عناصر الخطبة
1/من أسباب قسوة القلب 2/من آثار قسوة القلب 3/من معينات تليين القلباقتباس
هَذِهِ الْقُلُوبُ تَقْسُوْ كَالْحَجَر، وَتَصْدَأُ كَالْحَدِيْد، وَتَتَّسِخُ كَالثِّيَاب؛ فَتَعَاهَدُوْهَا بِالتَّنْظِيْفِ والصِّيَانَة، وَلَيّنُوْهَا بِالتَّوْبَةِ والضَّرَاعَة، قَبْلَ أَنْ تَقُوْمَ السَّاعَة...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْد: فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوَى، واسْتَمْسِكُوا مِنَ الإِسْلامِ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى؛ (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة:197].
عِبَادَ الله: أَعْظَمُ العُقُوْبَة عَدَمُ الإِحْسَاسِ بِالعُقُوْبَة، وَمِنْ تِلْكَ العُقُوْبَاتِ الخَفِيَّة: قَسْوَةُ القَلْب، والغَفْلَةُ عَنْ لِقَاءِ الرَّب، قالَ الإِمَامُ مَالِك: "مَا ضُرِبَ عَبْدٌ بِعُقُوبَةٍ: أَعْظَمَ مِنْ قَسْوَةِ الْقَلْبِ!".
ومُخَالَفَةُ أَوَامِرِ اللهِ سَبَبٌ لِقَسْوَةِ القَلْبِ! قال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً)[المائدة:13].
والاِنْغِمَاسُ في طَلَبِ الدُّنْيَا، وَطُوْلُ الأَمَل؛ يُفْضِي إِلَى جَفَافِ العَيْنِ، وقَسْوَةِ القَلْبِ! (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُم)[الحديد:١٦]. قال بَعْضُ المُفَسِّرِيْن: "أَيْ لَمَّا طَالَتْ آمَالُهُمْ قَسَتْ قُلُوْبُهُمْ". وَجَاءَ في الأثَر: "أَرْبَعَةٌ مِنَ الشَّقَاءِ: جُمُوْدُ الْعَيْن، وَقَسْوَةُ الْقَلْبِ، وَطُوْلُ الأَمَل، والحِرْصُ على الدُّنْيَا!".
وَقَسْوَةُ القَلْبِ: ضَلالٌ وحِرْمَان، وَحِجَابٌ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَن، قالَ تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)[الزمر:22].
وَمِنْ صِفَاتِ أَهْلِ النَّارِ: القَسْوَةُ والاِسْتِكْبَار! ومَا خُلِقَتْ النَّارُ الحَامِيَة؛ إِلَّا لِإِذَابَةِ الْقُلُوبِ القَاسِيَة! قالَ -صلى الله عليه وسلم-: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ، جَوَّاظٍ، مُسْتَكْبِرٍ!"(رواه البخاري، ومسلم). قالَ ابْنُ عُثَيْمِين: "العُتُلّ: الشَّدِيدُ الغَلِيظُ، الَّذِي لا يَلِيْنُ لِلْحَقِّ ولا لِلْخَلْقِ!".
والفَظَاظَةُ والقَسْوَةُ سَبَبٌ لِلْنُّفْرَةِ والوَحْشَةِ، (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)[آل عمران:159].
قالَ ابْنُ كَثِير: "أَيْ: لُوْ كُنْتَ سَيّءَ الْكَلَامِ، قَاسِيَ الْقَلْبِ؛ لَانْفَضُّوا عَنْكَ وَتَرَكُوْكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَمَعَهُمْ عَلَيْكَ، وَأَلَانَ جَانِبَكَ لَهُمْ".
وَالقَلْبُ القَاسِي أَضْعَفُ القُلُوْبِ، وَأَسْرَعُهَا قَبُوْلًا لِلْشُّبْهَةِ، وَوُقُوْعًا في الفِتْنَة (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ)[الحج:53].
وَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ قَاسِيًا حَجَرِيًّا فَإِنَّهُ لا يَقْبَلُ الحَقَّ، وَلَوْ كَثُرَتْ دَلَائِلُه؛ كَمَا لَا تُنْبِتُ الأَرْضُ الصَّلْبَة، وَلَوْ أَصَابَهَا كُلُّ مَطَرٍ، قالَ شَيْخُ الإِسْلَام: "إِنَّ الْقَلْبَ إذَا كَانَ قَاسِيًا غَلِيظًا؛ بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ لَا يَنْطَبِعُ فِيهِ الْإِيمَانُ وَالْعِلْمُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي مَحَلًّا لَيِّنًا".
