دكتور استفهام
الانفتاح الذي نعيشه في هذا العصر له ضريبة كبيرة، فتــّق الأذهان عن أفكار كثيرة، وكسر حدة الذاتية التي كان يعيشها الناس منكفئون على ذواتهم بعيداً عن تأثيرات الآخرين، فلقد كان الناس قبل الفضاء المفتوح، والانترنت، وعولمة الثقافة والمعلومات يعيشون حياة هادئة من الصخب الفكري، يعيشون حياة إيمانية لا يعكر صفوها شبهات المغرضين، يدرسون كتب العقائد فيستقر الإيمان في قلوبهم، ورثوا الإسلام وتعاليمه عن آبائهم وأمهاتهم، لا يسمعون أفكاراً تخدش هذا الإيمان، ولا عقائد تصادمه من أصله، وكان أولئك الذين تأثروا بالأفكار العلمانية المحضة، والشيوعية والماركسية من أبناء السعودية قلة قليلة، حصلت لهم تغيرات في التفكير بسبب السفر إلى البلاد الغربية، أو البلاد العربية التي تنتشر فيها تلك الأفكار، أو بسبب التسريب المحدود لبعض الكتب التي جعلتهم يتشوفون لها بسبب الالتهاب السياسي، ووجود الصراع العربي الإسرائيلي على أشده إبان الحقبة الناصرية، وحالة الاستقطاب العالمي للمعسكرين الشرقي الشمولي " الشيوعي "، والمعسكر الغربي " الرأسمالي "، والذي شطر العالم الإسلامي فكريا وسياسياً إلى هذين المعسكرين، ثم تهاوت أفكار الشيوعية بعد سقوط منظومتها السياسية، ونكص كثير من حملتها على أعقابهم، ومنهم من توجه إلى الفكرة الإسلامية، ومنهم من انحاز بشكل حاد إلى الفكرة الرأسمالية والليبرالية الغربية، ومنهم من تلاشى عن الإنظار، ومنهم من لا يزال يروج لفكرته على استحياء مدعياً أن القضية تتعلق بالتطبيق لا بالتنظير ..
كانت فترة ظهور جماعة الإخوان المسلمين في مصر فترة تنتشر فيها أفكار الماركسية الملحدة، والديالكتيكية التاريخية، ووجد هناك من يتبنى هذه الأفكار بعنف، وقد زارني مرة الأستاذ عبدالحليم خفاجي وقد كان سجن في السجون المصرية إبان حقبة السادات، وهو صاحب كتاب " حوار الشيوعيين في أقبية السجون "، حيث رصد تلك الحوارات التي دارت بينهم وبين الشيوعيين في السجون المصرية، وكيف أنهم كانوا يناظرونهم في أساس إثبات وجود الخالق بطريقة مهنية عالية، فقد كانوا يسمعون " الشبهة " من الشيوعيين الملاحدة، ثم يضربون لهم موعداً للرد، فيجتمع من في السجون من علماء ومفكرين وأطباء وعلماء في الفيزياء وغيرها من التخصصات ليدحضوا الفكرة الإلحادية المتعلقة بنفي وجود الخالق سبحانه وتعالى، والكتاب لا يزال يباع في الأسواق وهو نافع في بابه ..
بعد هذا الانفتاح، وسهولة وصول المعلومة، مع ما تلا احداث الحادي عشر من سبتمبر من خلخلة لأسس كثيرة، وظهور موجات داخل السعودية تنادي بأفكار مصطدمة مع الشريعة، وتشكيك في السنة، وقد وصل الحال إلى بث أفكار إلحادية من شباب في مجالس خاصة، وأصبح هذا الأمر ظاهرة في منتديات في النت تتيح مناقشة مثل هذه الأفكار، مما يسبب هزة عنيفة في وجدان المنتسبين إلى الإسلام، وتشكيكهم في أعظم قضية عقدية ( وجود الخالق )، وغيرها من أفكار الإلحاد، فإن الأمر يحتاج إلى مشروع كبير ينقل الناس من الاهتمام بالقضايا الجزئية القابلة للتأخير والترك إلى أن يهتموا بالمسائل الكبرى، ليحصنوا جيل الأمة من مزالق الأفكار الخطيرة، وخاصة أن النزعة " الإلحادية " ليست فقط فكرة يتنباها الإنسان، بل هو يبشر بها، ويحدث خلخلة للقيم الاجتماعية، ويفسد الحياة الدينية، ويشق الصف، ويشيع أفكار الزندقة في ربوع المؤمنين المطمئنين بإيمانهم وعليه فإننا بحاجة إلى طرح كل الأفكار الممكنة التي من خلالها نستطيع أن نواجه مثل هذه الموجات، ولعلي أذكر هنا بعض ما يتيحه الوقت من أفكار :
أولا : العناية بالرسوخ العلمي الذي يناقش تفاصيل القضايا العقدية والفكرية القديمة والمعاصرة، وهضم المسائل الفلسفية وأصول الأفكار بدراسات جادة، ومتخصصة في هذا المجال .
