عناصر الخطبة
1/عظم حق الوالدين 2/صور من رحمة الأم بأولادها 3/من ثمرات بر الأم وفضله 4/من بر السلف بأمهاتهم 5/الحث على إصلاح العلاقة مع الأماقتباس
حتّى إذا صَلُبَ عودُك، وأزهرَ شبابُك، كنتَ أنتَ عُنوانَ فخرِها، تُسَرُّ بسماعِ أخبارِك، وتَسعدُ برؤيةِ آثارِك، إذا غبتَ عن عينِها رافقتْك دعواتُها، وإذا حضرتَ عندَها تابعتْك نظراتُها، تَبذلُ لك كلَّ ما في وُسعِها، ولا ترجو منك أجراً...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنّ الحمدَ للهِ, نحمدُه ونستعينُه ونستهديه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا, من يهده اللهُ فلا مضلَّ له, ومن يضللْ فلا هاديَ له, وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له, وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه, صلّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا, أمّا بعدُ:
عبادَ الله: لقد عظَّمَ اللهُ حقَّ الوالدَينِ ووصَّى بالإحسانِ إليهما، وقَرَنَ حقَّه بحقِّهما, فقالَ -تعالى-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[الإسراء: 23], واختَصَّ الأمَّ بمزيدٍ من التعظيمِ والتشريفِ والتكريم؛ لمَا تلاقيهِ وتعانيهِ من آلامِ الحملِ والوِلادةِ والرّضاعة، قالَ -تعالى-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا)[الأحقاف: 15].
الأمُّ تلك الكلمةُ القصيرةُ في مبناها، الكبيرةُ في معناها، عِمادُ البيتِ ونبعُ الحنان، والصّدرُ الحنونُ والنّهرُ المتدفِّقُ بالحبِّ والأمان، يَطيبُ الحديثُ بذكراها، ويَسعدُ القلبُ بلقياها، أحسنَتْ إليك منذُ كنتَ جنينًا في رَحِمِها، فكم مِنْ أنَّةٍ خالجتْها، وزَفرةٍ دافعتْها!.
تُسرُّ بحركتِك، وتَقلقُ بسكونِك، وتَشتاقُ لرؤيتِك، فإذا حانتْ ساعةُ ولادتِك، فإنّها تعاني من الآلامِ ما تكادُ تَزهقُ معه روحُها، فإذا رأتْكَ وشمَّتْكَ وضمَّتْكَ إلى صدرِها؛ نسيتْ آلامَها وتناستْ أوجاعَها، وعلّقتْ فيك آمالَها، فكنتَ أنتَ شغلَها في ليلِها ونهارِها، تخافُ عليك من اللمسَة، وتُشفقُ عليك من الهمسَة، حتّى إذا صَلُبَ عودُك، وأزهرَ شبابُك، كنتَ أنتَ عُنوانَ فخرِها، تُسَرُّ بسماعِ أخبارِك، وتَسعدُ برؤيةِ آثارِك، إذا غبتَ عن عينِها رافقتْك دعواتُها، وإذا حضرتَ عندَها تابعتْك نظراتُها، تَبذلُ لك كلَّ ما في وُسعِها، ولا ترجو منك أجراً، فسبحانَ ربِّيَ الذي جعلَ قلبَ الأمِّ آيةً من آياتِه، ونعمةً من فيضِ هِباتِه!.
أيُّ رحمةٍ تلك التي في قلوبِ الأمّهات؟! تقولُ عَائِشَةُ -رضيَ اللهُ عنها- جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلاَثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِى صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ", إنّها الأمُّ وكَفَى.
