عناصر الخطبة
1/ثناء السلف على أصحاب الأعمال الصالحة في الخلوات 2/أهمية الأعمال الصالحة في الخلوات 3/بعض عبادات الخلوات 4/ثمرات عبادات الخلوات في الدنيا والآخرة 5/الأسباب المعينة على عبادات الخلواتاهداف الخطبة
اقتباس
أيها المسلمون: إن أعمال السر الصالحة ترجمةٌ حقيقية للعبودية الباطنة؛ ذلك أن العبدَ عليه عبوديتان: عبوديةٌ باطنةٌ، وعبوديةٌ ظاهرة، وقيامُ الإنسان بالعبودية الظاهرة مع تعرّيه عن حقيقة العبودية الباطنة لا يقربّه إلى ربه، ولا يوجب له الثواب، وقبول العمل؛ فإن المقصود امتحان القلوب، وابتلاء السرائر، فعمل القلب هو روح العبودية ولبّها، فإذا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي عرّف عباده بما شاء من أسمائه وصفاته، وأطلعهم على ما أراد من حقائق ألوهيته وربوبيته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ملأ قلوبَ من شاء من عباده بمعرفته المثمرة لخشيته.
وأشهد أن نبينا وإمامنا محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خليقته، صلى الله عليه، وعلى آله وصحابته، صلاةً وسلاماً دائمَين بدوام فضله ورحمته.
أما بعد:
فلئن كانت ذنوب الخلوات من أعظم مفسدات القلب؛ فإن الأعمال الصالحات في الخلوات من أعظم أسباب صلاحه، ولهذا كان السلف يوصون ويتواصون بهذا النوع من الأعمال، يقول الزبير -رضي الله عنه-: "من استطاع أن تكون له خبيئةٌ مِنْ عملٍ صالحٍ فليفعل" [الزهد، لأبي داود (ص: 122)].
ويقول عبد الله بن داود الخريبي: "كانوا يستحبون أَن يَكُون للرجل خبيئة من عمل صَالِح لا تعلم بِهِ زوجته، ولا غيرها" [تهذيب الكمال في أسماء الرجال (14/ 464)].
وكان السلف يثنون على الرجل بهذه الخصلة العزيزة النادرة، فهذا ابن المبارك يذكر الإمام مالك -رحمة الله عليهما-، فيقول: "ما رأيت رجلاً ارتفع مثل مالك بن أنس! ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أن تكون له سريرة" [حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 330) ، وينظر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك (2/ 51)].
وسئل ابن المبارك عن إبراهيم بن أدهم؟ فقال: "له فضل في نفسه، صاحب سرائر" [تاريخ الإسلام (4/ 290)].
أيها المسلمون: إن أعمال السر الصالحة ترجمةٌ حقيقية للعبودية الباطنة؛ ذلك أن العبدَ عليه عبوديتان: عبوديةٌ باطنةٌ، وعبوديةٌ ظاهرة، وقيامُ الإنسان بالعبودية الظاهرة مع تعرّيه عن حقيقة العبودية الباطنة لا يقربّه إلى ربه، ولا يوجب له الثواب، وقبول العمل؛ فإن المقصود امتحان القلوب، وابتلاء السرائر، فعمل القلب هو روح العبودية ولبّها، فإذا خلا عملُ الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح [ينظر: بدائع الفوائد (3/ 192)].
أيها المسلمون: وإذا كان هذا هو موقع أعمال القلوب؛ فخليق بالمؤمن أن يكون له نصيب منها، ومن تلك الأعمال، بل من أجلها، وعنها تثمر عبادات كثيرة:
1- التعبد لله -تعالى- بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، خاصة تلك التي تدل على سعة العلم، والاطلاع والخبرة -كالعليم، والسميع، والبصير، والباطن، والقريب، وغيرها- فالعبدُ حين يتعبد لله بها يتذكر إِحاطة الله بالعوالم كلها، ويستشعر قربَ الله منه، وأن ما أخفاه فهو ظاهر معلوم كله لله -سبحانه-، وأنه لا يخفى عليه شيء من سريرته، فإن هذا يُعيْن العبد على تطهير سريرته، التي هي عند الله علانية، ويُصلِح له غيبته، فإِنها عند الله شهادة، ويزكِّي باطنه؛ فإِنه عند الله ظاهر [ينظر: طريق الهجرتين (ص: 25)].
