اقتباس
مصيبة المصائب: أن الذي تولى إفك التمييع، وهذه المهمة عدد من المنتسبين إلى أهل الإسلام والدعوة الذين يتسمون بأسماء المسلمين، ولكنهم في الحقيقة ينقضون بناء الشريعة حجراً حجراً، وبعضهم يظن أن ما يفعله هو أمر طيب في صالح الشريعة، وبعضهم...
في زمنٍ كثُرت فيه الفتن، واشتدت المحن، وتكالبت صروف الدهر ونوائبه على أمة الإسلام، وماجت عهود الناس ومواثيقهم، واستشرى الجهل بالدين، وتميعت عقيدة المسلمين، تبرز أهمية حركة تصحيح المسار، المتمثلة في الدعوة إلى الله -عز وجل- على بصيرة، وإصلاح أوضاع الناس بالحكمة، وهو ما يعزز فضلَ الدعوة إلى الله، وفضل أصحابها من العلماء والدعاة والمخلصين من أبناء الجماعات الإسلامية، الذين قد حملوا لواءَ تعبيد الناس لربهم، وتصحيح معتقداتهم، وغرس القِيَم والمفاهيم الصحيحة في قلوبهم، رغم ما يلاقون من الأذى والاستهزاء، وسائر صنوف الابتلاء، ولا يَزِيدهم ذلك مع مرور الأيام إلا رفعةً وعزة ومكانة في قلوب الناس.
ويكفي في بيان فضلهم وحاجة الناس إليهم، ما وصفهم به الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- بقوله: "الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم".
ولكن ذلك الفضل لا يكتمِل حتى يكونَ الدعاة على علمٍ بالأسس الصحيحة التي يبنون عليها دعوتَهم، والمعالِم المنهجية المترابطة التي ينبغي عليهم أن يلتزموا بها، النابعة من قوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108].
ومن هذه المعالم: الوضوح والبيان بأن يصدَحَ الداعية بدعوته، موضحًا لأتباعه المنهج الذي يسعى لنشره، والطريقة التي يسير عليها، والوسائل التي يستخدمُها، والغاية التي يُرِيد أن يصل إليها، والابتلاءات التي قد يُلاقيها بسبب دعوته، لا أن تكون دعوتُه محلَّ غموض أو خفاء، بل في غاية من الوضوح له أولًا، ولمن تبعه ثانيًا؛ مصطحبين ذلك الوضوحَ في جميع مراحل الدعوة، حتى يكونوا على بيِّنة من أمرهم، وأولى قضايا الوضوح الدعوي التي ينبغي الاعتناء بها، هي قضايا التوحيد، وأسس العقيدة الصحيحة، لا أن تكون الدعوة مجرَّد مواعظ مؤثِّرة، وخطبٍ رنَّانة، تزول بزوال المؤثر، ليفاجأ الداعية عند أول محنة تساقُطَ الأتباع، وقلة النصير، بسبب غياب هذا المَعْلَم في بداية الطريق .
ومن أبرز وأهم هذه المعالم: التميز والشموخ؛ أن تكون هذه الدعوة متميزةً بمنهجها، مستقلةً بتصوراتها ونظرتِها نحو الكون والخلق وموقع الإنسان في منظومة الحياة؛ هدفاً وغاية ومكانة وأثراً، ونظرته التغيير المنشود، لا أن تكون عقلانيةَ محضة لا سماوية التصور، أو عاطفيةَ هوائية جامحة سريعة التأثر بضواغط البيئة وفواعل الأعداء، تقبعُ في أَسْر الهزيمة النفسية، الداعية إلى التأثر بالأطروحات المخالفة في الخارج، أو التخبطات القيادية في الداخل، بل ينبغي أن تكون هذه الدعوة كالشامة في جبين الدعوات المنحرفة، متميزة بامتلاكها معالِم الطريق القويم لتمكين هذا الدين، وعودة شريعة ربِّ العالمين، لتكون هي الحاكمةَ والسائدة، لينعمَ بها الناس سعادة الدنيا، ونجاة الآخرة، وبذلك يحصل لهم الفلاح، وهي الغاية العظمى، والمنتهى الأسمى لهذه الدعوة.
لذلك كان التميع وهو نقيض التميز والاستقلال هو من أشد الأمراض التي تعترض طريق الدعاة في دعوتهم إلى الله.
