اقتباس
حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: هذا يطول أرأيت إن مررت بغنم فنبحك كلبها...
الناس أمام أنفسهم قسمان: قسم ملكته نفسه وقادته فهو لها عبد مطيع, ينقاد لها حيث تقوده, ويسبر وراءها حيث تمشي به, وقسم ظفر بنفسه وملكها وقهرها حتى صارت مطيعة ومنقادة له تكون حيث يضعها وتنهي عما نهاها عنه, قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 37- 41].
قال أبو بكر الصديق في وصيته لعمر -رضي الله عنه-ما- حين استخلفه: "إنَّ أوَّل ما أحذِّرُكَ نفسك التي بين جنبيك"(جامع العلوم والحكم 2/23).
ويُروى من حديث سعد بن سنان، عن أنس، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قال: " ليس عدوُّك الذي إذا قتلك أدخلك الجنة، وإذا قتلته كان لك نوراً، أعدى عدوِّك نفسك التي بين جنبيك "(أخرجه: الطبراني في " الكبير 3445 من حديث أبي مالك الأشعري، مرفوعاً، وهو حديث ضعيف).
وكان الحسن يقول: "ليس عدوك الذي إن قتلته استرحت منه، ولكن عدوك نفسك التي بين جنبيك"(تهذيب الآثار, للطبري 3/160).
وقال الحسن البصري: إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجرة يمضي قدماً ما يعاتب نفسه.
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْد اللهِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: "يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، النَّاسُ غَادِيَانِ، فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، وَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا"(أخرجه أحمد 3/321(14494) والدارِمِي 2776).
قال الشاعر:
وما المرءُ إلا حيث يجعل نفسهُ *** ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل
وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر, قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)[البقرة: 207]. قال ابن الجوزي: "اعلم أنه إنما كان جهاد النفس أكبر من جهاد الأعداء لأن النفس محبوبة وما تدعو إليه محبوب لأنها لا تدعو إلا إلى ما تشتهي وموافقة المحبوب في المكروه محبوبة فكيف إذا دعا إلى محبوب فإذ عكست الحال وخولف المحبوب فيما يدعو إليه من المحبوب اشتد الجهاد وصعب الأمر بخلاف جهاد الكفار فإن الطباع تحمل على خصومة الأعداء وقال ابن المبارك في قوله تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ)[الحج: 78]؛ قال هو جهاد النفس والهوى"(ذم الهوى: 40).
وعن جابر قال: قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- قوم غزاة فقال قدمتم خير مقدم قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر مجاهدة العبد هواه"(كنز العمال 11779 البيهقي في الزهد (2/165، رقم 373)، وقال: هذا فيه ضعف. والخطيب (13/523).
وهناك آفات وعيوب كثيرة وعلل وأمراض تصيب النفس, والعاقل من يكتشف المرض قبل استفحاله والآفة قبل انتشارها فيقاومها ويقضي عليها، ومن الآفات والأمراض والعلل التي تصيب النفوس:
1- الفتور في الطاعة:
فالنفس تنزع دائما إلى كل ممنوع, فتذهب إلى المعاصي وتظن فيها السعادة والمتعة, وتفتر عن الطاعات والعبادات, قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا)[الكهف: 103-106].
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قال: قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فَمَنْ كَانَتْ شِرَّتُهُ إِلَى سُنَّتِي، فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ"(أخرجه أحمد 2/158(6477) والبُخَارِي 3/52(1978) والنَّسائي 4/209، وفي الكبرى 2709).
قال أبو حامد الخُلْقاني: قلت لأحمد بن حنبل: ما تقول في القصائد؟ فقال: في مثل ماذا. قلت: مثل ما تقول:
إذا ما قال لي ربِّي: * * * أما استحييت تعصيني
وتُخفي الذنب من غيري * * * وبالعصيان تأتيني؟
فما قولي له لما * * * يعاتبني ويقصيني؟
قال: فرد الباب وأخذ يبكي ويرددها. (تلبيس إبليس لابن الجوزي/218).