لأمِّك حقٌّ لو علمتَ كبيرُ *** كثيرُك يا هذا لديه يسيرُ
فكم ليلةٍ باتتْ بثِقْلِك تشتكِي *** لها من جَواها أنَّةٌ وزَفِيرُ
وفي الوَضعِ لو تدرِي عليك مشقّةٌ *** فمن غُصَصٍ منها الفؤادُ يَطيرُ
وكم غَسّلتْ عنك الأذى بيمينِها *** وما حِجْرُها إلا لديك سريرُ
وكم مرَّةٍ جاعت وأعطتْك قوتَها *** حُنُوًّا وإشفاقًا وأنت صغيرُ
فدونَك فارغبْ في عميمِ دعائِها *** فأنت لمَا تدعو إليه فقيرُ
فما أكبرَ حقَّ الأمِّ, وما أعظمَ أجرَ برِّها!؛ ففي بِرِّها مغفرةُ الذّنوبِ والفوزُ بالجنّة، والتوفيقُ والبركةُ وقبولُ العملِ واستجابةُ الدّعاء، جاءَ رجلٌ إلى النّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسولَ اللهِ! أردتُّ الغزوَ وجئتُ أستشيرُك, فقالَ: "هل لك من أمّ؟", قالَ: نعم، قالَ: "فالزمْها؛ فإنَّ الجنّةَ عندَ رجليْها", وجاءَ رجلٌ إلى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: "هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟", قَالَ: لَا, قَالَ: "وَهَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟", قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فبِرَّها".
وجاءَ رجلٌ إلى ابنِ عبّاسٍ -رضيَ اللهُ عنهما-, فذكرَ له أنَّه أذنبَ ذنبًا عظيمًا، وقالَ: هل لي من توبة؟ فقالَ له ابنُ عبّاسٍ: "أمُّك حيّة؟", قالَ: لا، قالَ: "فتُبْ إلى اللهِ وتقرَّبْ إليه ما استطعت", فقيلَ لابنِ عبّاس: لِمَ سألتَه عن حياةِ أمِّه؟ فقال: "إنّي لا أعلمُ عملاً أقربَ إلى اللهِ من برِّ الوالدة", قالَ ابنُ عمرَ -رضيَ اللهُ عنهما- لرجلٍ:" أتخافُ النّارَ أنْ تَدخلَها، وتُحبُّ الجنّةَ أنْ تدخلَها؟", قالَ: نعم، قالَ: "أحيٌّ والِدَاك؟", قالَ: عندي أُمِّي، قالَ: "فواللهِ لئِنْ ألَنتَ لها الكلامَ، وأطعَمتَها الطعامَ، لتدخُلَنَّ الجنّةَ ما اجتَنَبْتَ الكبائرَ".
ولذا كانَ البِرُّ بالأمِّ من خُلقِ الأنبياءِ والصّالحين، قالَ -تعالى- عن عيسى -عليه السّلام-: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)[مريم: 32], وقالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أنْ أسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، واسْتَأْذَنْتُهُ أنْ أزُورَ قَبْرَها فأذِنَ لِي"، فزارَ قبرَها فَبَكَى وَأَبْكَى مَن حَوْلَهُ لبكائِه.
ولقد ضربَ السّلفُ الصّالحُ أعظمَ الأمثلةِ في صورِ برِّهم بأمّهاتهِم، قالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "دَخَلْتُ الجنّةَ فسمعتُ فيها قراءةً فقلتُ: من هذا؟ قَالُوا: هَذَا حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ"، فقالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كذلكم البِرُّ, كذلكم البِرّ", وَكَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ, وأخبرَ النّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن أويسِ القَرَنيِّ أنّه كانَ مُجابَ الدّعاءِ؛ وكانَ أبرَّ النّاسِ بأمِّه.
وكان بُندارُ إمامُ الحديثِ بارًّا بأمِّه، يقولُ: "أردتُ الخروجَ لطلبِ الحديثِ فمنعتْني أمِّي, فأطعتُها؛ فَبْوَرِكَ لي فيه", ويقولُ محمدُ بنُ المنكدرِ -رحمه الله-: "بِتُّ ليلةً أَغْمِزُ رِجْلَ أُمِّي -أيْ أُدَلِّكُها-، وَأخي عُمَرُ باتَ يُصَلِّي، وَمَا أُحِبُّ أنَّ لَيْلَتِي بِلَيْلَتِهِ", (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)[الرحمن: 60].
