤكدًا هذا التشريع الإلهي الجديد: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 40].
نزول آية الحجاب في منزل زينب:
روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام، وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا، فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 53]))؛ [البخاري حديث: 4791، مسلم حديث: 1428].
حديث المغافير:
روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش، ويشرب عندها عسلًا، فتواصيتُ أنا وحفصة أنَّ أيَّتَنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلتَ مغافير، فدخل على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: لا، بل شربت عسلًا عند زينب بنت جحش، ولن أعود له، فنزلت: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ﴾ [التحريم: 1] إلى ﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ ﴾ [التحريم: 4] لعائشة وحفصة: ﴿ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا ﴾ [التحريم: 3]؛ لقوله: بل شربت عسلًا))؛ [البخاري حديث: 5267، مسلم حديث: 1474].
قال الإمام النووي رحمه الله: "(مغافير) جمع مغفور، وهو صمغ حلو، وله رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له: العرفط يكون بالحجاز"؛ [مسلم بشرح النووي، ج: 5، ص: 334].
علم زينب بنت جحش رضي الله عنها:
روت زينب بنت جحش عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر حديثًا، اتفق البخاري ومسلم لها على حديثين، وروى عنها: ابن أخيها محمد بن عبدالله بن جحش، وأم المؤمنين أم حبيبة، وزينب بنت أبي سلمة؛ [سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 2، ص: 218، 212].
فضائل زينب بنت جحش رضي الله عنها:
(1) روى مسلم عن زينب بنت أم سلمة قالت: ((كان اسمي "بَرَّة"، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، قالت: ودخلت عليه زينب بنت جحش، واسمها "برة" فسماها زينب))؛ [مسلم حديث: 2142].
(2) روى مسلم عن عائشة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أسرعكن لحاقًا بي أطولكن يدًا، قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يدًا، قالت: فكانت أطولنا يدًا زينب؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق))؛ [مسلم حديث: 2452].
(3) روى البخاري عن عائشة قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال لزينب: ماذا علمت، أو رأيت، فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرًا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع))؛ [البخاري حديث: 4141].
وفاة زينب بنت جحش رضي الله عنها:
روى ابن سعد عن نافع عن ابن عمر: ((أن الرجال والنساء كانوا يخرجون بهم سواءً، فلما ماتت زينب بنت جحش، أمر عمر مناديًا فنادى: ألَّا يخرج على زينب إلا ذو رحم من أهلها، فقالت بنت عميس: يا أمير المؤمنين، ألا أريك شيئًا رأيتُ الحبشة تصنعه لنسائهم؟ فجعلت نعشًا وغشته ثوبًا، فلما نظر إليه قال: ما أحسن هذا! ما أستر هذا! فأمر مناديًا فنادى أن اخرجوا على أمِّكم))؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 8، ص: 88].
توفيت زينب بنت جحش رضي الله عنها سنة عشرين من الهجرة، وكان عمرها ثلاث وخمسين سنة، وكانت أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم لحوقًا به، وصلى عمر بن الخطاب على زينب بنت جحش، فكبر عليها أربع تكبيرات؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 8، ص: 8 - 91].
رحم الله تعالى زينب بنت جحش رحمةً واسعةً ورضي عنها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
التعليقات