عناصر الخطبة
1/الإنسان متقلب الأطوار نابض بالمشاعر 2/الحكمة من الإصابة بالآلام الحسية والنفسية 3/صبر المؤمن على الآلام التي تصيبه 4/أصناف الناس في تعاملهم مع الألم 5/المسلم يشعر بآلام الآخرين ويخفف منها ما استطاع 6/الإشادة بجهود بلاد الحرمين الشريفين في إغاثة المنكوبين في غزةاقتباس
الناس مع الألم أصناف، يتفاوتون على قدر إيمانهم ويقينهم وعزمهم وقوة إرادتهم؛ فمنهم مَنْ يَفقِد توازُنَه، وتهتزُّ قُوَاهُ، وتخورُ عزيمتُه، وتُسلَبُ إرادتُه، ويتسلَّطُ عليه الوهمُ والخوفُ، ويغدو بائسًا يائسًا، ومِنَ الناسِ مَنْ تمدُّه عقيدتُه بالثبات، ويُغذِّيه إيمانُه بالصبر، فيجعلُ من الألم أَمَلًا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي علم كلَّ شيء قبل كونه، فجرى على قدره، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أعلم الخلق بربه، كان شاكرًا في سرائه، صابرًا في ضرائه، رضي عن ربه في كل أحواله فقال الله له: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)[الضُّحَى: 5]، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
خلَق اللهُ الإنسانَ متقلبَ الأطوارِ، ينبِض بالإحساس، ويفيض بالمشاعر، يتألَّم ويَسكُن، ويَضعُف ويَعجَز، يخاف ويأمن، تَعصِف به مراحلُ الحياة في جراحاته وآلامه، وفي مواقف القهر والظلم، والخسارة والحرمان، والفَقْد والوَجْد؛ إنها سُنَّةُ اللهِ في خَلقِه، وطلبُ العيشِ بلا ألمٍ طلبُ محالٍ؛ كما قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ في كَبَدٍ)[الْبَلَدِ: 4]، وهو -سبحانه- مَنْ يُقَدِّرُ الضرَّ والنفعَ.
وما يُصِيب المرءَ من الآلام الحِسِّيَّة فيها والنفسيَّة، بل والعضوية دليلٌ على أن هذه الدنيا دار ابتلاء، قال الله -تعالى-: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)[آلِ عِمْرَانَ: 140].
الألمُ يُوقِظُ من الغفلةِ، ويُعرِّف بالنعمة، ويُرشِد الحيرانَ؛ رحمةً من الله، قد تغيبُ عنَّا حكمتُها؛ فكم من ألمِ مرضٍ عضالٍ غيَّر مجرى الحياة، وكم من ألم نبَّه وأرشَد إلى مرضٍ صامتٍ يَنخَر في الجسم وصاحبُه لا يدري، مرارةُ الألمِ تُذِيقُكَ حلاوةَ الصحة وطعمَ الراحة، وأُنسَ العافية؛ فالألمُ نعمةٌ تستحِقُّ الشكرَ، ومَهمَا امتدَّ فإنَّه زائلٌ، ومَهمَا طالَ فإنَّه ماضٍ، ومهما اشتدَّت حرارتُه فإنَّه إلى أُفُول، ويَعقُبُه فرجٌ وخيرٌ وتمكينٌ؛ يوسف -عليه السلام- تآمَر إخوتُه عليه، وأَلقَوْه في الجُبِّ، وراودته امرأةُ العزيزِ، وكادَتْ له النسوةُ، ودخَل السجنَ، ثم أعقَب سنينَ المعاناة نصرًا وتمكينًا وعِزًّا.
رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مكَر به الماكرون في كل خطوة من خطوات حياته، وكاد له الكائدون في كل مرحلة من مراحل سيرته؛ حتى قال: "أُوذِيتُ في اللهِ وما يُؤذَى أحدٌ"، فماذا كان بعدُ؟ لقد ذهَب المكرُ وأهلُه، والكيدُ وجندُه، إلى مزبلة التاريخ، وتلاشى الألم، وبقيت دعوتُه ورسالتُه وأمته يزهو بريقها، ويمتد إشعاعُها، ويتعاظَم أثرُها، وتشتد جذورُها.
وابتُليت أم سلمة -رضي الله عنها-، وتألمت لفقد أبي سلمة أعز الناس إليها، فأخلف الله عليها بأحب الناس إليه، وأعظم من أبي سلمة؛ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لتصبح له زوجًا وأما للمؤمنين، وذكر القرآن قصة معاناة وألم صحابته رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، هما وغما، هجرهم الأخ والقريب، واعتزلهم الجميع، لا يكلمهم أحد خمسين ليلة، حتى جاءهم الفرج، وزال الألم، وأشرقت حياتهم بتوبة الله وثنائه عليهم، في قرآن يتلى إلى قيام الساعة.
والمسلم يعلم يقينًا أن الألم يعقبه أمل، وفي ردهاته غنيمة، وعاقبتُه حميدةٌ، والخيرُ الآجِلُ لا يُبصِرُه المرءُ في حِينِه، والصبرُ على لأوائه يُفجِّر سيلًا من الحسنات، كم من الهموم والغموم التي تُخيِّم على حياتنا، ثم تنقشعُ بفجرٍ صادقٍ ويومٍ مشرقٍ؛ وهناك عاقبةٌ متحققةٌ، في دارٍ خلودُها دائمٌ، ونعيمُها قائمٌ، هي عزاءٌ لكل متألِّم، وعِوَضٌ لكل مغبونٍ؛ حتى إنَّه لَيُغمَسُ في الجنةِ غمسةً واحدةً فيقال له: "هل رأيتَ بؤسًا قطُّ؟ هل مرَّ بكَ شدةٌ قَطُّ؟ فيقول: لَا واللهِ يا ربِّ، ما مرَّ بي بؤسٌ قَطُّ، ولا رأيتُ شدةً قَطُّ".