2- الغفلة والتسويف:
قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)[النساء: 117-118].
وعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَزْنِى الْعَبْدُ حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَقْتُلُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ. فَقُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ يُنْزَعُ الإِيمَانُ مِنْهُ قَالَ هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا فَإِنْ تَابَ عَادَ إِلَيْهِ هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ"(أخرجه البخاري 8/197(6782).
3- التعلق بالدنيا ونسيان الآخرة:
قال تعالى: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ)[القيامة: 20-21], وقال سبحانه: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الأعلى: 16-17].
وعن أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: هَجَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- نِسَاءَهُ - قَالَ شُعْبَةُ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: شَهْرًا - فَأَتَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ فِي غُرْفَةٍ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ الْحَصِيرُ بِظَهْرِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كِسْرَى يَشْرَبُونَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنْتَ هَكَذَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّهُمْ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا"(خرجه أحمد 2/298(7950).
وفي الزهد لابن المبارك: حدثنا معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قدم عمر -رضي الله عنه- الشام، فتلقاه الأمراء والعظماء، فقال: أين أخي أبو عبيدة؟ قالوا: يأتيك الآن، قال: فجاء على ناقةٍ مخطومةٍ بحبل، فسلَّم عليه، ثم قال للناس: انصرفوا عنا. فسار معه حتى أتى منزله، فنزل عليه، فلم يَرَ في بيته إلاّ سيفَه وتُرسَه ورحْلَه، فقال له عمر: لو اتخذتَ متاعًا، أو قال شيئًا، فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا سيبلغنا المقيل.(راجع: سير أعلام النبلاء (1/16).
4- الطمع وقلة الرضا:
فمن الآفات والأمراض القاتلة للنفس الطمع وقلة الرضا, قال تعالى: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى), وقال: (وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)[النحل: 52-53].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ"(أخرجه أحمد (2/310، رقم 8081)، والترمذي (4/551، رقم 2305) الألباني في السلسلة الصحيحة 2 / 637).
قال أبو فراس:
إن الغني هو الغني بنفسه * * * ولو أنه عاري المناكب حاف
ما كل ما فوق البسيطة كافيا * * * وإذا قنعت فبعض شيء كاف
وقال آخر:
النفس تجزع أن تكون فقيرة * * * والفقر خير من غناً يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت* * * فجميع ما في الأرض لا يكفيها
5- الكبر والحسد:
قال الله -تعالى-: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)، (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء:87-89].
عَن عَبْداللهِ بن مسعود -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ" أخرجه أحمد 1/412(3913و"مسلم" 1/65(179) وأبو داود 4091 وابن ماجة ( 59 و4173).
وعَنْ ضَمُرَةَ بن ثَعْلَبَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَتَحَاسَدُوا"(أخرجه الطبراني (8/309، رقم 8157). قال الهيثمي (8/78): رجاله ثقات, السلسلة الصحيحة 9/172).
قال الشافعي:
لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ *** أَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ
إنِّي أُحَيِّي عَدُوِّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ *** لِأَدْفَعَ الشَّرَّ عَنِّي بِالتَّحِيَّاتِ
وَأُظْهِرُ الْبِشْرَ لِلْإِنْسَانِ أَبْغَضُهُ * ** كَأَنَّمَا قَدْ حَشَى قَلْبِي مَحَبَّاتِ
النَّاسُ دَاءٌ دَوَاءُ النَّاسِ قُرْبُهُمْ * ** وَفِي اعْتِزَالِهِمْ قَطْعُ الْمَوَدَّاتِ
وقال فرقد السبخي قال قرأت في التوراة فوجدت أمهات الخطايا ثلاث أول ذنب عصى الله به الكبر والحسد والحرص فاستل من هؤلاء الثلاث ست فصاروا تسعا الشبع والنوم والراحة وحب المال وحب الجماع وحب الرياسة(حلية الأولياء 3/45).
