عناصر الخطبة
1/أعظم سورة في القرآن الكريم 2/أسماء سورة الفاتحة 3/فضائل سورة الفاتحة.اقتباس
ومَكَثْتُ بمكةَ مدة تَعتريني أدواء؛ ولا أجِدُ طبيباً ولا دواء، فكنتُ أُعالِجُ نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيراً عجيباً؛ فكنتُ أصِفُ ذلك لِمَنْ يشتكي ألَماً، وكان كثير منهم يَبرأُ سريعاً...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فقد فضَّل الله -تعالى، بحكمته ورحمته- بعضَ النبيين على بعض، فأفضل الرسل أولوا العزم، وأفضلهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، وفضَّل بعضَ الآيات على بعض؛ كآية الكرسي، فهي أعظمُ آية في القرآن، كذلك فضَّل بعضَ السُّور على بعض، فسورة الإخلاص تَعْدِلُ ثلثَ القرآن، وسورة الفاتحة هي أعظم سورة في القرآن الكريم.
سورة الفاتحة على وجازتها؛ فقد حَوَت معاني القرآن العظيم، واشتملت على مقاصده الأساسية بالإجمال، وفي ذلك يقول العلامة ابنُ القيم -رحمه الله-: "اعلم أنَّ هذه السورة اشتملت على أُمَّهات المطالب العالية أتم اشتمال، وتضمَّنتها أكملَ تضمُّن. فاشتملتْ على التعريفِ بالمعبود -تبارك وتعالى- بثلاثة أسماء، مرجِعُ الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها، ومدارُها عليها، وهي: "الله" و"الرب" و"الرحمن".
وبُنِيَت السورةُ على الإلهية والربوبية والرحمة فـ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) مَبْنِيٌّ على الإلهية، و(إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) على الربوبية، وطلبُ الهداية إلى الصراط المستقيم، بصفة الرحمة. و(الْحَمْدُ) يتضمَّن الأمورَ الثلاثة: فهو المحمود في إلهيته وربوبيته ورحمته.
وتضمَّنت إثباتَ المعادِ، وجزاءَ العبادِ بأعمالهم -حَسَنِها وسيِّئِها- وتَفَرُّدَ الربِّ -تعالى- بالحُكْم -إذ ذاك- بين الخلائق، وكونَ حُكمِه بالعدل، وكلُّ هذا تحت قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، وتضمَّنت إثباتَ النبوات"(مدارج السالكين:1/7)؛ لأنَّ الناس لا يَهتدون إلى الصراط المستقيم إلاَّ عن طريق الرسل، وبدون إرسال الرسل؛ لا يعرفون الصراطَ المستقيم.
عباد الله: ولأهمية سورة الفاتحة؛ فقد تعدَّدت أسماؤها، فمنها: "فاتحة الكتاب" أو "الفاتحة"؛ لافتتاح الكتاب العزيز بها، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ"(رواه البخاري ومسلم). ومن أسمائها: "أُمُّ الكتاب"؛ لقول أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "مَا رَقَيْتُ إِلاَّ بِأُمِّ الْكِتَابِ"(رواه البخاري). وسُمِّيت أم الكتاب كذلك؛ لاشتمالها على المقاصد الأساسية لكتاب الله -تعالى-.
ومن أسمائها: "السَّبع المثاني"؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ"(رواه البخاري). وسُمِّيت بالمثاني؛ لأنها تُثَنَّى في كل ركعة، أي: تعاد، وقيل: لأنها يُثْنَى بها على الله -تعالى-.(انظر: فتح الباري، لابن حجر: 8/198)، والقول الأول هو الأقرب للصواب.
ومن أسمائها: "أُمُّ القرآن"؛ للحديث السابق. ومنها: "الصلاة"؛ للحديث القدسي: "قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ؛ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي..."(رواه مسلم).
ومنها: "الرقية" و"الشافية"؛ لأنَّ اللَّديغَ رُقِيَ بها، وشُفِيَ بها بإذن الله -تعالى-.
أيها المسلمون: هذه السورة لها فضائل عظيمة، فمن فضائلها: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأُبَيِّ بنِ كعبٍ: "أتُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورَةً؛ لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ، وَلاَ فِي الإِنْجِيلِ، وَلاَ فِي الزَّبُورِ، وَلاَ فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا؟". قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلاَةِ؟". قَالَ: فَقَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ، وَلاَ فِي الإِنْجِيلِ، وَلاَ فِي الزَّبُورِ، وَلاَ فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا، وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ"(رواه أبو داود والترمذي).