ومن جملة الأمثلة التطبيقية لهذا المعنى: ما أشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله عن أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظلّه: "ورجلٌ ذَكرَ الله خالياً ففاضت عيناه" [البخاري ح(660) مسلم ح(1031)].
تفيض عيناه إما محبةً وشوقاً إلى لقاء الله، أو تفيض خوفاً من المقام بين يديه سبحانه إذا تحرك داعي المعصية.
2- ومن عبادات السرائر: مناجاة الله، والتضرع إليه، خصوصاً في الأسحار، ووقت هجوع العيون، فهذا القرآن يحدثنا عن أهل الجنة: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 17 - 18].
3- ومن أجلّ الأعمال التي يتحرك بها القلب في حال الخلوات: محبّة الله -عز وجل-: "فهذه المحبة هي التي تلطّف وتخفِّف أثقال التكاليف، وتروّضُ النفس، وتطيبُ الحياة على الحقيقة، وهذه المحبة هي التي تنّور الوجه، وتشرح الصدر، وتحيي القلب" [الجواب الكافي (ص: 235)].
4- ومن عبادات الخلوات: صدقة السرّ، التي يجتهد العبدُ في إخفائها، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمنيه" [البخاري ح(660) مسلم ح(1031)].
كان زين العابدين يَعوْل عشرات البيوت في المدينة، ويوصل الصدقة لهم ليلاً، فلم يُعرف ذلك عنه إلا بعد موته؛ من سوادٍ وجدوه في ظهره عند التغسيل.
5- ومن أجلّ عبادات الخلوات: الإخلاص لله -تعالى-، يقول أبو سليمان الداراني -رحمه الله- لما سئل عن أقرب أحوال العبد من الله؟ فقال: "أن يطّلع على قلبك وأنت لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو" [روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 439)].
"فالمعوَّل على السرائر، والمقاصد، والنيات، والهمم؛ فهي الإكسير الذي يقلب نحاس الأعمال ذهباً، أو يردها خبثاً" [زاد المعاد (3/ 376)].
6- ويتبع هذا: كراهيتك لاطلاع الناس على سريرة عملٍ بينك وبين الله، قال بعض السلف: "ثلاثة من أعلام الصدق: ملازمة الصادقين، والسكون عند نظر المنفوسين، ووجدان الكراهة لاطلاع الخلق على السرائر" [حلية الأولياء (9/ 394)].
أيها المسلمون: إن مَن وُفّق لعبادات الخلوات؛ فسيجني ثمراتها في الدنيا والآخرة، فمن هذه الثمرات:
1- أنها أحد أسباب دخول الجنة: ففي قصة بلال -رضي الله عنه- لما قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حدثنى بأرجى عمل عملتَه في الإسلام، فإني سمعت دفّ نعليك بين يدي في الجنة؟!" قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهورا في ساعةِ ليلٍ أو نهارٍ إلا صليتُ بذلك الطهور ما كُتب لي أن أصلي [البخاري ح(1149) مسلم ح(2458)].
"ففيه دليل أن الله يعظم المجازاة على ما ستر العبد بينه وبين ربه، مما لا يطّلع عليه أحد، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعرف عمل بلالٍ حتى سأله عنه" [شرح ابن بطال لصحيح البخاري (3/ 143)].
2- أن أعمال الخلوات من أسباب حسن الختام: فإذا كانت دسائس السوء -والعياذ بالله- سبباً في سوء الختام، كما ثبت في قصة الذي كان يقاتل مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأَخبر أنه من أهل النار؛ لدسيسة سوء في قلبه، فإن السرائر الصالحة من أسباب حسن الخاتمة -نسأل الله من فضله-.
3- ومن ثمراتها الجليلة: أنها علامة على أن العبد ممن وفّق للإخلاص، الذي هو من أعظم أسباب النجاة يوم القيامة، والمخلِصون هم أسعد الناس بشفاعته صلى الله عليه وسلم.
ومن المؤكد: أن العامل إذا اعتاد على أعمال الخفاء ما أمكن؛ فإنه يتربى على الراحة من مجاهدة نفسه على الإخلاص، فيبقى عليه مجاهدتها على دفع العُجب، ومن استعان بربه كفاه وآواه.