6- الاشتغال بعيوب الناس:
فمن عيوب النفس اشتغالها بعيوب الناس عما بها من عيوب. قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
وعَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ "يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ".
قَالَ وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْبَيْتِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ"(أَخْرَجَهُ الترمذي (2032).
قال الشافعي:
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى * * * وحظك موفورٌ وعرضك صيّنُ
لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ * * * فكلك عورات وللناس ألسنُ
وعينُك إن أبدت إليك معايباً * * * لقوم فقل يا عين للناس أعينُ
فصاحب بمعروف وسامح من اعتدى * * * وفارق ولكن بالتي هي أحسنُ
وتزكية النفس يكون بتطهيرها من الفساد الذي يخالط النفوس، وتنميتها بالخيرات والبركات، ويتحقق ذلك كله بفعل الخيرات وترك المنكرات والإيمان بالله.
والنفس الزكية التي تطهرت وفق شرع الله هي النفس الطيبة التي تستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة، قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس: 7-10].
يقول ابن كثير -رحمه الله-: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) يحتمل أن يكون المعنى: قد أفلح من زكى نفسه، أي: بطاعة الله -كما قال قتادة-وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل. ويُروَى نحوه عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير, ودساها أي: دسسها، أي: أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهُدَى، حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله -عز وجل-.
وقد يحتمل أن يكون المعنى: قد أفلح من زكى الله نفسه، وقد خاب من دَسَّى الله نفسه، كما قال العوفي وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. (انظر: تفسير ابن كثير 8/412).
وتزكية النفس سبب للفلاح والنجاح, قال سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)[الأعلى: 14-15].
وتزكية النفس سبب الفوز بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، قال -عز وجل-: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى)[طه: 75-76].
قال الشاعر:
يا متعب الجسم كم تسعى لخدمته *** أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها *** فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
فالعاقل هو من يغدو إلى تزكية نفسه وتطهيرها من المعايب والشوائب، قال البوصيري:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على **** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
وجاهد النفس والشيطان واعصهما **** وإن هما محضاك النصح فاتهم
ووسائل تزكية النفس وإصلاحها كثيرة ومتنوعة منها:
1- الخوف من الله -تعالى-:
قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)[آل عمران: 135-136].
قالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الإِحْسَانُ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّكَ إِنْ لاَ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. أخرجه أحمد 1/28(191) و(البخاري) في خلق أفعال العباد 26 ومسلم 1/28).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "ثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ، وَثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ، فَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ: فَتَقْوَى اللهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَوْلُ بِالْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالسُّخْطِ، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَأَمَّا الْمُهْلِكَاتِ: فَهَوًى مُتَّبِعٌ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، وَهِيَ أَشَدُّهُنَّ"(البيهقي: شعب الإيمان 9/396. الألباني في السلسلة الصحيحة 4 / 413).
وكان توبة بن الصمة محاسبًا لنفسه، فحاسبها يوما فرأى أن عمره قد بلغ ستين سنة، فحسب أيامها، فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: "يا ويلت! ألقى الله بواحد وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟"، ثم خرّ مغشيا عليه، فحرّكوه فإذا هو ميت، فسمعوا قائلا يقول: "يا لها من ركضة إلى الفردوس الأعلى"( إحياء علوم الدين 4 / 406).
2-التوبة والإنابة:
قال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[النساء: 110-112].