والناس مع الألم أصناف، يتفاوتون على قدر إيمانهم ويقينهم وعزمهم وقوة إرادتهم؛ فمنهم مَنْ يَفقِد توازُنَه، وتهتزُّ قُوَاهُ، وتخورُ عزيمتُه، وتُسلَبُ إرادتُه، ويتسلَّطُ عليه الوهمُ والخوفُ، ويغدو بائسًا يائسًا، ومِنَ الناسِ مَنْ تمدُّه عقيدتُه بالثبات، ويُغذِّيه إيمانُه بالصبر، فيجعلُ من الألم أَمَلًا، ومِنَ الحزن فرحًا، ومن الضَّعْف قوةً؛ ومع كل هذا؛ فإنَّ المسلمَ المهتديَ يَفقَهُ وجوبَ مدافَعة الألم، ورفعِه بالوقاية أولًا من مسبِّباته، وبتحصين نفسِه من مباشَرةِ الفتنِ الموجِعةِ، ومقارَبةِ الأخطار المحدقة؛ وذلك بالذِّكر والدعاء والتضرع إلى الله، والتداوي وفعل الخير والإحسان.
وجديرٌ بالذِّكر أن في حياة المسلم أَلَمًا محمودًا، يدفع إلى العمل، ويُهذِّب السلوكَ، ويُقوِّم السيرَ؛ ومِنَ الألمِ المحمودِ ما يُورِثُه الغضبُ لله -تعالى- حينَ تُمتَهَنُ شعائرُ اللهِ، ويُستهانُ بحرماتِ الله؛ قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الْحَجِّ: 32]، كما يتألم القلب الحيي حين يتلوث بالذنوب والمعاصي، وألم ذلك عليه ثقيل كالجبل، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا"، فلا جرم أن يدفع هذا الألم إلى التغيير وأن يعقبه ندم وتوبة.
يقلب الإنسان ناظريه ويجيله في صفحات الأولين، وسِيَر المعاصرينَ، وفي مَنْ حولَه من الأقران والأصدقاء، فيجد فيهم السبَّاق إلى القُرُبات في أعمال البر، ومَنْ يحفظ القرآن، ومن استقر جسدُه وقلبُه في الصفوف الأولى في بيوت الله، ومن نال الدرجات العلا في سُلَّم العِلْم، ومَنْ ثَنَى رُكبَتَيْه عندَ العلماء للعِلْم والطلب، ومن هو مضرب المثل في بر الوالدين، ومن بسط يده للإنفاق، ومن سخَّر وقتَه لخدمة الفقراء والمساكين والأيتام، ومن بذل حياته لنشر العلم، ومن نصَّب قلمَه للذود عن الشرع والدِّين، ومَنْ غدَا عضوًا فاعِلًا في بناء مجتمعه وخدمة وطنه؛؛ ومِن ثَمَّ ينظر إلى سيرته، ويتأمل تاريخه، فيتحسر لما يرى من تراجع في حاله، فيدفعه هذا الألم إلى العمل والتغيير، وتتوق نفسه إلى السباق واغتنام الفُرَص واستثمار العمر.
والشأن في المسلم -عباد الله- أنَّه يَشعُر بآلام الموجوعين؛ فيُشاطِر المرضى آلامَهم بزيارتهم ومواساتهم، وتسلية المتوجِّع، وإدخال السرور عليهم، وتذكيرهم بالأجر والصبر، ينبض قلبه بالحياة والإحساس، يستشعر معاناة الضعفاء، يتألم لألم اليتيم المنكسر، والعاجز المتعطل، والفقير المعدم، وهذا الألم يدفعه إلى تذكر الإحسان والبذل والعطاء، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرحَمُ"، ونُشِيد هنا بالحملة المبارَكة التي دعا إليها خادمُ الحرمين الشريفين -حفظه الله- بالتبرع لدعم المحتاجين في غزَّة، عبرَ القنوات الرسميَّة، والتجاوب الكبير من أبناء وطن مِعطاء، يبذُلُ بسخاء، وقد آتت أُكُلَها، ووصلت إلى مستحقيها، قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الْبَقَرَةِ: 274].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له العلي الأعلى، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه الصادق الأوفى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وارض اللهمَّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
ألَا وصلُّوا -عبادَ اللهِ- على رسول الْهُدَى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ بَارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، اللهمَّ وارضَ عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودمر اللهمَّ أعداءك أعداء الدين، واجعل اللهمَّ هذا البلد آمِنًا مطمئنًا وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهمَّ إنَّا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قول وعمل، اللهمَّ إنَّا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهمَّ إنَّا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الغنى والفقر، نسألك نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهمَّ إنَّا نسألك خير المسألة، وخير الدعاء، وخير النجاح، وخير الفلاح، وخير العمل، وخير الدعاء برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهمَّ لا تَدَعْ لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرجته، ولا دَينًا إلا قضيتَه، ولا مريضًا إلا شفيتَه، ولا مبتلًى إلا عافيتَه، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهمَّ احفظ رجال أمننا، واحفظ حدودنا، واحفظنا بحفظك يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ من أرادنا وأراد بلادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهمَّ وفِّقْه لهداكَ، واجعل عملَه في رضاكَ يا ربَّ العالمينَ، ووفق ولي عهده لما تحب وترضى يا أرحم الراحمين، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا اللهَ يَذكُرْكم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
التعليقات