عناصر الخطبة
1/الكسوف والخسوف رسالة تحذيرية 2/التحذير من المعاصي وخاصة الزنا 3/بعض المسائل الشرعية في الخسوف والكسوف 4/الله نور السماوات والأرضاقتباس
إن الله يُمهِلُنا ويُذكِّرُنا حتى لا يأخذَنا على حين غِرَّة، وذلك يدعونا لأن نصحِّحَ واقعَنا، ونتوبَ من ذنوبِنا، ولنَفزعْ ولْنلجأْ إلى مساجدِ الله؛ للصلاةِ والدعاءِ والاستغفارِ، وأن نتصدقَ لندفعَ البلاءَ، فأسبابُ البلاءِ عند حدوثِ الكسوفِ قد انعقدتْ، وإنَّ الفَزعَ إلى الصلاةِ، والصدقةِ، والدعاءِ، والاستغفارِ، والتعوذَ من القبرِ والنارِ يدفعُ البلاء....
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي أظهرَ لعبادهِ من آياتِه دليلًا، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، المتفردُ بالخلقِ والتدبيرِ جملةً وتفصيلًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أصدقُ الخلقِ قِيلًا، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبهِ والتابعين لهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا.
أما بعد: فاليومَ ستُرسَل لكلِّ واحدٍ منا رسالةٌ تحذيريةٌ، رسالةٌ سنقرؤها الليلةَ ونراها، وستَعِيَها أذنٌ واعية!! إنها رسالةٌ مخيفةٌ من الملِك! ثم ستُعادُ الرسالةُ مرةً أخرى بعد أسبوعين، فما بالُنا عنهما معْرِضين؟!
إنها حادثةُ خسوفِ القمرِ التي ستكونُ هذهِ الليلةَ -والعلمُ عند الله-، في حادثةٍ لم تتكررْ بهذا الطُّولِ منذُ ثلاثٍ وثمانين سنة، فلنَحذرْ أن نكونَ كالذينَ قالَ اللهُ عنهمْ: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)[يُوسُفَ: 105].
فيا أمةَ محمدٍ: إننا بهذا اليومِ نتذكرُ يومَ القيامةِ لأمرينِ مجتمِعَين: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)[الْقِيَامَةِ:7- 9]، والقيامةُ لا تقومُ إلا يومَ الجمعةِ.
ويا أمةَ محمدٍ: إن خسوفَ القمرِ حدثٌ عظيمٌ مخيفٌ، وأكبرُ شاهدٍ ما حصلَ لأعلمِ الناسِ بربِّه، وأتقاهُم، وأخشاهُم له، إنه رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، حيث فزِعَ للصلاةِ، ومن شدَّة فزَعِه وخوفِه خرجَ للمسجدِ وهو يجرُّ دِرعًا لبعضِ نسائهِ؛ لانشغالِ بالِه بالتوجهِ إلى الله في تلكَ الحالِ المَهولة، حتَّى أدركَه بعضُ أهلِه بردائهِ. ثم خَطَبَ خُطبةً بليغةً مخيفة.
ومن اللفتات المخيفاتِ فِي خُطْبَةِ الْكُسُوفِ قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! مَا أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ" (الجواب الكافي لابن القيم (ص: 66)). فجمعَ صلى الله عليه وسلم بين ظُلمة القلبِ بالزنا، وبين ظُلمةِ الوجودِ بكسوفِ الشمسِ، وذكَرَ أحدَهما مع الآخر. (روضة المحبين لابن القيم (ص: 295)). "وَظُهُورُ الزِّنَا مِنْ أَمَارَاتِ خَرَابِ الْعَالَمِ، وَهُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- في خَلْقِهِ أَنَّهُ عِنْدَ ظُهُورِ الزِّنَا يَغْضَبُ اللَّهُ -تَعَالَى- وَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ غَضَبُهُ فِي الْأَرْضِ عُقُوبَةً" (الجواب الكافي لابن القيم (ص: 163)).
"والْكُسُوفَ مَظِنَّةُ حُدُوثِ عَذَابٍ بِأَهْلِ الْأَرْضِ..." (مجموع الفتاوى (17/535))، وهذا يُستفادُ من قولِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّهُمَا آيَتَانِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ"، (الفتاوى لابن تيمية (17/ 534)، ومفتاح دار السعادة لابن القيم (2/ 209)). ولولا أن الكسوفَ والخسوفَ قد يكونان سَببَيْ عذابٍ لم يَصِحَّ التخويفُ بهما. (المسائل والأجوبة لابن تيمية (ص: 205)).