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ ؛ جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقَالَ: وَيْحَكَ، ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: وَيْحَكَ، ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟ فَقَالَ: مِنَ الزِّنَا، فَسَأَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَبِهِ جُنُونٌ؟ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، فَقَالَ: أَشَرِبَ خَمْرًا؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَزَنَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ، قَائِلٌ يَقُولُ: لَقَدْ هَلَكَ، لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتُلْنِي بِالْحِجَارَةِ، قَالَ: فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ، أَوْ ثَلاَثَةً، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُمْ جُلُوسٌ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ ابْنِ مَالِكٍ، قَالَ: فَقَالُوا: غَفَرَ اللهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ. قَالَ: ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ، مِنَ الأَزْدِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقَالَ: وَيْحَكِ، ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِي كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: وَمَا ذَاكِ؟ قَالَتْ: إِنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، فَقَالَ: آنْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهَا: حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ، قَالَ: فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، حَتَّى وَضَعَتْ، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: قَدْ وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ، فَقَالَ: إِذًا لاَ نَرْجُمَهَا وَنَدَعَ وَلَدَهَا صَغِيرًا، لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللهِ، قَالَ: فَرَجَمَهَا"(أخرجه مُسْلم 5/118(4450) وأبو داود 4433 والنَّسائي، في الكبرى 7125 و7148).
قال الشاعر:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة * * * والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها * * * إن الذي خلق الظلام يراني
3-حسن العبادة والتبتل:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)[الحشر: 18-20].
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الأَسْلَمِيُّ، قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: سَلْ، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ"(أخرجه مُسْلم 2/52(1029).
عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُول: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-:قَالَ اللهُ، -عز وجل-: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَمَنْ جَاءَنِي يَمْشِي جِئْتُهُ مُهَرْوِلاً"(أخرجه أحمد 2/251(7416) والبُخاري 7405 ومسلم 6902).
يروى أن بشراً الحافي مر على بيت فسمع فيه صوت الدفوف, والمزامير, والغناء! فقرع الباب، فخرجت إليه امرأة, قال لها: من صاحب هذا البيت؟ قالت: ماذا تريد منه؟ قال: أريد أن أعلم أعبد هو أم حر؟ قالت: لا بل هو حر, قال لها: أخبريه بأن بشراً الحافي يقول لك: إن كنت حراً فاصنع ما شئت, وإن كنت عبداً فلا تتصرف إلا بإذن سيدك. فضحكت المرأة وذهبت للرجل، وقالت: في الباب رجل مخبول! يقول: كذا وكذا, قال: كلا والله! هذا هو عين العقل، صدق, أنا عبد ولست حراً, أنا عبد لله -عز وجل-, وما عندي من مال ومتاع, لا يجوز لي أن أتصرف فيه إلا بإذن سيدي وهو الله -تعالى-, فتاب إلى الله -تعالى-، وكسر مزاميره, وطنابيره, وأقلع عما كان يفعله وأقبل على العبادة.
4-حب الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-:
قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التوبة: 111].
عَنْ أَبِي عَقِيلٍ، زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ هِشَامٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، إِلاَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ، فَقَالَ لَه عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: الآنَ يَا عُمَرُ"(أخرجه أحمد 4/233(18211) والبخاري( 5/16(3694).
لما وضع خبيب بن عدي على الخشبة ليصلب قال لكفار قريش: إن شئتم أن تتركوني أركع ركعتين قبل مصرعي فافعلوا، ثم نظر إليه وهو يستقبل الكعبة ويصلي ركعتين يا لحسنيهما ويا لتمامهما ثم رآه وهو يقبل على زعماء القوم ويقول: والله لولا أن تظنوا أني أطلت الصلاة جزعا من الموت لاستكثرت من الصلاة، ثم شهد سعيد قومه وهم يمثلون بخبيب وهم يقولون له: أتحب أن يكون محمد مكانك وأنت ناج، فيقول والدماء تنزف منه، والله ما أحب أن أكون آمنا وادعا في أهلي وولدي، وأن محمدا يوخز بشوكة, ثم أنشد:
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا * * * عَلَى أَيّ شِقّ كَانَ فِي اللّهِ مَضْجَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ * * * يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزّعِ
فَلَسْتُ بِمُبْدٍ لِلْعَدُوّ تَخَشّعًا * * * وَلَا جَزَعًا إنّي إلَى اللّهِ مَرْجِعِي
5-الرضا بما قسم الله -تعالى-:
قال تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)[الطلاق: 1].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ"(أخرجه أحمد 2/389(9050) والبُخاري 8/118(6446).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَة"(أخرجه أحمد 2/287(7846) والبُخاري في الأدب المفرد (494) والتِّرمِذي 2399).