أولاً: التميع لغة واصطلاحاً:
التميع في اللغة له عدة تعريفات متقاربة كما قال أهل اللغة، قال الخليل الفراهيدي والأزهري وابن سيده وابن منظور وغيرهم: "ميع: ماع الماء، يميع ميعاً، إذا جرى على وجه الأرض جرياً منبسطاً في هيئته، وكذلك الدم،.. والسراب يميع، وميعة الشباب أوله ونشاطه ، والميْعة: شيء من العطر، وفي حديث ابن عمر: أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن، فقال: "إن كان مائعاً فأرِقه، وإن كان جامِداً فألْقِ ما حوله"، قال أبو عبيد في قوله: إن كان مائعاً أي ذائباً، ومنه سميت الميْعة لأنها سائلة، وقال أحمد بن فارس في "مقاييس اللغة": "موع: الميم والواو والعين: ماع الصفر والفضة في النار يموع ويميع ذاب. وقيل: ميْعةُ كل شيء: معظمه. والمائِعةُ: ضرب من المطر. وفي حديث فضائل المدينة: "لا يريدها أحد بكيد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء" أي يذوب ويجري.
والخلاصة: أن التميع هو السائل والمنحل من الماديات والمعنويات.
أما في الاصطلاح فهو مشتق من المعني في اللغة، فالتميع هو التحلل من ثوابت الدين وترك أخذ الكتاب بقوة، وذلك بحجج وشبهات باطلة أو لمصالح موهومة، أو خشية من وصم الدين بما ليس فيه من أباطيل وأكاذيب، أو استجابة لضغوط الواقع وهجمات أعداء الدين.
ثانيا: موقف الشرع من التميع:
وقف الشرع موقفاً صلباً وحاسماً من قضايا التمايز بين الحق والباطل والكفر والإيمان، وذلك بأول خطابات الشرع الحاسمة من مفاوضات المشركين مع رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) [الكافرون: 1 - 2]، والتي قطعت فكرة أنصاف الحلول، أو التنازل عن بعض ثوابت الدين من أجل رضا بعض الشانئين والكارهين لحقائق الدين.
فالشارع الحكيم حسم قضية التميز والاستعلاء بالدين منذ أيام الدعوة الأولى، فمهما كانت الضغوط والمغريات، ومهما كان الاستضعاف والقلة إلا إن ثوابت الدين لا تنازل فيها، يقول الحق -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة: 104]، وفي قوله: (لا تَقُولُوا رَاعِنَا) نهي عن لفظة بكلمة واحدة، ما جلالتها وخطورتها؟ ما أهميتها وعظمتها حتى تتنزل فيها آيات تتلى إلى يوم قيام الساعة؟! قال ابن كثير -رحمه الله-: "نهى الله -تعالى- المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية؛ لما يقصدونه من التنقيص -عليهم لعائن الله-! فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون لرسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: راعنا، يورون بالرعونة، يقولون: راعنا، ويقصدون الرعونة والطيش والخفة، ينتقصون بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، ويستهزئون به، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلوون ألسنتهم بذلك طعناً في الدين، فنهى الله -عز وجل- عن ذلك. قال ابن كثير: وكذلك جاءت الأحاديث بالأخبار عنهم بأنهم إذا سلموا إنما كانوا يقولون: السام عليكم، والسام: هو الموت، قال: والغرض أن الله نهى عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً".
فهذه الكلمة لما كان فيها مدخل موافقة، ومزلة اختلال في المعنى، وإرادة إشاعة من اليهود - عليهم لعائن الله- نهانا الله عنها، وأمرنا أن يكون لنا غيرها حتى نتميز ونتفرد، وحتى نبتعد عن كل شبهة ورذيلة كان عليها أولئك القوم، بدلاً من "راعنا" قولوا: "انظرنا"، وهي كلمة لا التباس فيها ولا اشتباه، كلمة مكان كلمة، ومع ذلك أمر الله -عز وجل- بها، وتنزلت بها آياته، فما بالكم بما هو أعظم من ذلك وأجل؟! قال ابن عطية في تفسيره عند هذه الآية: نهى الله –تعالى- المؤمنين عن القول المباح سداً للذريعة؛ لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور، فمطلوب منا أن نقطع الطريق على كل من يريد الإساءة إلى ديننا وإلى نبينا -صلى الله عليه وسلمَ-، ويقصد إلى ذلك بالطرق الملتوية، والأساليب المخادعة. ورد: أن الفاروق عمر بن الخطاب وقعت في يده بعض صحف من التوراة، فحملها ليقرأ منها عند رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، قال: "فرأيت الغضب في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، واحمر وجهه، ثم قال: "أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! ويحك والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا إتباعي".
قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا * مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) [النساء: 44 - 46]، قال ابن كثير: "يخبر تبارك وتعالى عن اليهود -عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة- أنهم يشترون الضلالة بالهدى، ويعرضون عما أنزل الله على رسوله -صلى الله عليه وسلمَ-، ويدعون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الآخرين عليهم السلام في صفة محمد -صلى الله عليه وسلمَ-؛ ليشتروا به ثمناً قليلاً من حطام الدنيا، (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) يودون أن تكفروا بما أنزل عليكم أيها المؤمنون، وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع، (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ)، وهذا إخبار على سبيل التحذير، (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ) لا يريدون بكم خيراً، ولا يقصدون بكم حسناً، وهو أعلم بهم سبحانه وتعالى ويحذركم منهم".
أما من السنة النبوية؛ فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- النهي عن التشبه، والتحذير منه: "من تشبه بقوم فهو منهم"، وكثرت النصوص والآيات والأحاديث المحذرة من تلك الموافقات هنا أو هناك، بل أخبر النبي -صلى الله عليه وسلمَ- عما يكون من طائفة من أمته في آخر الزمان: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!" أي: فمن غيرهم؟"، وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس مرفوعاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- أنه قال: "صوموا يوم عاشوراء خالفوا اليهود، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده"، وقد ذكر ابن حجر المراد من ذلك، فقال رحمه الله: "لما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام، أحب عليه الصلاة والسلام مخالفة أهل الكتاب"، وقال بعض الشراح: "وأقل أحواله الدلالة على الاستحباب".
وروى مسلم في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لئن بقيت إلى قابلٍ لأصومن التاسع"، فمات عليه الصلاة والسلام قبل ذلك، قال الشراح: "ظاهره أنه كان يصوم العاشر، وهم بصوم التاسع، فمات قبل ذلك، ثم ما هم به من صوم التاسع يحتمل معناه أنه لا يقتصر عليه، بل يضيفه إلى اليوم العاشر إما احتياطاً له وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح".
وقصد النبي -صلى الله عليه وسلمَ- مخالفة اليهود في صوم عاشوراء، وغيرها لأسباب كثيرة، وحكم عظيمة:
منها: ألا يكون لأولئك القوم المتكسبون بدين الله، المتحايلون على شرائع الله مدخلاً لإثارة الشبهات، فإنهم يقولون: إنما فعلوا ذلك موافقة لنا، ومتابعة لنا، وليس عندهم شيء، وما جاءوا به إنما هو من آثار ديانتنا وكتبنا، فيبلبلون العقول والأفكار، ويروجون الشبهات، وذلك ديدنهم، بل بعد هذه الآيات قد أورد الحق -سبحانه وتعالى- قوله جل وعلا: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [البقرة: 106]؛ لأنه لما توجه النبي -صلى الله عليه وسلمَ- زماناً إلى بيت المقدس، وجعلها قبلته، ثم تحول قالوا مقالتهم: إما أن يكون على حق في الأولى فهو على باطل فيما قصد إليه من التوجه للكعبة، وإما أن يكون على باطل فأي دين هذا الذي يكون فيه الخلل والخطأ؟! فرد الله -عز وجل- عليهم أن ذلك أمر الله وهذا حكمه، وجعل ذلك تميزاً وتفرداً لأمة الإسلام.
ومنها: قصد النبي -صلى الله عليه وسلمَ- مخالفة اليهود والمشركين وغيرهم قصداً كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام: "خالفوا المشركين" في رواية البخاري، وفي رواية مسلم: "خالفوا المجوس، أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى"، فقصد المخالفة لبيان التميز والتفرد، وأن الذي وقعت به المخالفة هو الكمال الأتم والأفضل؛ لأنه لا يكون في هديه صلى الله عليه وسلمَ وسنته إلا ما هو الأعظم في تعظيم الله -عز وجل-، والأفضل في عبادته سبحانه وتعالى.
ثالثاً: مظاهر التميع في الدين:
في مرحلة الاستضعاف التي تعيشها الأمة تتعرض لحملة شرسة من أعداء الدين، ومن أسوأ تداعيات هذه الحرب الضروس تسلل كثير من الخراب في الفكر والعقيدة إلى نفوس بعض المسلمين ممن حملوا معاول الهدم، يشعرون أو لا يشعرون، ولكنك لا يمكن أن تغمض عين البصيرة عن الروابط التي تربط أعداء الدين في الخارج مع أعداء الدين داخلنا وبيننا؛ لأن الإغماض عن ذلك نوع من الغفلة، لا يمكن أن يليق بمسلم صاحب بصيرة.