ولقد زُلزلت المدينةُ على عهدِ عمرَ حتى اصطفقَتِ السُّرُر، فخطبَ الناسَ فقال: لئن عادتْ لأَخرُجنَّ من بين ظهرانَيكم. (مصنف ابن أبي شيبة (2/221)). ولما رَجَفتِ الكوفةُ على عهدِ ابنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: "يا أيُّها الناسُ، إن ربَّكم يَستعتِبُكم؛ فأعْتِبوه" (تفسير الطبري (17/478)).
فإن قيل: كيفَ نُصاب بذنوبِنا، وأممُ الكفرِ أشدُّ منا طغيانًا؟! فيقال: ألمْ يخُاطبِ اللهُ نبيَّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ومعه صفوةُ الأمةِ حين حصلَ التقصيرُ مرةً واحدة؟ وذلك يومَ أحد: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)[آلِ عِمْرَانَ: 165].
عبادَ الله: إن الله يُمهِلُنا ويُذكِّرُنا حتى لا يأخذَنا على حين غِرَّة، وذلك يدعونا لأن نصحِّحَ واقعَنا، ونتوبَ من ذنوبِنا، ولنَفزعْ ولْنلجأْ إلى مساجدِ الله؛ للصلاةِ والدعاءِ والاستغفارِ، وأن نتصدقَ لندفعَ البلاءَ، فأسبابُ البلاءِ عند حدوثِ الكسوفِ قد انعقدتْ، وإنَّ الفَزعَ إلى الصلاةِ، والصدقةِ، والدعاءِ، والاستغفارِ، والتعوذَ من القبرِ والنارِ يدفعُ البلاء.
ولقد كثُر الكسوفُ في هذا العصرِ، فلا تكادُ تمضي السنةُ حتى يَحدثَ كسوفٌ مرةً أو مرتين، بل سيقعُ في هذا الشهرِ مرتين، وكلُّ ذلك سببُه كثرةُ المعاصي والفتنِ، ولقد نسيْنا الآخرةَ، وأَترَفْنا أبدانَنا، وأَتلفْنا أديانَنا: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 1].
ثمةَ مسائلُ شرعيةٌ وفلكيةٌ في الكسوفِ، وقد خاضَ فيها بعضُ الجُهال فخبَطوا وخلَّطوا، وقد بيَّنها الراسخونَ في العلمِ والإيمانِ أيَّما بيانٍ. فإليكمْ أربعَ نقاطٍ منهن:
1- ركوعُ صلاةِ الكسوفِ وسجودُها يكونُ بقَدْرِ النِّصفِ من قيامها (اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (1/ 312)).
2- إذَا تَوَاطَأَ خَبَرُ أَهْلِ الْحِسَابِ عَلَى الكسوف فَلَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ (مجموع الفتاوى (24/258)).
3- لَا يَكُونُ كُسُوفُ الشَّمْسِ إلَّا آخِرَ الشَّهْرِ، وَلَا يَكُونُ خُسُوفُ الْقَمَرِ إلَّا وَسَطَ الشَّهْرِ.
4- حسابُ الْكُسُوفِ من الْعِلْم الَّذِي لا يَضرُّ الْجَهْلُ بِهِ... وهو عِلْمٌ قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ (مجموع الفتاوى لابن تيمية (35/ 175) ومفتاح دار السعادة لابن القيم (2/ 213)).
وحين ينطفئُ نورُ القمرِ الليلةَ؛ فلنَذكُرْ نورًا ليس يماثلُه نورٌ، لِنَذْكُرْ نورًا ليس للسماءِ الدنيا، بل للسمواتِ والأرضينَ السبع، فما ذلكمُ النور؟
إنه (نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[النُّورِ: 35]، إنه ربُّنا -سبحانه- فـ: اللَّهُ سَمَّى نَفْسَهُ نُورًا، وَجَعَلَ كِتَابَهُ نُورًا، وَرَسُولَهُ -صلى الله عليه وسلم- نُورًا، وَدِينَهُ نُورًا، وَاحْتَجَبَ عَنْ خَلْقِهِ بِالنُّورِ، وَجَعَلَ دَارَ أَوْلِيَائِهِ نُورًا تَتَلَأْلَأُ، قَال تَعَالَى: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا)[الزُّمَرِ: 69]، فَهَذَا إِشْرَاقُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِنُورِهِ -سبحانه- إِذَا جَاءَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ... "فَإِذَا كَانَتْ تُشْرِقُ مِنْ نُورِهِ كَيْفَ لَا يَكُونُ هُوَ نُورًا؟" (مجموع الفتاوى (6/392)).