أغارت الروم على جواميس لبشير الطبري نحوا من أربعمائة جاموس فركبت معه أنا وابن له فلقينا عبيده الذين كانت معهم الجواميس معهم عصيهم فقالوا يا مولانا ذهبت الجواميس فقال وأنتم أيضا فاذهبوا معهم فأنتم أحرار لوجه الله فقال له ابنه يا أبت أفقرتنا قال اسكت يا بني إن ربي اختبرني فأحببت أن أزيده(حلية الأولياء 10 / 130).
6-مقاومة وساوس الشيطان:
وقال تعالى: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)[سبأ: 50].
وعَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لاِبْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ، وَدِينَ آبَائِكَ، وَآبَاءِ أَبِيكَ؟! فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ؟! وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِى الطِّوَلِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ، فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ، فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ؟! فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ، -عز وجل-، أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ، -عز وجل-، أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ"(أخرجه أحمد 3/483(16054) والنَّسائي 6/21، وفي الكبرى4327).
روى: أنّ رجلاً تزوّج امرأة من بلدة، وكان بينهما مسيرة شهر، فأرسل إلى غلام له من تلك البلدة ليحملها إليه فسار بها يوماً، فلما جنّه الليل أتاه الشيطان فقال له: إنّ بينك وبين زوجها مسيرة شهر فلو تمتعت بها ليالي هذا الشهر إلى أن تصل إلى زوجها، فإنها لا تكره ذلك وتثني عليك عند سيدك فتكون أحظى لك عنده، فقام الغلام يصلي فقال: يا رب، إنّ عدوك هذا جاءني فسوّل لي معصيتك، وإنه لا طاقة لي به في مدة شهر وأنا أستعيذك عليه يا رب فأعذني عليه، واكفني مؤونته، فلم تزل نفسه تراوده ليلته أجمع وهو يجاهدها حتى أسحر فشّد على دابة المرأة وحملها وسار بها، قال: فرحمه الله -تعالى-، فطوى له مسيرة شهر فما برق الفجر حتى أشرف على مدينة مولاه، قال: وشكر الله -تعالى- له هربه إليه من معصيته فنبأه، فكان نبيّاً من أنبياء بني إسرائيل(قوت القلوب 2/235).
يقول الشاعر:
ففي قمع أهواء النفوس اعتزازها * * * وفي نيلها ما تشتهي ذلُّ سرمدِ
فلا تشتغل إلا بما يكسب العلا ولا * * * ترضَ للنفس النفيسة بالرَّدِي
7- مقاومة هوى النفس:
قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)[النساء: 49-50].
وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ الْهَاشِمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ: مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ؟ أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ، وَإِذَا أَمْسَيْتِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ(أخرجه النَّسَائِي، في عمل اليوم والليلة570).
حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: هذا يطول أرأيت إن مررت بغنم فنبحك كلبها أو منعك من العبور ما تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهدي. قال: هذا يطول عليك، ولكن استعن بصاحب الغنم يكفه عنك -إن صدقت هذه الرواية- لم يكن تاركاً الدنيا كسباً، بل قلباً(ابن الجوزي: تلبيس إبليس 35).
8-طلب العلم النافع:
من سبل تزكية النفس وإصلاحها طلب العلم النافع والمفيد, فبالعلم تزكو النفوس وتسمو قال تعالى: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)[القيامة: 14-15].