ثانيا : فتح المراكز المتخصصة في رصد الأفكار التي تبث في مواقع النت وكتابات الكتاب، ومعالجتها من خلال اجتماع فئات من المتخصصين في المجالات الشرعية والفكرية والعلمية وتعميق النقاش بها .
ثالثا : رصد القيم العلمية والتي تعزز أفكار الإلحاد من خلال كشوفات العلوم الحديثة والتي يعتمد عليها هؤلاء الملاحدة في تعزيز نظريتهم لمسائل الخلق والنشأة وسيرورة التكوين، مثل علوم الفيزياء والأحياء والجينوم الاحفورات التاريخية وغيرها .
رابعا : ضرورة بث مشروع " التحصين " بالحد الأدنى من القيم التي ترسخ الإيمان القائم على التأمل العقلي الذي يبطل الحجج المخالفة، وهذا يعني تجديد مناهج التلقين للعلوم الإسلامية لتكون متوافقة مع تغيرات العصر وأفكاره وما يطرأ فيه من قيم علمية وفكرية وفلسفية جديدة .
خامساً : هناك مواقع في النت متخصصة لرد الشبهات تحتاج إلى إعادة تقييم وزيادة، مع ضرورة الإشراف على سلوك المناقشين وطرائقهم، وفتح جمعيات متخصصة في تحكيم ما يصدر منها وخاصة أنها جهود فردية يعتريها النقص والاجتهاد الذي تكون نتائجه عكسية على المتلقي وخاصة أنها تخوض في مسائل حساسة ..
سادساً : تعميق الصلة مع المراكز المهتمة بجوانب الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وتكميلها بأبحاث مواجهة الإلحاد حتى تكتمل الصورة في ذهن المهتمين في هذا الجانب .
سابعاً : إعداد فريق كبير وتدريبهم وتهيئتهم علماً وعقلياً على فنون المناظرة وأصول الجدل في المنتديات التي تبث مثل هذه الأفكار، وتحصينهم وتجهيزهم بكل ما يحتاجون من دعم نفسي وعلمي وفكري لمواجهة مثل هذه الأفكار، وحبذا لو يكون هؤلاء من المتمكنين في العلم الشرعي والمختصين في باب العقائد .
ثامناً : إظهار المباحث المهتمة بالدلائل العقلية والنقلية في الكتاب والسنة والتي تبطل وترد أفكار الدهريين والملاحدة .
تاسعاً : الاعتناء بمباحث " دلائل النبوة "، والتي هي جزء من الإعجاز الذي يرسخ الإيمان واليقين بصحة الرسالة المحمدية، وفرزها على مستويات كثيرة تتوافق مع مستويات الأعمار والعقول والأفهام، للمبتدئين والعامة والمنتهين في هذا الباب .
عاشراً : إعداد حلقات نقاش مستمرة ومتواصلة في فرز الأفكار الإلحادية، ومناقشتها وإخراج النشرات بشكل متتابع ومستمر .
حادي عشر : الاستفادة من المتخصصين في الأقسام العلمية في تبسيط كثير من النظريات العلمية في الفيزياء والفلك والجيولوجيا والأحياء وغيرها حتى يتم الاستفادة منها في رد شبهات المبطلين .
ثاني عشر : حصر الكتب التراثية والمعاصرة جميعها ومن كافة الفرق الإسلامية والتي اعتنت في مواجهة أهل الإلحاد والدهريين والفلاسفة الخلص ومناقشتهم لتكون في مكتبة يسهل على من يريد أن يتخصص في الوصول إليها .
هذه بعض الأفكار والرؤى حول هذا الموضوع الهام، وأملي أن يسهم الجميع في تعزيز الفكرة والعناية بها، لأنني أدرك أن المستقبل القريب سوف يشهد تصاعداً لهذه القضية، وكثرة في معتنقي هذه الأفكار والتي بدأت تظهر في الآونة الأخيرة .
والله الموفق !
التعليقات