ومعاول الهدم كثيرة في هذه العقيدة من أبرزها معول التميع، بتمييع عدد من أحكام الدين، وشعائر الدين، وعدد من المسلمات والثوابت في هذه الشريعة المطهرة.
ومصيبة المصائب أن الذي تولى إفك التمييع، وهذه المهمة عدد من المنتسبين إلى أهل الإسلام والدعوة الذين يتسمون بأسماء المسلمين، ولكنهم في الحقيقة ينقضون بناء الشريعة حجراً حجراً، وبعضهم يظن أن ما يفعله هو أمر طيب في صالح الشريعة، وبعضهم يفعل ما يفعل عن تعمد واستمداد من أهل الباطل والكفر وصناديده.
وهذا التمييع صار في جوانب متعددة من أبرزها:
1- إنكار بعض الغيبيات وتأويلها بمعاني متعسفة تخرج عن مقتضى الفهم الصحيح مجاراة لآراء المستشرقين والعلمانيين ممن يتهمون عقيدة المسلمين بالجمود والتحجر، ذلك لأن عقولهم لا تقبل وجود أشياء غيبية كالملائكة والجن مثلاً؛ لأنهم لا يحسون بها ولا يرونها، فيريدون إنكارها.
2- إنكار معجزات الأنبياء لأنها غيب، وعقولهم لا تتحمل الغيبيات، عقل فاسد وضيق، لا تتحمل عقولهم الغيبيات، فهذا أحدهم يقول: الذي ادعى أنه يحمل الجمع في الفقه بين القرآن والسنة، وألف كتاباً خطيراً جداً في السنة النبوية، يريد أن يزلزلها وينسف ثوابتنا فيها، يقول: على أنه لا صلة للعقيدة بأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أظلته غمامة أو كلمه جماد، والرجل الصالح لا يغمز مكانته إنكاره لهذه الخوارق.
3- إنكار قضية الولاء والبراء على أساس الدين ، واستبدالها بالإخوة الإنسانية والمواطنة والقومية والعرقية إلى آخر تلك الروابط، وهي من أخطر القضايا التي عبث به المميعون ولعبوا على أوتارها لأهداف خارجية كثيرة.
4- تمييع بعض أحكام الفقه وأصول الإسلام، مثل الحدود والربا والاتفاقيات والعلاقات مع أعداء الأمة وتعدد الزوجات، ومن أخطر أنواع التمييع تمييع الحواجز الدينية بين المسلم والكافر، المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله، والذي هو من خير أمة أُخرجت للناس، الموحد لربه، المطيع لنبيه الذي يعتمد الشرع، ويُوفي له، المسلم الذي لا يتحايل على الدين، المسلم الذي يطبق الإسلام، يريدون التمييع في الحد بينه وبين أرباب الديانات الأخرى من اليهود والنصارى وغيرهم من أنواع المشركين.
فالتمييع بين المسلم الحنيف وبين اليهودي الذي هو من الأمة الملعونة، أهل الكذب والبهت، والغدر والمكر والحيل، وقتل الأنبياء، وأكل السحت والربا، أخبث الأمم طوية وأرداهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم إلى النقمة، عاداتهم البغضاء، وديدنهم العداوة والشحناء، أهل السحر والكذب والحيل، هؤلاء الذين سبوا ربهم.
والتمييع بين المسلم وبين النصراني الذي هو من الأمة المثلثة، أمة الضلال وعبّاد الصليب، الذين سبوا الله مسبة لم يسبها أحد، وقالوا كلاماً: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) [مريم: 90]، واليهود والنصارى أهل الكتاب أحسن حالاً من الهندوس والبوذيين وبقية مشركي الأرض، فما بالك بالبقية أيضاً؟
إن الجمع بين هؤلاء ردة ظاهرة وكفر صريح ولاشك، ثم هؤلاء من جلدتنا وبألسنتنا يقولون: إن اجتماع هؤلاء من أجل أن يكون السلام عاماً في العالم هو هدفنا الذي نسعى إليه، وأن تزول العداوات بين أهل الأديان، فهل الإسلام جاء لإزالة العداوات بين أهل الأديان؟ هل جاء الإسلام ليعيش أهل الأديان كلهم متآلفين؟ سؤال خطير جداً -أيها الإخوة-؛ لأن عدداً من الناس يظن الجواب: نعم، هل جاء الإسلام لكي يتصافى المسلمون، واليهود، والنصارى، والمجوس، والهندوس، والبوذيون، يتصافون ويكونون على قلب رجل واحد؟
رابعاً: أسباب ظاهرة التميع في الدين:
1- ضعف الإيمان، وعدم معرفة الله حق المعرفة؛ أما من عرف الله حق المعرفة فإنه سيعلم أنه ذو الحكمة البالغة، ولا يصلح الناس إلا بإتباع أمره واجتناب نهيه، ومن كان يخشى الله حق الخشية فإنه لن يجيب إلا بعلم أو سيسكت بحلم، ولن يفتي إلا بما يدين الله أنه هو الحق، ولن يبحث عن راحة غيره في الدنيا بشقائه في الأخرى.