وفي سنن الترمذي ومستدرك الحاكم عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ أنه قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ "هَذَا أَوَانٌ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لاَ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيء" فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الأَنْصَارِي كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِى عَنْهُمْ" قَالَ جُبَيْرٌ فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قُلْتُ: أَلاَ تَسْمَعُ إِلَى مَا يَقُولُ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ قَالَ: صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِنْ شِئْتَ لأُحَدِّثَنَّكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الْخُشُوعُ يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَلاَ تَرَى فِيهِ رَجُلاً خَاشِعًا(الحديث صحيح كما في صحيح الجامع 6990).
وقال الإمام علي -رضي الله عنه-:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم * * * على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه * * * والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حيا به أبدا * * * الناس موتى وأهل العلم أحياء
قال هشام بن عمار رحمه الله: باع أبي بيتاً بعشرين ديناراً وجهزني للحج فلما وصلت المدينة أتيت مجلس الإمام مالك رحمه الله وهو جالس في مجلسه في هيئة الملوك والناس يسألونه وهو يجيبهم فلما حان دوري قلت له: حدثني فقال لا، بل اقرأ أنت فقلت لا بل حدثني، فلما راددته وجادلته غضب وقال: يا غلام تعال أذهب بهذا فاضربه خمسة عشر، قال: فذهب بي فضربني ثم ردني إلى مالك فقلت: قد ظلمتني فإن أبي باع منزله وأرسلني إليك أتشرف بالسماع منك وطلب العلم على يديك، فضربتني خمسة عشر دُرّة بغير جرم، لا أجعلك في حل، فقال مالك، فما كفارة هذا الظلم؟ فقلت كفارته أن تُحدثني بخمسة عشر حديثاً، فقال هشام: فحدثني مالك بخمسة عشر حديثاً فلما انتهى منها قلت له: زد في الضرب وزد في الحديث، فضحك مالك وقال لي: اذهب وانصرف) من كتاب معرفة القراء الكبار للذهبي(1/196).
عن مالك، أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال: "يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الله الأرض الميتة بوابل السماء"(أخرجه مالك في: الموطأ رقم (1821).
9-الحرص على أعمال الخير والبر:
الحرص على أعمال الخير والبر مما يزكي النفس ويطهرها وينزع منها الأثرة والأنانية وحب الذات, قال تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[النحل: 111].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ عِنْدَهُ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الإِيمَانُ بِاللهِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَالَ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: أَغْلاَهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ؟ قَالَ: فَتُعِينُ ضَائِعًا، أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ ذَاكَ؟ قَالَ: فَاحْبِسْ نَفْسَكَ عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهُ صَدَقَةٌ حَسَنَةٌ تَصَدَّقْتَ بِهَا عَنْ نَفْسِكَ"(أخرجه أحمد 2/388(9026) والبُخاري في خلق أفعال العباد 21).
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، تَنْطُِفُ لِحْيَتُهُ مَاءً مِنْ وَضُوئِهِ، مُعَلِّقٌ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ مَرْتَبَتِهِ الأُولَى، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ مَرْتَبَتِهِ الأُولَى، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالَ: إِنِّي لاَحَيْتُ أَبِي، فَأَقْسَمْتُ أَنْ لاَ أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلاَثَ لَيَالٍ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَحِلَّ يَمِينِي فَعَلْتَ، فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يُحَدِّثُ: أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ لَيْلَةً، أَوْ ثَلاَثَ لَيَالٍ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ بِشَيْءٍ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا انْقَلَبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللهَ وَكَبَّرَ، حَتَّى يَقُومَ لِصَلاَةِ الْفَجْرِ، فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: غَيْرَ أَنِّي لاَ أَسْمَعُهُ يَقُولُ إِلاَّ خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ الثَلاَثُ لَيَالٍ كِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلَهُ، قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ، إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي غَضَبٌ وَلاَ هَجْرَةٌ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ لَكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فِي ثَلاَثِ مَجَالِسَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعْتَ أَنْتَ تِلْكَ الثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَأَرَدْتُ آوِي إِلَيْكَ، فَأَنْظُرَ عَمَلَكَ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَبِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ، فَانْصَرَفْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لاَ أَجِدُ فِي نَفْسِي غِلاًّ لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ أَحْسُدُهُ عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لاَ نُطِيقُ"(أخرجه أحمد 3/166(12727) والنَّسائي، في عمل اليوم والليلة 863).