قَال صلى الله عليه وسلم عن ربه: "... حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ". قَال ابْنِ مَسْعُودٍ: "إنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، نُورُ السَّمَوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ...".
قَالَ تَعَالَى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[النُّورِ: 35])، ثم قال:(يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)[النُّورِ: 35]، فَبِنُورِهِ اهْتَدَى أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ... وَالْمُؤْمِنُ عَمَلُهُ نُورٌ، وَقَوْلُهُ نُورٌ، وَمُدْخَلُهُ نُورٌ، وَمُخْرَجُهُ نُورٌ، وَقَصْدُهُ نُورٌ، يَتَقَلَّبُ فِي النُّورِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ. (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى 2/592)). "يُشْرِقُ بنوره، فلا يُحْرِقُ ولا يحتَرِقُ، فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ: إشْرَاقٌ بِلَا إحْرَاقٍ، كَالْقَمَرِ. وَإحْرَاقٌ بِلَا إشْرَاقٍ، كالنَّارُ الْمُظْلِمَةُ. وَنَارٌ وَنُورٌ، كَالشَّمْسِ". (مجموع الفتاوى 6/387)).
وتأملوا قولَه -تعالى- في حقِّ المنافقين: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ)[الْبَقَرَةِ: 17]، فقد قال: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)[الْبَقَرَةِ: 17]، ولم يقُلْ: بنارِهِم؛ لأن النارَ فيها الإحراقُ... فإذا كان يومُ القيامةِ برَزَ ذلك النورُ، وصار بإيمانهم يَسعى بين أيديهم في ظُلمةِ الجِسرِْ، حتى يَقطعوه... فمنهم مَن نورُه كالشمسِ، وآخَرُ كالقمرِ، وآخَرُ كالنجومِ، وآخَرُ كالسراجِ، وآخَرُ يُعطَى نورًا على إبهامِ قَدَمه، يُضيءُ مرةً ويُطفأُ أخرى. (الوابل الصيب من الكلم الطيب ص: 52).
فيا مُنَوِّرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ نوِّر لنا حياتَنا، وقبورَنا، وصراطَنا.
يا مَن إذا شاءَ فعل، ولا يُسأل عما يفعلُ. ولا يُبْرمه سؤال مَن سأل.
إلهَنا: أنت المبتدئُ بالنوال قبل السؤال، والمعطي من الإفضال فوقَ الآمال، وإنا لا نرجو إلا غفرانَك، ولا نطلبُ إلا إحسانَك.
إلهَنا: قد وجدناك رحيمًا فكيف لا نرجوك، ووجدناك ناصرًا فكيف لا ندعوك.
اللهم يا كاشفَ الظلمات، ومفرِّجَ الكربات، وغافرَ الخطيئات، وساترَ العورات، وقاضيَ الحاجات، ومجيبَ الدعوات، ورفيعَ الدرجات، وإلهَ الأرض والسموات:
اللهم إنا نعوذ بك من زوالِ نعمتِك، وتحولِ عافيتِك، وفُجاءةِ نِقمتِك، وجميعِ سخطِك.
اللهم إنا نشكو إليك ضعفَ قوتِنا وقلةَ حيلتِنا، أنت ربُّنا وربُّ المستضعفين، نعوذُ بنور وجهِك الذي أشرقتْ له الظلمات، وصلُح عليه أمرُ الدنيا والآخرة: أن يَنزلَ بنا غضبُك، أو يَحلَّ بنا سخطُك، ولا حولَ ولا قوةَ إلَّا بك.
اللهم وحسِّنْ أخلاقَنا، وطهرْ سرائرَنا، وآمنْ أوطانَنا، وطيبْ أقواتَنا، ووفقْ ولاتَنا، وارحمْ أمواتَنا، واجمعْ على الهدى شؤونَنا، واقضِ ديونَنا، وأرخصْ أسعارَنا.
التعليقات