وَخَيْرُ القُلُوْبِ القَلْبُ الصَّافِي اللَّيِّن؛ فَهُوَ يَرَى الحَقَّ بِصَفَائِهِ، وَيَحْفَظُهُ بِلِيْنِهِ، (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُم)[الحج:54]، قال الكَلْبِي: "فَتَرِقَّ لِلْقُرْآنِ قُلُوْبُهُمْ".
وَمِنْ آثَارِ قَسْوَةِ القَلْب: سُوْءُ الفَهْمِ والقَصْد، وتَحْرِيْفُ الدِّيْن، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ)[المائدة:13].
وإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا سَقَاهُ مِنْ أَدْوِيَةِ المَصَائِب، مَا يُلَيِّنُ قَلْبَه.
قالَ بَعْضُهُمْ: "لَوْلَا مِحَنُ الدُّنْيَا وَمَصَائِبُهَا؛ لَأَصَابَ الْعَبْدَ مِنْ أَدْوَاءِ الْكِبْرِ، وَالْعُجْبِ، وَالْفَرْعَنَةِ، وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ؛ مَا هُوَ سَبَبُ هَلَاكِهِ!". (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ)[الأنعام:43].
وَمِمَّا يُلَيِّنُ القُلُوْب: مُخَالَطَةُ المَسَاكِيْن وَمُسَاعَدَةُ المَكْرُوْبِيْن؛ فَقَدْ شَكَا رَجُلٌ إِلَى رَسُوْلِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَسْوَةَ قَلْبِهِ؛ فَقَالَ لَهُ: "إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ: فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ"(رواه أحمد، وحسَّنَهُ الألباني).
وَقِرَاءَةُ القُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ: تَفْتَحُ مَغَالِيْقَ القُلُوْب، وَتُذِيْبُ قَسْوَتَها، (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)[الحشر:21].
قالَ ابْنُ القَيِّم: "فَهَذَا حَالُ الْجبَالِ -وَهِيَ الْحِجَارَةُ الصَّلْبَةُ- وَهَذِهِ رِقَّتُهَا وَخَشْيَتُهَا مِنْ جَلَالِ رَبِّهَا؛ فِيَا عَجَبًا مِنْ مُضْغَةِ لَحْمٍ أَقْسَى مِنْ هَذِهِ الْجِبَال؛ فَلَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ عَلَى اللهِ: أَنْ يَخْلُقَ لَهَا نَارًا تُذِيْبُهَا! فَمَنْ لَمْ يَلِنْ للهِ في هَذِهِ الدَّارِ قَلْبُهُ؛ فَلْيَتَمَتَّعْ قَلِيلًا؛ فَإِنَّ أَمَامَهُ المُلِيّنُ الأَعْظَم".
وذِكْرُ الآخِرَةِ يُزِيْلُ الغَفْلَةَ، ويَكْسِرُ القَسْوَةَ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ"(رواه ابن ماجه، وحَسَّنَهُ الألباني). يَعْنِي الْمَوْتَ.
وَمِنْ أَدْوِيَةِ قَسْوَةِ القَلْب: زِيَارَةُ القُبُوْر، وَذِكْرُ البَعْثِ والنُّشُوْر، وَتَرْكُ الذُّنُوْب، وَذِكْرُ عَلَّامِ الغُيُوْب! قَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ: "يَا أَبَا سَعِيدٍ، أَشْكُو إِلَيْكَ قَسْوَةَ قَلْبِي؟"، قَالَ: "أَذِبْهُ بالذِّكْرِ!".
أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم
الخُطْبَةُ الثَّانِيَة:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.
عِبَادَ الله: هَذِهِ الْقُلُوبُ تَقْسُوْ كَالْحَجَر، وَتَصْدَأُ كَالْحَدِيْد، وَتَتَّسِخُ كَالثِّيَاب؛ فَتَعَاهَدُوْهَا بِالتَّنْظِيْفِ والصِّيَانَة، وَلَيّنُوْهَا بِالتَّوْبَةِ والضَّرَاعَة، قَبْلَ أَنْ تَقُوْمَ السَّاعَة. (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88-89].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.
اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.
اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا.
عِبَادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90].
فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت:45].
التعليقات