عناصر الخطبة
1/التحذير من مظاهر النفاق والرياء 2/ أربع خصال ذميمة 3/علامات المنافقين 4/خطورة النفاق العملي والاعتقادي.اقتباس
هذِه الخصال الأربع -يا عباد الله- أنَّ منها العقلاء، وكثرت منها الشكاوى والخصومات في المحاكم والشُّرَط، وأقسام النيابات، وحديث النَّاس لها في مجالسهم، وأنينهم وتأوههم منها حديث عريض كبير، لا تكاد تجتمع هذِه الأربع إِلَّا من انغمس قلبه في النِّفَاق....
الخطبةُ الأولَى:
الحَمْدُ للهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا.
أَمَّا بَعْدُ: عباد الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فـ(اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أَيُّهَا المؤمنون: ثَمَّة ظواهر غريبة وقعت ولم تزل تتكاثر وتزداد وقوعًا في مجتمعاتنا، لم يسلم منها الكبار في كبرهم، ولا الصغار في صغرهم، وَإِنَّمَا أضحت -وَلِلْأَسَفِ الشَّدِيْدِ- شعارًا عامًّا عَلَى فئات من المجتمع، هذِه الظواهر -يا عباد الله- عدَّها نبيكم مُحَمَّد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مظاهر النِّفَاق، ومن مظاهر الرياء، وإظهار الإنسان ما لا يبطن؛ ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ".
تأملوا -يا رعاكم الله- في هذِه الخصال الأربع الذميمة، ثُمَّ انظر في نفسك، وانظر حواليك: هل أنت منها ناجٍ وسالِم؟ فإن تنجو منها؛ تنجو من ذي عظيمة، وَإِلَّا فإني لا إخالك ناجيًا.
اعتبرها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من علامات النِّفَاق، وهي من النِّفَاق العملي الَّذِي يوصل إِلَى النِّفَاق الاعتقادي، وَالَّذِي صاحبه متوعَّد بالدرك الأسفل من النَّار: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)[النساء: 145].
فإذا سمعت إِلَى الحديث للمتحدّث، وجدت فيه كذبًا؛ فَهذَا من خصال المنافقين، وإذا واعَد عَلَى أي وعدٍ أنه يوفيه، ثُمَّ تخلَّف عنه بمختلف الأعذار، بل إنهم يقدِّمون الأعذار المختلفة عَلَى إخلافهم وعودهم، وعَلَى كذبهم فيها، وعَلَى عدم صدقهم في حديثهم وحالهم ومقالهم، لِمَ؟ لما في هذِه النفوس الضعيفة من هاتيكم الأخلاق الذميمة.
وإذا اؤتمن عَلَى سرٍّ من الأسرار، أو اؤتمن عَلَى مالٍ، أو اؤتمن عَلَى وظيفة؛ ذهب يخون الأمانة، لم يستطع لهذِه الأمانة حفظًا ولا كتمًا، لم يستطع للأمانة حفظًا، ولا للسر كتمًا، ولا للمال أداءً: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ)[النساء: 58].
وإذا خاصم -يا عباد الله- إذا خاصم غيره عند أدنى مخالفة، وعند أدنى منافرة؛ ذهب يفجر ويزداد، ويفحش في خصومته في كلامه وفي فعاله، وفي حاله وفيما قام في قلبه من حقده وشنآنه؛ وَهذِه من خصال المنافقين أَيْضًا.
وتأملوه في أنواع المضاربات والمخاصمات والملاسنات! تجدون هذِه الخصومة في الفجورة، هذا الفجور في الخصومة لِمَ؟ لِما قام في قلبهم من قلَّة تعظيم الله، وما قام في قلبهم من الحقد والحسد والشنآن وسيئ الأخلاق.
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].
نفعني الله وَإِيَّاكُمْ بالقرآن العظيم، وما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ عَلَى إحسانه، والشكر له عَلَى توفيقه وامتنانه، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إعظامًا لشانه، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ إِلَى يوم رضوانه، وَسَلَّمَ تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا.
أَمَّا بَعْدُ: عباد الله: تأملوا في هذِه الخصال! الخصال الأربع الَّتِي ذكرها نبيكم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مشدِّدًا في التَّحْذِير منها، وذامًّا لأهلها، وانظروا في واقعكم، وفي حالكم، وفي أنفسكم، ولا يذهبن ذاهِب فيعيب الزمان بمعيبة أهله؛ فإننا كما قَالَ اَلْأَوَّل:
نعيب زماننا والعيبُ فينا *** وما لزماننا عيبٌ سوانا
هذِه الخصال الأربع -يا عباد الله- أنَّ منها العقلاء، وكثرت منها الشكاوى والخصومات في المحاكم والشُّرَط، وأقسام النيابات، وحديث النَّاس لها في مجالسهم، وأنينهم وتأوههم منها حديث عريض كبير، لا تكاد تجتمع هذِه الأربع إِلَّا من انغمس قلبه في النِّفَاق؛ حيث قَالَ الصادق المصدوق -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا".