ومن فضائلها: ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأبي سعيدِ بنِ المُعَلَّى -رضي الله عنه-: "لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ". قال أبو سعيد: ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ؛ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ: "لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟". قَالَ: «(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ"(رواه البخاري).
ومن فضائلها: ما جاء في حديث أبي سعيدٍ الخدري -رضي الله عنه- أنَّ سَيِّدَ الحَيِّ الذي لُدِغَ فَرُقِيَ بها؛ فبرأ بإذن الله؛ فقال: "مَا رَقَيْتُ إِلاَّ بِأُمِّ الْكِتَابِ"(رواه البخاري).
ومن فضائلها: حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: "بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ، لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلاَّ الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ، لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلاَّ الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلاَّ أُعْطِيتَهُ"(رواه مسلم).
ومن فضائلها: أنها ركنٌ من أركان الصلاة، ولا تصح الصلاة إلاَّ بها؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ"(رواه البخاري ومسلم).
ومن فضائلها: ما جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه-؛ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهْيَ خِدَاجٌ -ثَلاَثًا- غَيْرُ تَمَامٍ". فَقِيلَ - لأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الإِمَامِ. فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ..."(رواه مسلم). والمراد بالصلاة هنا: سورة الفاتحة، وسميت بذلك؛ لأن الصلاة لا تصح إلاَّ بها.
أستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
أيها الإخوة الكرام: ومن فضائل سورة الفاتحة: أنها شفاءٌ للقلوب والأبدان، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "إنَّ القلبَ يَعرِضُ له مرضان عظيمان، إنْ لم يتداركهما العبدُ تراميا به إلى التلف ولا بد، وهما: الرياء والكِبر، فدواءُ الرياء بـ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ودواء الكِبْر بـ (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). وكثيراً ما كنتُ أسمَعُ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية -قدس الله روحه– يقول: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) تدفع الرياءَ، (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تدفع الكبرياءَ.
فإذا عُوفِيَ من مرض الرياء بـ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، ومن مرض الكبرياء والعُجب بـ (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، ومن مرض الضلال والجهل بـ (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)؛ عُوفِيَ من أمراضِه وأسقامِه، ورَفَلَ في أثواب العافية، وتَمَّتْ عليه النِّعمة، وكان من المُنَعَمِ عليهم، غيرِ المغضوب عليهم -وهم أهلُ فسادِ القصد، الذين عرفوا الحقَّ وعدلوا عنه، والضالين- وهم أهلُ فسادِ العلم الذين جَهِلوا الحقَّ ولم يعرفوه. وحُقَّ لسورةٍ تشتمل على هذين الشِّفاءين أنْ يُستشفى بها من كلِّ مرضٍ.
وأمَّا شهادة التَّجارب بذلك؛ فهي أكثر من أنْ تُذكر، وذلك في كلِّ زمان، وقد جرَّبتُ أنا من ذلك؛ في نفسي، وفي غيري أموراً عجيبة، ولا سيما مُدَّةَ المُقامِ بمكة؛ فإنه كان تَعْرِضُ لي آلامٌ مزعجة، بحيث تَكاد تَقْطَعُ الحركةَ مني، وذلك في أثناء الطوافِ وغيرِه، فأُبادِرُ إلى قراءة الفاتحة، وأمسحُ بها على مَحَلِّ الألم، فكأنه حصاةٌ تسقط، جَرَّبْتُ ذلك مِراراً عديدةً، وكنتُ آخُذُ قَدَحاً من ماء زمزم، فأقرأُ عليه الفاتحةَ مِراراً فأشْرَبُه، فأجِدُ به من النَّفع والقوة، ما لم أعْهَدْ مِثلَه في الدواء، والأمرُ أعظمُ من ذلك، ولكنْ بِحَسَبِ قوَّةِ الإيمان، وصِحَّةِ اليقين، والله المستعان"(مدارج السالكين:1/54-58).
وقال أيضاً في موضعٍ آخر: "ومَكَثْتُ بمكةَ مدة تَعتريني أدواء؛ ولا أجِدُ طبيباً ولا دواء، فكنتُ أُعالِجُ نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيراً عجيباً؛ فكنتُ أصِفُ ذلك لِمَنْ يشتكي ألَماً، وكان كثير منهم يَبرأُ سريعاً"(الجواب الكافي: ص3).
وصلوا وسلموا...
التعليقات