2- الهزيمة النفسية والانبهار بما عند الغرب من تقدم وحضارة ومدنية مقارنة بأحوال العالم الإسلامي المليئة بالمشاهد المأساوية والتراجع الحضاري، مما انعكس سلباً على نفوس بعض الدعاة والعلماء وتترجم في صغار وذلة من الجهر والصدع بالحقائق إظهار قضايا التمايز والانفراد. وعندما نظر بعض هؤلاء إلى الواقع وما فيه، وتسلط الكفار على المسلمين وهيمنتهم وسيادتهم في العالم بزعمهم، فإنهم تحت هذا الضغط صاروا يقدمون التنازل تلو التنازل، والفتاوى الشاذة باسم الواقع وظروفه، ويفصلون من الإسلام فستاناً يناسب الذوق الغربي.
وكأن الواقع صار عندهم مصدراً من المصادر التشريعية، فكأنهم قالوا: مصادر التشريع القرآن والسنة والقياس والإجماع والواقع، ولا تخلو هذه الانهزامية من نظرة انبهار للغرب ولما عندهم، ولا تخلو هذه الانهزامية وهذا المنهج في التمييع، من التأثر بقادة الانحلال الفكري في المسلمين.
3- حب الظهور بين الناس، والرغبة في البقاء تحت الأضواء لأطول فترة ممكنة ، فيأتي بالفتوى الشاذة، والآراء الغريبة، أو الرخص التي لا تقوم على ساق الدليل؛ لكي يبحث عنه الناس ويشتهر بينهم، وتتنافس عليه الفضائيات؛ ليصدر فتاوى التي وتوافق الأهواء بغض النظر عن قربها وبعدها من موافقة الشرع كالذي بال في زمزم طلباً للشهرة، وحب الظهور يقصم الظهور.
4- حب الدنيا والبحث عن مكاسب زائلة أو الخوف من بطش السلطة أو طلب رضا السلطان أو طلب التفاف الجماهير.
5- غياب -قصداً أو جبراً- العلماء والدعاة الربانيين المخلصين الصادعين بالحق والذين لا يخافون في الله لومة لائم.
6- الهجمة الشرسة من أعداء الإسلام على ثوابت الدين ما استدعى فهماً خاطئاً من قبل بعض الدعاة بالسقوط في حمى التأويل الدفاعي المتعسف للنصوص؛ فالجهاد للدفاع فقط، والجزية ألغتها المواطنة، والحجاب حرية شخصية، والتدين علاقة خاصة لا دخل لأحد بها، والسفور والتبرج والانحلال تحرر ومدنية، إلى آخر هذه التأويلات المتعسفة التي شوهت الدين وطمست حقائقه ناصعة البياض وغيرت كثيراً من نسخة الإسلام الأصلية.
7- الفهم الخاطئ لمفهوم التيسير والسماحة ورفع الحرج في الشريعة؛ فقد أدى الجنوح لهذا الفهم للوقوع في سلسلة لا تنتهي من التميع والتنازل عن ثوابت الدين، فآيات من عينة قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر) [البقرة: 185]، وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28]، وقوله صلى الله عليه وسلمَ: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة" قد فهمت على غير مرادها، فليس المقصود باليسر السهولة والدعة وإلا لم يكن للتكاليف معنى؛ فالأحكام الشرعية تخالف هوى الناس؛ ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، وعندنا في الأحكام الشرعية الصلاة في الأيام الشديدة البرد، ودفع الزكاة، والحج، والجهاد، وإقامة الحدود، وغير ذلك من الأحكام الشرعية التي تخالف هوى النفوس، ومع ذلك لا يشك أحد في كونها من الشرع، ولا يشك أحد في يسر الشرع أيضاً.
وباختصار: فالذي يحدد اليسر، هو الذي ذكر أن هذا الدين يسر، وهو الحكيم الخبير، والدين بنسخته الأصلية ونصوصه السماوية يحمل في ذاته، وطيات نصوصه اليسر والسماحة، ورفع الحرج، لا كما يعتقد المميعون من أن ترك العمل بالنصوص، وتعطيل الآيات والأحاديث، ورفع التكاليف يقود إلى اليسر.
التعليقات