وإنْ كانَ حقُّ الأمِّ لا يمكنُ أنْ يجزيَها عليه إلا اللهُ -عزَّ وجلّ-، رأى ابنُ عمرَ -رضيَ اللهُ عنهما- رجلاً يطوفُ بالكعبةِ حاملًا أمَّه على رقبتِه، فقالَ الرَّجلُ: يا ابنَ عمر! أتَرى أنّي جزيتُها؟ قالَ: "لا، ولا بطلْقةٍ من طَلْقاتِها، ولكنّك أحسنتَ، وسيثيبُك اللهُ على القليلِ كثيرًا".
فاتّقوا اللهَ -رحمكم الله-، واجتهدوا في برِّ أمهاتِكم، فَهنيئًا لمن كانت أمُّه على قيدِ الحياة، يُسلِّمُ عليها ويَجلسُ إليها ويسامرُها، ويَشُمُّها ويَضُمُّها يُقَبِّلُها، فاحمدِ اللهَ على تلك النِّعمةِ فما أعظمَها من نعمة، واذهبْ إليها الآنَ واجتهدْ في برِّها وانطرحْ عندَ رجليها، واخفضْ لها جناحَ الذّلِّ وقَبِّلْ رأسَها ويديها، وقل لها: يا أمَّاهُ سامحيني.
اذهبْ إليها الآن، وتَمَرَّغْ بالجنَّةِ التي تحتَ قَدَمِها، واملأْ ناظرَيْكَ من وَجْهِها، وسمعَك من صوتِها، وقلبَك من قُرْبِها وريحِها، قبلَ ذهابِها وبُعدِها، فما أقسى مَرارةَ فَقْدِها.
ومن كانتْ أمُّه ميّتةً فبِرُّها لا يَنقطعُ؛ بل يَعظُمُ ويَتأكّدُ، جاءَ رجلٌ إلى النّبيِّ -عليه الصلاةُ والسّلام-، فقالَ: يا رسولَ الله! هل بقيَ مِن برِّ أبويَّ شيءٌ أبَرُّهما به بعدَ موتِهما؟ فقالَ: "نعم، الصّلاةُ عليهما، والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عهدِهما من بعدِهما، وصلةُ الرّحمِ التي لا تُوصَلُ إلا بهما، وإكرامُ صديقِهما".
فأَكْثِرْ لها من الصّدقةِ والدّعاءِ والاستغفار، يقولُ -عليه الصّلاةُ والسّلام-: "إنَّ اللَّهَ -عزَّ وجلَّ- ليرفَعُ الدَّرجةَ للعبدِ الصَّالحِ في الجنَّةِ, فيقولُ: يا ربِّ! أنَّى لي هذِهِ؟ فيقولُ: باستِغفارِ ولدِكَ لَكَ".
وقبلَ الختام هذه همسةُ اعتذارٍ لأمّي ولكلِّ أمٍّ؛ فإنّني أخشى أنْ يكونَ من العقوق أنْ أتحدَّثَ عن فضلِ الأمِّ وبرِّها في دقائقَ معدودة، وهي التي لو تكلّمتُ عنها السّاعاتِ والأيّام، لم أوفِّها حقَّها، ولكنّها إشارة، والحُرُّ تكفيه الإشارة، ونسألُ اللهَ العفوَ والغفران، واللهُ المستعان.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ وكفى، وسلامٌ على عبادِه الذينَ اصطفى، أمّا بعدُ:
عبادَ الله: اتّقوا اللهَ حقَّ التّقوى؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
اللهمَّ اغفرْ لآبائِنا وأمّهاتِنا، ربَّنا ارحمْهم كما ربَّوْنا صغارًا، اللهمَّ اجْزِهم عنّا خيرَ الجزاء، وأحييهم سعداء، وتوفَّهم شهداء، وارفعْ درجاتِهم في عليِّين، مع النبيِّينَ والصّدّيقينَ والشّهداءِ والصّالحين، برحمتِك يا أرحمَ الرّاحمين.
عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، ويقولُ -عليه الصلاةُ والسلام-: "من صلّى عليّ صلاةً صلى اللهُ عليه بها عشْرًا", اللهمّ صلِّ وسلمْ وباركْ على عبدِك ورسولِك نبيِّنا محمدٍ, وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه أبدًا إلى يومِ الدّين.
وأقمِ الصلاةَ إنّ الصلاةَ تَنهى عن الفحشاءِ والمنكر، ولذكرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
التعليقات