10-البعد عن الكبر والغرور والعجب:
تزكية النفس، ومدحها وهو ثمرة مُرة فاسدة للعجب بالنفس والكبر فالعجب في القلب والفكر وتزكية النفس على اللسان، قال تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)[النجم: 32]، وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلا)[النساء: 49].
مر بعض أولاد المهلب بمالك بن دينار وهو يتبختر في مشيته، ومعه أشياعه وأنصاره فقال له مالك: يا بني لو تركت هذا الخيلاء لكان أجمل، فقال أوما تعرفني؟ قال: أعرفك معرفة جيدة، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة. فأرخى الفتى رأسه وكف عما كان عليه.
وقال الأحنف: عجبت لمن جرى في مجرى البول مرتين كيف يتكبر. وقال ابن عوف -رحمه الله-:
عَجِبْتُ مِنْ مُعْجَبٍ بِصُورَتِهِ * * * وَكَانَ بِالأمْسِ نُطْفَةً مَذِرَهْ
وَفِي غَدٍ بَعْدَ حُسْنِ صُورَتِهِ * * * يَصِيرُ فِي اللَّحْدِ جِيفَةً قَذِرَهْ
وَهُوَ عَلَى تِيهِهِ وَنَخْوَتِهِ * * * مَا بَيْنَ ثَوْبَيْهِ يَحْمِلُ الْعَذِرَهْ
11-تذكر الموت والحساب:
قال تعالى: "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)[الفجر27-30].
روى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بن مالك -رضي الله عنه- قَالَ: " كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي جِنَازَةٍ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْقَبْرِ جَثَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْقَبْرِ، قَالَ: فَاسْتَدَرْتُ فَاسْتَقْبَلْتُهُ، قَالَ: فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانِي, لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ، فَأَعِدُّوا"(أخرجه أحمد 4/294(18802) و"ابن ماجة" 4195, الألباني: حسن، الصحيحة (1751).
عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضى الله عنهما- قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِبَعْضِ جَسَدِي فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ كُنْ في الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ كَأَنَّكَ عَابِرُ سَبِيلٍ وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ. فَقَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالْمَسَاءِ وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالصَّبَاحِ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ غَدًا"(أَخْرَجَهُ أحمد 2/24(4764) والبُخَاريّ8/110(6416).
وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى ربك عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ مَن الموت طالبه.. والقبر بيته.. والتراب فراشه.. والدود أنيسه.. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر.. كي يكون حاله؟ ثم يبكي -رحمه الله-.
وكان الربيع بن خثيم قد حفر في داره قبرًا، فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فاضطجع، ومكث ما شاء الله، ثم يقول: (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون: 99-100] يرددها، ثم يرد على نفسه: يا ربيع! قد رجعتَ فاعمل.
رأيتُ الدهرَ مُختلفاً يدور * * * فلا حُزن يدوم ولا سرور
وقد بنت الملوكُ بهِ قصوراً * * * فلم تبقَ الملوك ولا القصور
12-عدم تكليف النفس ما لا تطيق:
قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق:16-19].
فمن تكليف النفس ما لا تطيق تعريضها للبلاء والفتن, عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ. قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلاَءِ لِمَا لاَ يُطِيقُهُ"(أخرجه أحمد 5/405(23837. وابن ماجة (4016) والتِّرْمِذِيّ2254).
رزقنا الله وإياكم تزكية النفس وأنزلنا معارج القدس, وأزال عنا الفتن والشبهات واللبس, وجعلنا ممن يقولون فيفعلون, ويفعلون فيخلصون, ويخلصون فيقبلون.
المصدر/ إحسان
التعليقات