وَالنِّفَاق الاعتقادي الخالص -يا عباد الله- حذره الصَّالِحُونَ أيَّما حذرٍ وأيَّما خوف، فَهذَا عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أمير المؤمنين، وهو ثاني اثنين بعد نبيكم مُحَمَّد -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، طعنه المجوسي أبو لؤلؤة، فجاءه الطبيب، وسقاه لبنًا، فخرج اللبن من جوفه، فَقَالَ: "أوصِ يا أمير المؤمنين، أوصِ".
فأرسل ابنه عبد الله ابن عمر إِلَى حذيفة بن اليمان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، فأتى إليه، فَقَالَ له عمر وهو تلك الحال، ينازع موته، مقبلٌ عَلَى آخرته، مدبرٌ عن الدنيا وأهلها، قَالَ: "ناشدتك الله يا حذيفة! أأنا ممن سمَّاني لك رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- من المنافقين؟" سأله بالله، فأُحرج حذيفة، وقد انشغل قلبه بما جرى لخليفة المسلمين، قَالَ: "لا يا أمير المؤمنين، لم يُسمِّك لي رسول الله، ولا أُخبر بذلك أحدًا بعدك"؛ لأنَّه سرٌّ أودعه النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لحذيفة.
والمقصود من هذَا: إذا كان النِّفَاق الاعتقادي يخافه عمر، فمن يأمنه منَّا -يا رعاكم الله-؟ من يأمنه منَّا بعد عمر؟ وَهذِه مظاهره، وَهذِه خصاله أهله في هذَا الزمان وفي أهله فاشية، وفي أخلاقهم وأفعالهم وأقوالهم بادية، نعوذ بالله من النِّفَاق أكبره وأصغره، دقيقه وجليله، كثيره وقليله.
ثُمَّ اعلموا -عباد الله- أنَّ أصدق الحديث كلام الله، وَخِيرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثة بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وعليكم عباد الله بالجماعة؛ فإنَّ يد الله عَلَى الجماعة، ومن شذَّ؛ شذَّ في النَّار، ولا يأكل الذئب إِلَّا من الغنم القاصية.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي العَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَسَلَّمَ اللهمَّ تَسْلِيمًا.
اللهم عِزًّا تعزّ به الإسلام وَالسُّنَّة وأهلها، وذِلًّا تذل به الكفر والبدعة وَالشِّرْك والانحلال وأهله، يا ذا الجلال والإكرام. اللهم عزًّا تعزُّ به أولياءك، وذِلًّا تذل به أعداءك، يا ذا الجلال والإكرام.
اللَّهُمَّ احفظ علينا ديننا الَّذِي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا الَّتِي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا الَّتِي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.
اللَّهُمَّ وفق ولي أمرنا بتوفيقك، اللهم اجعله عزًّا للإسلام، ونصرةً لعبادك وأوليائك المؤمنين، اللَّهُمَّ اجعله عزًّا لِلسُّنَّةِ، وكفًّا عَلَى عبادك المسلمين، يا ذا الجلال والإكرام.
اللَّهُمَّ أنت الله لا إله إِلَّا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللَّهُمَّ غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا، سحًّا طبقًا مجللاً، اللَّهُمَّ سُقيا رحمة، اللَّهُمَّ سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ ولا نصب.
اللهم أغث بلادنا بالأمن والأمطار والخيرات، وأغث قلوبنا بمخافتك وتعظيمك، وتوحيدك يا رب العالمين، اللهمَّ إنك ترى ما بنا من الحاجة واللأواء، ولا غنى لنا عن فضلك، اللَّهُمَّ فأنزل علينا من بركات السماء.
اللَّهُمَّ ارحمنا برحمتك الَّتِي وسعت كل شيء، نستغفرك اللَّهُمَّ إنك كنت غفَّارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، نستغفر الله العظيم، نستغفر الله العظيم من ذنوبنا، ونستغر الله العظيم من شر سفهائنا، ونستغفر الله العظيم الَّذِي لا إله هو الحي القيوم ونتوب إليه.
اللهم أغثنا، اللهم ارحم هؤلاء الشيوخ الرُّكَّع، وهؤلاء البهائم الرُّتَّع، وهؤلاء الأطفال الرُّضَّع، ولا غنى لنا عن فضلك يا رب العالمين، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، اللَّهُمَّ اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، أحيائهم وأمواتهم يا رب العالمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
التعليقات