4- أنها سبب للرفعة، وحسن الذِّكر في الدنيا، قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "والله! لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت، ويتخشع في نفسه ولباسه، والقلوب تنبو عنه! وقدْره في النفوس ليس بذاك! ورأيتُ من يلبس فاخر الثياب، وليس له كبير نفل، ولا تخشع، والقلوب تتهافت على محبته، فتدبرت السبب، فوجدته السريرة! فمن أصلح سريرته فاح عبيرُ فضله، وعبقت القلوبُ بنشر طيبه، فالله الله في السرائر؛ فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر" [صيد الخاطر (ص: 220)، وانظر قصة مؤثرة تدل على هذا المعنى في رفعة العبد عند الله في الدنيا بصلاحه، في "ترتيب المدارك" (3/ 89) في ترجمة البهلول بن راشد].
5- أنها من أمارات صدق العبودية: يقول مطرّف -رحمه الله-: "إذا استوت سريرةُ العبد وعلانيته، قال الله -عز وجل-: "هذا عبدي حقاً" [الزهد، لأحمد (ص: 194)].
6- ومنها: أن أعمال الخلوات: من أسباب الرفعة والنجاة يوم القيامة: تأمل في قوله تعالى: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) [الطارق: 9].
"وفي التعبير عن الأعمال بالسر لطيفة؛ وهو أن الأعمال نتائج السرائر الباطنة، فمن كانت سريرتُه صالحة كان عملُه صالحاً، فتبدو سريرته على وجهه نوراً وإشراقاً وحياء، ومن كانت سريرته فاسدة كان عمله تابعاً لسريرته، لا اعتبار بصورته؛ فتبدو سريرته على وجهه سواداً وظلمة وشَيناً، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته ويكون الحكم والظهور لها" [قاله ابن القيم -رحمه الله- في [التبيان في أقسام القرآن، ص: 105)].
يقول الإمام مالك -رحمه الله-: "مَن أحب أن يَفْتَحَ له فُرجةً في قلبه، وينجو من غمرات الموت، وأهوال يوم القيامة؛ فليكن في عمله في السر أكثر منه في العلانية" [ترتيب المدارك وتقريب المسالك (2/ 51)، وينظر: تعليق حسنٌ لشيخنا العثيمين -رحمه الله- في مجموع فتاويه (5/ 238)].
وتأمل في قائل هذه الكلمة، إنه الإمام مالك الذي أثنى عليه ابنُ المبارك بأن مالكاً كان صاحب سريرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أما بعد:
فإن الإنسان الناصح لنفسه، حين يسمع ثمرات عبادات السر؛ فخليق به أن يجتهد في البحث عن الأسباب التي تعينه عليها، ولعل من أبرزها:
1- تقوية العلم بالله وبأسمائه وصفاته: قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28].
فكلما زاد العلم المبارك المُزكّى، فينبغي أن يكون أثَرُه أكثر، خصوصاً في حال الخلوة.
2- الدعاء: فما دُعي رب العزة بمثل سؤال الله -تعالى- الإعانة على ذِكره، وإجلاله في الخلوات.
3- كتم ما يعمله الإنسان في السرّ ولو قلّ، قال عبد الله بن دَاوُد الخريبي: "كَانُوا يستحبون أَن يَكُون للرجل خبيئة من عمل صَالِح لا تعلم بِهِ زوجته، ولا غيرها" [تهذيب الكمال (14/ 464)].
4- القراءة في سير الصالحين المخلصين؛ فإن لذلك أثراً معروفاً.
5- التوبة سريعاً إذا حصل هتكٌ لستر الخلوات: يقول الربيع بن خثيم -رحمه الله- موصياً تلاميذه: "السرائر السرائر اللاتي يخفين على الناس، وهي عند الله بواد؛ التمسوا دواءهن! قيل: وما دواؤهن؟ قال: أن تتوب ثم لا تعود" [الزهد، لأحمد (ص: 271)].
ختاماً -أيها المسلمون-: يقول بعضُ السلف: "إذا كانت سريرةُ الرجل أفضل من علانيته فذلك الفضل، وإذا كانت سريرة الرجل وعلانيته سواء فذلك النصف، وإذا كانت علانيته أفضل من سريرته، فذلك الجور" [شعب الإيمان (9/ 228)].
اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، واجعلنا ممن رُزق الخوف من مقامك يوم نلقاك.
اللهم املأ قلوبنا خشيةً تحول بها بيننا وبين معاصيك، ويقيناً يعلقنا برضوانك وجنتك، ويزهّدنا بمعصيتك يا رب العالمين.
التعليقات